237- وإذا طلقتم النساء قبل الدخول بهنَّ بعد تقدير مهورهن ، فقد وجب لهن نصف المهر المقدر ويدفع إليهن ، إلا إذا تنازلت عنه الزوجة ، كما أنَّهُنَّ لا يعطين أكثر من النصف إلا إذا سمحت نفس الزوج فأعطاها المهر كله ، وسماحة كل من الزوجين أكرم وأرضى عند الله وأليق بأهل التقوى فلا تتركوها ، واذكروا أن الخير في التفضل وحسن المعاملة ، لأن ذلك أجلب للمودة والتحاب بين الناس ، والله مطلع على ضمائركم وسيجازيكم على ما تتفضلون .
قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } . هذا في المطلقة بعد الفرض قبل المسيس فلها نصف المفروض ، وإن مات أحدهما قبل المسيس فلها كمال المهر المفروض ، والمراد بالمس المذكور في الآية : الجماع ، واختلف أهل العلم فيما لو خلا الرجل بامرأته ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فذهب قوم إلى أنه لا يجب لها إلا نصف الصداق ، ولا عدة عليها لأن الله تعالى أوجب بالطلاق قبل المسيس نصف المهر ، ولم يوجب العدة ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ، وابن مسعود وبه قال الشافعي رحمه الله . وقال قوم : يجب لها كمال المهر ، وعليها العدة ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق ، ومثله عن زيد بن ثابت ، وحمل بعضهم قول عمر على وجوب تسليم الصداق إليها إذا سلمت نفسها ، لا على تقدير الصداق ، وقيل : هذه الآية ناسخة للآية التي في سورة الأحزاب ( فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن ) فقد كان للمطلقة قبل المسيس متاع فنسخت بهذه الآية ، وأوجب للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف المفروض ، ولا متاع لها . وقوله تعالى : ( وقد فرضتم لهن فريضة ) أي سميتم لهن مهراً ( فنصف ما فرضتم ) أي لها نصف المهر المسمى .
قوله تعالى : { إلا أن يعفون } . يعني النساء أي إلا أن تترك المرأة نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج . قوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } . اختلفوا فيه : فذهب بعضهم إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، وبه قال ابن عباس رضي الله عنه ، معناه : إلا أن تعفو المرأة بترك نصيبها إلى الزوج إن كانت ثيباً من أهل العفو ، أو يعفو وليها فيترك نصيبها إن كانت المرأة بكراً ، أو غير جائزة الأمر فيجوز عفو وليها وهو قول علقمة وعطاء والحسن والزهري وربيعة ، وذهب بعضهم إلى أنه إنما يجوز عفو الولي إذا كانت المرأة بكراً ، فإن كانت ثيباً فلا يجوز عفو وليها ، وقال بعضهم : الذي بيده النكاح هو الزوج ، وهو قول علي ، وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي والشريحي ومجاهد وقتادة ، وقالوا : لا يجوز لوليها ترك الشيء من الصداق ، بكراً كانت أو ثيباً ، كما لا يجوز له ذلك قبل الطلاق بالاتفاق ، وكما لا يجوز له أن يهب شيئاً من مالها ، وقالوا : معنى الآية إلا أن تعفو المرأة بترك نصيبها فيعود جميع الصداق إلى الزوج أو يعفو الزوج بترك نصيبه فيكون لها جميع الصداق ، فعلى هذا التأويل وجه الآية : ( الذي بيده عقدة النكاح ) ، نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق أو بعده .
قوله تعالى : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } . موضعه رفع بالابتداء أي فالعفو أقرب للتقوى ، أي إلى التقوى ، والخطاب للرجال والنساء جميعاً لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر معناه : وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى .
قوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } . أي أفضال بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو ترك المرأة نصيبها ، حثهما جميعاً على الإحسان .
ثم بين - سبحانه - حق المرأة فيما لو طلقت قبل الدخول بها وبعد تسمية مهر لها فقال - تعالى - : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } .
أي : وإن طلقتم يا معشر الرجال والنساء من قبل أن تدخلوا بهن وتباشروهن ، ومن بعد أن قدرتم لهن صداقاً معلوماً ، فالواجب عليكم في هذه الحالة أن تدفعوا لهن نصف ما قدرتم لهن من صداق ، إلا أن تتنازل المرأة عن حقها فتتركه لمطلقها بسماحة نفس ، بأن تكون هي الراغبة في الطلاق ، أو يتناول الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج عن حقه بأن يدفع لها المهر كاملا أو ما هو أكثر من النصف لأنه هو الراغب في الطلاق . وجملة { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } في موضع نصب على الحال من فاعل { طَلَّقْتُمُوهُنَّ } أو من مفعوله . أي وإن طلقتموهن حالة كونكم فارضين لهن المهر أو حالة كونهن مفروضاً لهن المهر .
والفاء في قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } واقعة في جواب الشرط ، والجملة في مجل جزم جواب الشرط ، و " نصف " مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب نصف ، أو هو مبتدأ محذوف الخبر أي فلهن نصف ، وقد صحرت الآية الكريمة بوجوب النصف ، ولم تصرح بوجوب دفعة ، لأنه قد يكون قدم لها المهر كله أو بعضه ، فكان التعبير بالوجوب بياناً للحكم حتى يسترد المطلق ما دفعه زيادة عن النصف إن أراد ذلك ، أو يكمل لها النصف إن كان قد دفع أقل منه .
وقوله : { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } استثناء مفرغ من عموم الأحوال . و { يَعْفُونَ } فعل مضارع الواو فيه لام الفعل ، ونونه ضمير جماعة الإِناث فهو هنا مبني على السكون في محل نصب بأن . ووزنه يفعلن أي : فلهن نصف المهر الذي فرضتموه لهن في كل حال إلا في حال عفو المطلقات أي إبرائهن لكم وتنازلهن عن هذا الحق ، أو في حال عفو الذي بيده عقدة النكاح ، وهو الزوج المطلق - عند الأحناف والشافعية - لأنه هو المالك لعقد النكاح وحله ، والمراد بعفوه أن يزيد على نصف المهر المقرر .
ويرى المالكية أن الذي بيده عقدة النكاح هو ولي المرأة ، لأنه هو الذي بيده عقدة النكاح ثابتة ، وأما الزوج فله ذلك حالة العقد المتقدم فقط .
ويكون المعنى على هذا الرأي : عليكم يا معشر الرجال أن تدفعوا للنساء نصف المهر إذا طلقتموهن بعد أن قدرتم لهن مهراً وقبل أن تمسوهن إلا أن يتنازل النساء عن هذا الحق ، إذا كن يملكن ذلك ، أو يتنازل أولياؤهن إن كن لا يملكن حق التنازل ، كأن تكون البنت صغيرة ، أو غير جائزة التصرف .
وقد دل كل فريق على مذهبه بما هو مبسوط في كتب الفقه .
ثم حبب - سبحانه - إلى الناس التسامح والتعاطف فقال : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
أي : من حق المرأة الملطقة على ملطقها أن يدفع لها نصف المهر إذا كان الطلاق قبل المباشرة وبعد تحديد المهر ، وإذا تنازل أحد الطرفين عن جزء من حقه لصاحبه كان هذا التنازل حسناً . لأن هذا التنازل والتسامح يضفي على جو الطلاق لوناً من المودة والتقارب بين النفوس التي آلمها الفراق بتلك الصورة ، فاحرصوا - أيها الناس - على هذا الفعو بأن يتنازل كل فريق منكم لصاحبه عن شيء من حقه ، ويتسامح معه ، فإن ذلك أقرب إلى تقوى القلوب ، وصفاء النفوس ، ولا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض بالإِحسان ، وحب الخير ، وجميل الذكر ، فالله - تعالى - بصير بأعمالكم وسيحاسبكم عليها ، وسيجازي كل نفس بما عملت .
فالجملة الكريمة توجيه حكيم للناس إلى ما يدفع عنهم التشاحن والتباغض والتخاصم خصوصاً في حالات الطلاق التي هي من أشد الأحوال دفعاً إلى هذه الرذائل .
ولقد حفظ لنا التاريخ الإِسلامي صوراً مشرقة لهذا العفو والفضل من ذلك ما ذكره الإِمام الزمخشري من أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها . ثم طلقها قبل أن يدخل بها وبعث لها المهر كاملاً . فقال له : لم تزوجتها ؟ فقال : عرضها على فكرهت رده . فقيل له : فلم بعثت بالصداق كاملا ؟ قال : فأين الفضل .
وروى أن أحد الصحابة تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها فأعطاها الصداق كاملاً ، فقيل له في ذلك فقال : أنا أحق بالعفو منها .
وهكذا نرى مبلغ استحبابة السلف الصالح لتوجيهات القرآن ووصاياه ، فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا والأحكام ؟
وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى{[4059]} حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض ، وإذا طلق الزوج قبل الدخول ، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها{[4060]} لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة{[4061]} والله أعلم .
وتشطير الصداق - والحالة هذه - أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا خلاف بينهم في ذلك ، فإنه متى كان قد سمى لها صداقًا ثم فارقها قبل دخوله بها ، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق ، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج ، وإن لم يدخل بها ، وهو مذهب الشافعي في القديم ، وبه حكم الخلفاء الراشدون ، لكن{[4062]} قال الشافعي : أخبرنا مسلم بن خالد ، أخبرنا ابن جريج ، عن ليث بن أبي سليم ، عن طاوس ، عن ابن عباس أنه قال : - في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها - ليس لها إلا نصف الصداق ؛ لأن الله يقول : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } قال الشافعي : هذا أقوى{[4063]} وهو ظاهر الكتاب .
قال البيهقي : وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج{[4064]} به ، فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس فهو يقوله{[4065]} .
وقوله : { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } أي : النساء عما وجب لها على زوجها من النصف ، فلا يجب لها عليه شيء .
قال السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } قال : إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها . قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله : وروي عن شريح ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، ومجاهد ، والشعبي ، والحسن ، ونافع ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، والزهري ، ومقاتل بن حيان ، وابن سيرين ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك . قال : وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال : { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } يعني : الرجال ، وهو قول شاذ لم يتابع عليه . انتهى كلامه .
وقوله : { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } قال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لهيعة ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال ]{[4066]} : " ولي عقدة النكاح الزوج " .
وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة ، به{[4067]} . وقد أسنده ابن جرير ، عن ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[4068]} ولم يقل : عن أبيه ، عن جده فالله أعلم .
ثم قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : وحدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا جرير ، يعني ابن حازم ، {[4069]} عن عيسى - يعني ابن عاصم - قال : سمعت شريحًا يقول : سألني علي بن طالب{[4070]}
عن الذي بيده عقدة النكاح . فقلت له : هو ولي المرأة . فقال علي : لا بل هو الزوج .
ثم قال : وفي إحدى الروايات عن ابن عباس ، وجبير بن مطعم ، وسعيد بن المسيب ، وشريح - في أحد قوليه - وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، ونافع ، ومحمد بن سيرين ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وجابر بن زيد ، وأبي مِجْلز ، والربيع بن أنس ، وإياس بن معاوية ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان : أنه الزوج .
قلت : وهذا هو الجديد من قولي{[4071]} الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة . وأصحابه ، والثوري ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، واختاره ابن جرير . ومأخذ هذا القول : أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج ، فإن بيده{[4072]} عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها ، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئًا من مال المولية للغير ، فكذلك في الصداق .
قال{[4073]} والوجه الثاني : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس - في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح - قال : ذلك أبوها أو أخوها ، أو من لا تنكح إلا بإذنه ، وروي عن علقمة ، والحسن ، وعطاء ، وطاوس ، والزهري ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، وإبراهيم النخعي ، وعكرمة في أحد قوليه ، ومحمد بن سيرين - في أحد قوليه : أنه الولي . وهذا مذهب مالك ، وقول{[4074]} الشافعي في القديم ؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه ، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها .
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : أذن الله في العفو وأمر به ، فأي امرأة عفت جاز عفوها ، فإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه .
وهذا يقتضي صحة عفو الولي ، وإن كانت رشيدة ، وهو مروي عن شريح . لكن أنكر عليه الشعبي ، فرجع عن ذلك ، وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه .
وقوله : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } قال ابن جرير : قال بعضهم : خُوطب به الرجال ، والنساء . حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس : { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } قال : أقربهما للتقوى الذي يعفو .
وكذا روي عن الشعبي وغيره ، وقال مجاهد ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، والثوري : الفضل{[4075]} هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها ، أو إتمام الرجل الصداق لها . ولهذا قال : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [ بَيْنَكُمْ ] {[4076]} } أي : الإحسان ، قاله سعيد . وقال الضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وأبو وائل : المعروف ، يعني : لا تهملوه بل استعملوه بينكم .
وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عبيد الله{[4077]} بن الوليد الوصافي ، عن عبد الله بن عبيد ، عن علي بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتينَّ على الناس زمان عَضُوض ، يَعَضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } شرار يبايعون كل مضطر ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وعن بيع الغَرَر ، فإن كان عندك خير فعُدْ به على أخيك ، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه ، فإن المسلم أخو المسلم لا يَحْزُنه{[4078]} ولا يحرمه " {[4079]} .
وقال سفيان ، عن أبي هارون قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي ، فكان عون يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول : صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هَمًّا ، حين رأيتهم أحسن ثيابًا ، وأطيب ريحًا ، وأحسن مركبًا [ منى ]{[4080]} . وجالست الفقراء فاسترحت بهم ، وقال : { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْيَدْعُ له ، رواه ابن أبي حاتم .
{ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه شيء من أموركم{[4081]} وأحوالكم ، وسيجزي كل عامل بعمله .
{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها { فنصف ما فرضتم } أي فلهن ، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن ، وهو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر وأن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها { إلا أن يعفون } أي المطلقات فلا يأخذن شيئا ، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث ، والفرق في الأول أن الواو ضمير والنون علامة الرفع والثاني لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم يؤثر فيه أن ههنا ونصب المعطوف عليه . { أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح } أي الزوج المالك لعقدة وحله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملا ، وهو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه ، وإليه ذهب بعض أصحابنا والحنفية . وقيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن وذلك إذا كانت المرأة صغيرة ، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله تعالى . { وأن تعفوا أقرب للتقوى } يؤيد الوجه الأول وعفو الزوج على وجه التخيير ظاهر وعلى الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق ، وتسميتها عفوا إما على المشالكة وإما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج ، فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه . وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو . { ولا تنسوا الفضل بينكم } أي { ولا تنسوا } أن يتفضل بعضكم على بعض . { إن الله بما تعملون بصير } لا يضيع تفضلكم وإحسانكم .
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 237 )
اختلف الناس في هذه الآية ، فقالت فرقة فيها مالك وغيره : إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع ، إذ يتناولها قوله تعالى : { ومتعوهنَّ } ، وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآية التي في الأحزاب ، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها( {[2287]} ) . وقال قتادة : نسخت هذه الآية الآية التي قبلها( {[2288]} ) . وقال ابن القاسم في المدونة : كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى { وللمطلقات متاع بالمعروف } [ البقرة : 241 ] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب ، الآية : 49 فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية ، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط ، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة بهذه الآية ، حكى ذلك في المدونة عن زيد بن أسلم زعماً . وقال ابن القاسم : إنه استثناء ، والتحرير برد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد ، لأن ابن القاسم قال : إن قوله تعالى { وللمطلقات متاع } [ البقرة : 241 ] عم الجميع ، ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس ، وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور : المتعة لكل مطلقة عموماً ، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض ، ولم يعن بالآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض ، وقرأ الجمهور «فنصفُ » بالرفع ، والمعنى فالواجب نصف ما فرضتم ، وقرأت فرقة «فنصفَ » بنصب الفاء ، المعنى فادفعوا نصف ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت «فنُصف » بضم النون في جميع القرآن ، وهي لغة ، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء ، وقوله تعالى : { إلا أن يعفون } استثناء منقطع لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن( {[2289]} ) ، و { يعفون } معناه يتركن ويصفحن ، وزنه يفعلن( {[2290]} ) ، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج ، والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها . وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين : ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها( {[2291]} ) ، وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز ، وأما التي في حجر أب وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولاً واحداً( {[2292]} ) فيما أحفظ .
واختلف الناس في المراد بقوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } فقال ابن عباس وعلقمة وطاوس ومجاهد وشريح والحسن وإبراهيم والشعبي وأبو صالح وعكرمة والزهري ومالك وغيرهم : هو الولي الذي المرأة في حجره ، فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها ، والسيد في أمته ، وأما شريح فإنه جوز عفو الأخ عن نصف المهر ، وقال وأنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن ، وكذلك قال عكرمة : يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما ، كان عماً أو أخاً أو أباً وإن كرهت( {[2293]} ) ، وقالت فرقة من العلماء : الذي بيده عقدة النكاح الزوج ، قاله علي بن أبي طالب وقاله ابن عباس أيضاً ، وشريح أيضاً رجع إليه ، وقاله سعيد ابن جبير وكثير من فقهاء الأمصار ، فعلى القول الأول : الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة فإما أن تعفو هي وإما أن يعفو وليها ، وعلى القول الثاني : فالندب في الجهتين إما أن تعفو هي عن نصفها فلا تأخذ من الزوج شيئاً ، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط فيؤدي جميع المهر ، وهذا هو الفضل منهما ، وبحسب حال الزوجين يحسن التحمل والتجمل ، ويروى أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليه بالصداق ، فقيل له : لم تزوجتها ؟ ، فقال : عرضها علي فكرهت رده ، قيل : فلم تبعث بالصداق ؟ قال : فأين الفضل ؟
قال القاضي أبو محمد رحمه الله( {[2294]} ) : ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ، بأن هذا الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها قبل الطلاق فلا فرق بعد الطلاق .
وأيضاً فإنه لايجوز له ترك شيء من مالها الذي ليس من الصداق فماله يترك نصف الصداق ؟ وأيضاً فإنه إذا قيل الولي فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض وكلهم بيده عقدة النكاح وإن كان كافلاً أو وصياً أو الحاكم أو الرجل من العشيرة ؟ ، ويحتج من يقول إنه الولي الحاجر بعبارة الآية ، لأن قوله { الذي بيده عقدة النكاح } عبارة متمكنة في الولي ، وهي في الزوج قلقة بعض القلق ، وليس الأمر في ذلك كما قال الطبري ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده بل نسبة العقدة إليه باقية من حيث كان عقدها قبل( {[2295]} ) ، وأيضاً فإن قوله { إلا أن يعفون } لا تدخل فيه من لا تملك أمرها لأنها لاعفو لها فكذلك لا يغبن النساء بعفو من يملك أمر التي لا تملك أمرها( {[2296]} ) ، وأيضاً فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد وجب في مال الزوج ، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح وعطاء الزوج المهر كاملاً لا يقال فيه عفو ، إنما هو انتداب إلى فضل( {[2297]} ) ، اللهم إلا أن تقدر المرأة قد قبضته( {[2298]} ) ، وهذا طارٍ لا يعتد به ، قال مكي : وأيضاً فقد ذكر الله الأزواج في قوله { فنصف ما فرضتم } ثم ذكر الزوجات بقوله { يعفون } ، فكيف يعبر عن الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح بل هي درجة ثالثة لم يبق لها الإ الولي .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي هذا نظر( {[2299]} ) ، وقرأ الجمهور «أو يعفوَ » بفتح الواو لأن الفعل منصوب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو يعفوْ الذي » بواو ساكنة ، قال المهدوي : ذلك على التشبيه بالألف( {[2300]} ) ، ومنه قول عامر بن الطفيل : [ الطويل ]
فما سوَّدَتْنِي عامِر عَنْ وِرَاثَةٍ . . . أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوْ بأُمٍّ ولاَ أبِ( {[2301]} )
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب ، وقد قال الخليل رحمه الله : لم يجىء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم " عفوة " وهو جمع " عفو " وهو ولد الحمار ، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها ثقيلة( {[2302]} ) ، ثم خاطب تعالى الجميع نادباً بقوله { وأن تعفوا أقرب للتقوى } أي يا جميع الناس ، وهذه قراءة الجمهور بالتاء باثنتين من فوق ، وقرأ أبو نهيك والشعبي «وأن يعفو » بالياء ، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح ، وقرأ الجمهور «ولا تنسوا الفضل » ، وقرأ علي بن أبي طالب ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولا تناسوا الفضل » ، وهي قراءة متمكنة المعنى لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه( {[2303]} ) ، وقوله تعالى { ولا تنسوا الفضل } ندب إلى المجاملة ، قال مجاهد : الفضل إتمام الزوج الصداق كله أو ترك المرأة النصف الذي لها ، وقوله { إن الله بما تعملون بصير } خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن .