تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}: من قبل الجماع. {وقد فرضتم لهن} من المهر {فريضة فنصف ما فرضتم} عليكم من المهر.
ثم استثنى، فقال: {إلا أن يعفون}: إلا أن يتركن، يعني المرأة تترك نصف مهرها، فتقول المرأة: أما إنه لم يدخل بي ولم ينظر لي إلى عورة، فتعفو عن نصف مهرها وتتركه لزوجها، وهي بالخيار... {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}: الزوج، فيوفيها المهر كله، فيقول: كانت في حبالي ومنعتها من الأزواج، فيعطيها المهر كله، وهو بالخيار.
{وأن تعفوا}: ولأن تعفوا. {أقرب للتقوى}: المرأة والزوج كلاهما أمرهما أن يأخذا بالفضل في الترك.
{ولا تنسوا}: المرأة والزوج، يقول: لا تتركوا {الفضل بينكم} في الخير حين أمرها أن تترك نصف المهر للزوج، وأمر الزوج أن يوفيها المهر كله. {إن الله بما تعملون بصير}: بصيرا أن ترك أو وفاها...
قال الله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} الآية. قال: والمَسِيسُ: الإصابة. وقال ابن عباس وشريح وغيرهما: لا عدة عليها إلا بالإصابة بعينها، لأن الله تعالى قال هكذا. قال الشافعي: وهذا ظاهر القرآن. فإن ولدت التي قال زوجها لم أدخل بها لستة أشهر أو لأكثر ما يلد له النساء من يوم عقد نكاحها لحق نسبه، وعليه المهر إذا ألزمناه الولد حكمنا عليه بأنه مصيب، ما لم تنكح زوجا غيره ويمكن أن يكون منه.
قال: ولو خلا بها فقال: لم أصبها، وقالت قد أصابني، ولا ولد، فهي مُدعية، والقول قوله مع يمينه، وإن جاءت بشاهد بإقراره أحلفتها مع شاهدها، وأعطيتها الصداق. (مختصر المزني ص: 219.) ــــــــــــ
أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب أن عمر ابن الخطاب قضى في المرأة يتزوجها الرجل: أنها إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. قال الشافعي: أخبرنا مالك...
وروي عن ابن عباس وشريح أن لا صداق إلا بالمسيس. واحتجا أو أحدهما بقول الله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} قال بهذا ناس من أهل الفقه فقالوا: لا يلتفت إلى الإغلاق، وإنما يجب المهر كاملا بالمسيس، والقول في المسيس قول الزوج. وقال غيرهم: يجب المهر بإغلاق الباب وإرخاء الستور، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وأن عمر قال: ما ذنبهن إن جاء العَجْزُ مِن قِبَلِكُمْ؟. فخالفتم ما قال ابن عباس وشريح، وما ذهبا إليه من تأويل الآيتين، وهما قول الله تبارك وتعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَالَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، وخالفتم ما رويتم عن عمر وزيد، وذلك أن نصف المهر يجب بالعقد، ونصفه الثاني بالدخول، ووجه قولهما الذي لا وجه له غيره: أنها إذا خلت بينه وبين نفسها واختلى بها، فهو كالقبض في البيوع، فقد وجب نصف المهر الآخر. ولم يذهبا إلى مسيس. وعمر يدين ثم يقضي بالمهر، وإن لم يدع المسيس لقوله: ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم. (الأم: 7/233. ون مختصر المزني ص: 184.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا الحكم من الله تعالى ذكره، إبانة عن قوله: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً". وتأويل ذلك: لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاكم إياهن، يعني بذلك: فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن.
وإنما قلنا: إن تأويل ذلك كذلك، لما قد قدمنا البيان عنه من أن قوله: "أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً"، بيان من الله تعالى ذكره لعباده حكم غير المفروض لهن إذا طلقهن قبل المسيس. فكان معلوما بذلك أن حكم اللواتي عطف عليهن ب "أو"، غير حكم المعطوف بهن بها.
وإنما كرر تعالى ذكره قوله: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة"، وقد مضى ذكرهن في قوله: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ "ليزول الشك عن سامعيه واللبس عليهم، من أن يظنوا أن التي حكمها الحكم الذي وصفه في هذه الآية، هي غير التي ابتدأ بذكرها وذكر حكمها في الآية التي قبلها.
" إِلا أَن يَعْفُونَ ": إلا أن يعفو اللواتي وجب لهن عليكم نصف تلك الفريضة، فيتركنه لكم، ويصفحن لكم عنه تفضلا منهن بذلك عليكم، إن كن ممن يجوز حكمه في ماله وهن بوالغ رشيدات، فيجوز عفوهن حينئذ ما عفون عنكم من ذلك، فيسقط عنكم ما كن عفون لكم عنه منه. وذلك النصف الذي كان وجب لهن من الفريضة بعد الطلاق، وقيل العفو إن عفت عنه أو ما عفت عنه...فجعل لها النصف ولا متاع لها، ولا عدة عليها.
" إلا أن يعفون ": تترك المرأة شطرها.
"أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ": اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله: "الذي بيده عقدة النكاح"؛
فقال بعضهم: هو ولي البكر. وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أذن الله في العفو وأمر به، فإن عفت فكما عفت، وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت.
وقال آخرون: بل الذي بيده عقدة النكاح: الزوج. قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعني بقوله: "الذي بيده عقدة النكاح ": الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب، صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها، أو وهبه له أو عفا له عنه- أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب لزوجها المطلقها بعد بينونتها منه درهما من مالها، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها، فحكمه حكم سائر أموالها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها لزوجها، قبل دخوله بها أو بعد دخوله بها: أن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل، وأن حق المرأة ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنا من كان من الأولياء، والدا كان أو جدا أو خالا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه، إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.
ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن" الذي بيده عقدة النكاح"، ولي المرأة: هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك: إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض؟ فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلا. فإن قال: إن ذلك كذلك. قيل له: فأي ذلك عني به؟
فإن قال: لكل ولي جاز له تزويج وليته. قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟ فإن قال نعم! قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس؟ فإن قال: نعم، خرج من قول الجميع. وإن قال: لا! قيل له: ولم؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها؟ ثم يعكس القول عليه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره. وإن قال: لبعض دون بعض. سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضا دون بعض. ويقال له: من المعني به، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟
فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم، سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة، فكان معلوما بذلك أن الزوج غير معني به، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج، صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي= فقد غفل وظن خطأ.
وذلك أن معنى ذلك: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه، وإنما أدخلت "الألف واللام" في "النكاح" بدلا من الإضافة إلى "الهاء" التي كان "النكاح" -لو لم يكونا فيه مضافا إليها، كما قال الله تعالى ذكره: "فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"، بمعنى: فإن الجنة مأواه.
فتأويل الكلام: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده لأن معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه الولي ولي المرأة. لأن ولي المرأة لا يملك عقدة نكاح المرأة بغير إذنها، إلا في حال طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها، في قول أكثر من رأى أن الذي بيده عقدة النكاح الولي. ولم يخصص الله تعالى ذكره بقوله: "أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" بعضا منهم، فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأولوه، لو كان لما قالوا في ذلك وجه.
وبعد، فإن الله تعالى ذكره إنما كنى بقوله: "وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ"، عن ذكر النساء اللاتي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها، وذلك قوله: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ"، والصبايا لا يسمين نساء، وإنما يسمين صبيا أو جواري، وإنما النساء "في كلام العرب أجمع، اسم المرأة، ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة امرأة، كما لا تقول للصبي الصغير رجل.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، عند الزاعمين أنه الولي إنما هو: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما الصغر وإما السفه، والله تعالى ذكره إنما اقتص في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه، وجعل لهن العفو بقوله: إِلا أَنْ يَعْفُونَ كان معلوما بقوله: إِلا أَنْ يَعْفُونَ، أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعض، إذ كان معلوما أن عفو من تولى عليه ماله منهن باطل.
وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ، من العفو عما وهب لهن من الصداق بالطلاق قبل المسيس، مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار المولى عليهن أموالهن السفه. وفي إنكار القائلين: "إن الذي بيده عقدة النكاح الولي"، عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفنا، وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر- ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك.
ويسأل القائلون بقولهم في ذلك، الفرق بين ذلك من أصل أو نظير، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في خلافه مثله.
"وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى": اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"؛
فقال بعضهم: خوطب بذلك الرجال والنساء... فتأويل الآية على هذا القول: وأن تعفوا، أيها الناس، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق، أقرب له إلى تقوى الله.
وقال آخرون: بل الذي خوطبوا بذلك أزواج المطلقات... عن الشعبي:"وأن تعفوا أقرب للتقوى ": وأن يعفو هو أقرب للتقوى.
فتأويل ذلك على هذا القول: وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم، فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن، أو تتموا لهن بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن- أقرب لكم إلى تقوى الله.
والذي هو أولى القولين بتأويل الآية عندي في ذلك هو أن معنى ذلك: وأن يعفو بعضكم لبعض، أيها الأزواج والزوجات، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض، فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له، فبأن يوفيه بتمامه أقرب لكم إلى تقوى الله.
فإن قال قائل: وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله، فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه: فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله؟ قيل له: الذي في ذلك من قربه من تقوى الله، مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه، ودعاه وحضه عليه. فكان فعله ذلك- إذا فعله ابتغاء مرضاة الله، وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه- معلوما به، إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه، أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا، ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى.
"وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ": ولا تغفلوا، أيها الناس، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه، ولكن ليتفضل الرجل المطلق زوجته قبل مسيسها، فيكمل لها تمام صداقها إن كان لم يعطها جميعه. وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرض لها، فليتفضل عليها بالعفو عما يجب له ويجوز له الرجوع به عليها، وذلك نصفه. فإن شح الرجل بذلك وأبى إلا الرجوع بنصفه عليها، فلْتَتَفضّل المرأة المطلقة عليه برد جميعه عليه، إن كانت قد قبضته منه. وإن لم تكن قبضته، فتعفو عن جميعه. فإن هما لم يفعلا ذلك وشحا وتركا ما ندبهما الله إليه- من أخذ أحدهما على صاحبه بالفضل -فلها نصف ما كان فرض لها في عقد النكاح وله نصفه.
"إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ": إن الله بما تعملون، أيها الناس، مما ندبكم إليه وحضكم عليه، من عفو بعضكم لبعض عما وجب له قبله من حق بسبب النكاح الذي كان بينكم وبين أزواجكم، وتفضل بعضكم على بعض في ذلك، وفي غيره مما تأتون وتذرون من أموركم في أنفسكم وغيركم مما حثكم الله عليه وأمركم به أو نهاكم عنه "بصير"، يعني بذلك: ذو بصر، لا يخفى عليه منه شيء من ذلك، بل هو يحصيه عليكم ويحفظه، حتى يجازي ذا الإحسان منكم على إحسانه، وذا الإساءة منكم على إساءته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {إلا أن يعفون}... وقوله: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}...فيه دلالة على أن العفو هو الفضل في اللغة، وهو البذل؛ تقول العرب: عفوت لك: أي بذلته؛ فإن كان العفو هو البذل، فكان قوله: {فمن عفى له من أخيه شيء} ترك له، وبذل {فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178]: يكون فيه دليل لقول أصحابنا في ذلك. وقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} معناه، والله أعلم: حق على المتقي أن يرغب فيه، وكذا قوله: {حقا على المحسنين} [البقرة: 236] أن يرغب فيه. ثم لإضافة ذلك على الرجال وجهان: أحدهما: لما أنهم هم الذين تركوا حقهم، ومن عندهم جاء هذا التقصير. الثاني: أن في تسليم ذلك من الرجال الكمال، وهم في الأصل موصوفون بالكمال...
قوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} يحتمل اشتراك الزوجين في ذلك لا معنى الأخذ بالعفو. والفضل أولى لمن يريد اتقاء دناءة الأخلاق أو المفضل أولى ممن أكرم باتقاء الخلاف لله تعالى، ويحتمل الأزواج بما قد ضمنوا الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، فهو أقرب إلى وفاء ذلك واتقاء الخلاف له، على أن سبب الفراق جاء منه، فذلك أقرب لاتقاء الجفاء منهم وأظهر للعذر لهم في ما اختاروا، والله أعلم.
وقوله: {إن الله بما تعلمون بصير} حرف وعيد عما فيه التعدي ومجاوزة الحد والخلاف لأمره...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ثم ذكر أن العفو أتم وأحسن، إمَّا من جهة المرأة في النصف المستحق لها، أو من قِبَل الزوج في النصف العائد إليه. ثم قال جلّ ذكره: {وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل بالفرض. ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل، وإن من سُنَّةِ الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم في اقتناء أسباب الفضل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نفي الجناح بانتفاء المسيس والفرض فأفهم أنهما إذا وجدا وجد الجناح بوجوب المفروض كله أتبعه ما إذا انتفى أحدهما فقط فذكر الحكم عند انتفاء المسيس وحده صريحاً في ضد المفوضة السابقة وأفهم بذلك ما إذا انتفى الفرض وحده تلويحاً فقال: {وإن طلقتموهن} أي الزوجات {من قبل أن تمسوهن} أي تجامعوهن سواء أكانت هناك خلوة أم لا {وقد} أي والحال أنكم {فرضتم} أي سميتم {لهن فريضة} أي مهراً مقدراً {فنصف} أي فالمأخوذ نصف {ما فرضتم} أي سميتم لهن من الصداق لا غير.
ولما أوجب لها ذلك بعثها على تركه لأن الزوج لم ينتفع منها بشيء بالتعبير بالعفو فقال: {إلا أن يعفون} أي النساء فإن النون ضميرهن والواو لام الفعل فلا يؤخذ منكم شيء {أو يعفوا الذي بيده} أي إليه ولكن لما كان أغلب الأعمال باليد أسندت كلها إليها فصارت كناية عن القدرة {عقدة النكاح} وهو الزوج الذي إن شاء أبقاها وإن شاء حلها فيسمح لها بالجميع كان التعبير بهذا هزاً للزوج إلى العفو في نظير ما جعل إليه من هذا دونها.
قال الحرالي: إذا قرن هذا الإيراد بقوله: {ولا تعزموا عقدة النكاح} خطاباً للأزواج قوي فسر من جعل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج معادلة للزوجات، ومن خص عفوهن بالمالكات أي الراشدات خص هذا بالأولياء فكان هذا النمط من التهديف للاختلاف ليس عن سعة إيهام وكأنه عن تبقية بوجه ما من نهاية الإفصاح فمنشأ الخلاف فيه دون منشأ الخلاف من خطابات السعة بالإيهام...
وجعل الإمام هذا مفهوماً من التعبير بالعقدة لأنها تدل على المفعول كالأكلة واللقمة والذي بيده ذلك الزوج والذي بيد الولي العقد و هو المصدر كالأكل واللقم لا العقدة الحاصلة بعد العقد {وأن تعفوا} أيها الرجال والنساء {أقرب} أي من الحكم بالعدل الذي هو السواء.
ولما كان المقام للترغيب عبر باللام الدالة على مزيد القرب دون إلى فقال: {للتقوى} أما من المرأة فلأجل أن الزوج لم ينل منها شيئاً ولا حظي بطائل فهو أقرب إلى رضاه، وأما من الرجل فلما أشار إليه بجعل العقدة بيده فإنه كما ربطها باختياره حلها باختياره فدفعه الكل أقرب إلى جبر المرأة ورضاها، ومن فعل الفضل كان بفعله ذلك أقرب إلى أن يفعل الواجب بمن لم يفضل.
ولما كان العفو فضلاً من العافي وإحساناً لها منه وكانوا إنما يتفاخرون بالفضائل أكده بقوله: {ولا تنسوا} أي تتركوا ترك المنسي، والتعبير بالنسيان آكد في النهي {الفضل} أي أن تكونوا مفضلين في جميع ما مضى لا مفضلاً عليكم، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، وزاده تأكيداً بقوله: {بينكم} أي حال كونه واقعاً فيكم من بعضكم لبعض ليس شيء منه خارجاً عنكم، ولن ينال الله منه شيء لأنه غني عن كل شيء، فما أمركم به إلا لنفعكم خاصة، لئلا يتأذى الزوج ببذل لم ينتفع في مقابله من المرأة بشيء، ولا المرأة بطلاق لم يحصل لها في نظير ما يلحقها من الكسر بسببه شيء، وهو يصح أن يكون بالتغليب خطاباً للقبيلين.
وخصه الحرالي بالرجال فقال: فمن حق الزوج الذي له فضل الرجولة أن يكون هو العافي وأن لا يؤاخذ النساء بالعفو، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهن ولا تحريض، فمن أقبح ما يكون حمل الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها بما يصرح به قوله: {أو آتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} [آل عمران: 20] فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به...
ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {بما تعملون} أي وإن دق {بصير} وأفهم ذلك: وإن طلقتموهن بعد المسيس وقبل الفرض فجميع مهر المثل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}؛ قال الأستاذ الإمام: عبر عنه بهذا للتنبيه على أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى وإن كان الواجب المحتم نصفه، فذلك تمهيد لقوله: {وأن تعفوا أقرب لتقوى} والخطاب على هذا خاص بالرجال، وفيه وجه آخر أنه عام للنساء والرجال، أي من عفا فهو المتقي...
وقال الأستاذ الإمام: إن التقوى في هذا المقام اتقاء الريبة وما يترتب على الطلاق من التباغض وآثار التباغض، ولا يخفى ما في السماح بالمال، من التأثير في تغير الحال، ولذلك قال بعد ذلك {ولا تنسوا الفضل بينكم} فسروا الفضل بالتفضيل والإحسان وجعلوه للترغيب في العفو.
وقال الأستاذ الإمام: المراد به المودة والصلة، أي ينبغي لمن تزوج من بيت ثم طلق أن لا ينسى مودة أهل البيت وصلتهم، قال فأين هذا مما نحن عليه اليوم من التباغض والضرار؟ على هذا السياق جرى في تفسير الآية وهو مما لا يقف الذهن فيه إلا من كان مطلعا على وجوه الخلاف في الذي بيده عقدة النكاح، يقول القائلون بأنه الولي، إنه هو الذي يتولى العقد شرعا وعرفا وقد تولى العفو عن نصف المهر بالنيابة عن موليته إذا هي طلقت ولاسيما إذا كانت غير مدخول بها ولا حديث بينها وبين الزوج ولا معاملة، وإن تبرع الزوج بالنصف الآخر من المهر لا يسمى عفوا وإنما يسمى هبة، وإن عقدة النكاح لم تبق في يد الزوج بعد الطلاق، ويقول الذاهبون إلى أنه الزوج إن الولي بيده عقد النكاح لا عقدته التي هي أثر العقد، وأنه ليس للولي أن يسمح بشيء من مال موليته لأنها هي المالكة المتصرفة من دونه، وأنت ترى الجواب من كل جانب عما أورده الآخر سهلا والخطب أسهل، فالمعنى المراد أن الواجب نصف المهر إلا أن يسمح الرجل به كله وسمى سماحه بالنصف الآخر عفوا لأن المعهود أنهم كانوا يسرقون جميع المهر عند العقد كالتقدم، أو تعفو المرأة بنفسها أو بواسطة وليها عما يجب لها فلا تأخذ منه شيئا، فأي الفريقين عفا فعفوه أقرب إلى التقوى. والقائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أكثر كما تشعر به العبارة السابقة، ويروى فيه حديث مرفوع عند ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي.
وقد ختمت الآية بقوله تعالى: {إن الله بما تعملون بصير} جريا على السنة الإلهية بالتذكير والتحذير بعد تقرير الأحكام، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذي الإيمان وتبعث على الامتثال. وفي التذكير باطلاع الله تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيب في المحاسبة والفضل، وترهيب لأهل المخاشنة والجهل. قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بعد تفسير هذه الآيات ما معناه: من تدبر هذه الآيات وفهم هذه الأحكام يتجلى له نسبة مسلمي هذا العصر إلى القرآن، ومبلغ حظهم من الإسلام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... والحالة الثانية: أن يكون قد فرض مهرا معلوما. وفي هذه الحالة يجب نصف المهر المعلوم. هذا هو القانون. ولكن القرآن يدع الأمر بعد ذلك للسماحة والفضل واليسر. فللزوجة -ولوليها إن كانت صغيرة- أن تعفو وتترك ما يفرضه القانون. والتنازل في هذه الحالة هو تنازل الإنسان الراضي القادر العفو السمح. الذي يعف عن مال رجل قد انفصمت منه عروته. ومع هذا فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترف وتخلو من كل شائبة: {وأن تعفوا أقرب للتقوى. ولا تنسوا الفضل بينكم. إن الله بما تعملون بصير}.. يلاحقها باستجاشة شعور التقوى. ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل. ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله.. ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة. ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية. موصولة بالله في كل حال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه، لكثرة أسبابها فيه...
وقوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم} تذييل ثان، معطوف على التذييل الذي قبله، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل. فأُمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة...
والنسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى: {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} [السجدة: 14] وهو كثير في القرآن، وفي كلمة {بينكم} إشارة إلى هذا العفو، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض.
وقوله: {إن الله بما تعملون بصير} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه، ونظيره قوله:
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} بين سبحانه في الآية السابقة، ما يجب عند الطلاق قبل الدخول إن لم يكن قد سمي مهر وقت العقد، وفي هذه الآية يبين المطلوب إذا سمي مهر، وكان الطلاق قبل الدخول أيضا، وقد قدم حكم الحال الأولى، لأن عدم ذكر المهر مظنة ألا تعطى شيئا إذا كان الطلاق قبل الدخول، فسيقت الآية الكريمة ببيان هذا الوجوب ليزول من الأفهام ما يسبق إليها.
{و أن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} في هذه الجملة الكريمة إشارة إلى وجوب التسامح والتعاطف في وقت ذلك الافتراق القاطع، وإلى أنه تجب الرحمة في وقت الانفصال، ولذلك صرح سبحانه بأن العفو: أي ترك بعض الحقوق في ذلك الوقت، أقرب لتقوى الله سبحانه، وأدنى إلى رضاه، لكي يكون الافتراق بمفرده، ولا تكون مشاحة تدفع إلى المشادة، ثم إلى الخصومات التي تورث العداوات، وتستمر الأحقاد بين الأسرتين، وتكون الإحن ومن ورائها المحن.
و لقد ذكر سبحانه أهل الفضل بفضلهم فقال: {ولا تنسوا الفضل بينكم} أي لا يذهب بكم الغضب والمكايدة إلى درجة لا تتذكرون فيها ما يكون عندكم من شمم وإباء، وإرادة للتفضل والعطاء. و الفضل في أصل معناه: الزيادة في كل شيء، وأكثر ما يكون في الزيادة في الأشياء المحمودة، ولذا صار يطلق بمعنى العلو، فيقال: فضل هذا على ذاك كذا. ومنه الفضيلة، لما فيها من خير زائد، ولما فيها من علو نفسي وكمال وسمو.
فالله سبحانه وتعالى، حين ذكر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات، ليكونوا هم الأعلين دائما.
و لقد ذيل الله سبحانه وتعالى أوامره الحاسمة، وإرشاده الحكيم بقوله عز من قائل: [إن الله بما تعملون بصير] للإشارة إلى أنه مطلع على حركات الجوارح، وخلجات النفوس، ونيات القلوب، وما تخفي الصدور، فليعلموا ذلك، فإن العلم به يربي فيهم المهابة منه سبحانه وتعالى، إذ يشعرون برقابته، فيكفكفون من غضبهم، وينهنهون من حدتهم وقت الطلاق، حتى لا يذهب بهم فرط الغضب إلى نسيان المعروف، وتجاهل الفضل، فلا يسرحوا بإحسان بعد أن فات الإمساك بمعروف...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إذا كان الطلاق قبل الدخول، وكان العقد مشتملاً على المهر، فإنَّ الحكم الشرعي أن ينتصف بالطلاق؛ فيجب عليه أن يدفع لها نصف المهر إلاَّ إذا أسقطت المرأة حقّها بالإبراء أو الهبة أو غيرهما، أو عفا وليّ العقد، من الأب أو الجد، أو من فوّضت إليه المرأة أمرها في هذا الموضوع بشكلٍ مطلق … وقد اعتبر البعض الزوج داخلاً فيمن بيده عُقدة النكاح، باعتبار أنه يملك أمره بالإبقاء أو بالإنهاء، وبذلك تكون الآية متضمنة لعدم رجوع الزوج عليها بالنصف في حال قبضها للكلّ إذا عفا عن حقّه. وهذا أمر محتمل، ولكنَّ الظاهر أنه في مقام الحديث عن حقّ الزوجة في ما يجب على الزوج دفعه لها بلحاظ حالة الطلاق. وقد عقّب اللّه على ذلك بالتشجيع على أخذ المبادرة بالعفو، باعتبار أنه أقرب للتقوى. وربما يدل عليه من روحية العطاء من جهة، ومن روح التقرّب إلى اللّه من جهة أخرى، ومن إبعاده الموقف عن طبيعة الخلاف والمشاحنة التي تستدعيها حالة استيفاء الحقّ وإقراره وإعطائه.
ثُمَّ يدعو الأزواج إلى عدم نسيان الفضل فيما بينهم عند إنهاء العلاقة، لتبقى لهم علاقة الصداقة والفضل إذا انقطعت علاقة الزواج. وذكّرهم بعد ذلك بأنَّ اللّه بصير مطّلع على كلّ ما يعملونه أو يقومون به من حسنات تقرب إليه في علاقاتهم مع بعضهم البعض، أو سيئات تبعد عنه؛ لأنه العالم بكلّ الأمور. {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإنَّ اللّه يريد للإنسان أن ينتصر على حبّ المال في نفسه، وأن يتنازل عن حقّه من خلال إرادة القرب من اللّه، وأن لا يرتبط بالأمور من خلال الحسابات المادية التي تضع المال في مقابل المال، والمصلحة في مواجهة المصلحة، لأنَّ ذلك قد يحقّق للإنسان الدقة في حساباته في شؤون حياته، ولكنَّه لا يحقّق له السموّ الروحي الذي يتعالى فيه على الذات، فيبقى مشدوداً إلى النوازع الذاتية والوساوس الشيطانية والهواجس المرضية، ما يبعده عن دائرة التوازن في نطاق المادة والروح. ولذلك كان العفو عن الآخر وسيلة من وسائل تحصيل القوّة ضدّ الذين يريدون إثارته في انفعالاته من أجل إيقاعه في الخطأ والخطيئة، فيملك من خلال ذلك نفسه، فلا يستطيع الآخرون إبعاده عن الخطّ المستقيم.
إنَّ أيّ انتصار على الذات في جانب ما يمنح الإنسان قوّة في الانتصار عليها في الجوانب الأخرى، ولذلك يتحوّل العفو ليكون حركة تدريبية في تجربة الإنسان على تجاوز نفسه إلى الانفتاح على مواقع رضى اللّه، ما يقرّبه من الانضباط الواعي في آفاق التقوى التي تمثّل الثبات على المبدأ والإصرار على البقاء في الخطّ. وهكذا نجد أنَّ العفو هو السلوك العملي المنطلق من عمق روحي في داخل الشخصية التي تتعالى عن الأخذ بالحقّ لنفسها، ما يجعلها أكثر قدرة على التعالي عمّا ليس لها بحقّ، وعلى الانضباط في ما يلزمها من الحقّ للّه وللنّاس.
{وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} في علاقاتكم ببعضكم البعض وفي معاملاتكم الدائرة بينكم، ليكون الحقّ هو الحدّ الفاصل مما تأخذون به أو تتركونه؛ لتستوفوا الحقّ الذي لكم بكلّ دقةٍ وشموليةٍ بعيداً عن القيم الروحية والأخلاقية التي تمثّل حركة العلاقات الإنسانية في خطّ الخير والمحبة والانفتاح، فتنسوا الأوضاع الحميمة التي عشتموها في ما استلفتموه من الصلة بينكم، وتهملوا الفضل الذي قدّمه بعضكم لبعض من عمق الخير في النفس، والمحبة في القلب. وعلى ضوء ذلك، فليكن العنصر الإنساني هو الذي يحدّد لكم علاقاتكم التي تستقبلونها في الحقوق التي يملكها بعضكم على البعض الآخر، من دون أن تؤثر السلبيات التي فصلت بينكم على ذلك؛ وليكن الفضل القائم على روحية العطاء، المنفتح على الذكريات الطيبة في الماضي، هو العنوان لما تأخذونه أو تتركونه، ولتنفصلوا على وفاق لا يتعقد من الفراق... {إِنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ} مما تقدّمونه من أعمالكم في اتجاه مسؤولياتكم {بَصِيرٌ} لأنه العليم بكلّ شيء من شؤون خلقه، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء.