فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعۡفُوٓاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (237)

وقد وقع الخلاف أيضا هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس ، والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط ؟ فقيل : إنها مشروعة لكل مطلقة ، وإليه ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، والحسن البصري ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد وإسحاق ، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء ، والفرض أم مندوبة فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } وبقوله تعالى : { ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جميلاً } [ الأحزاب : 28 ] والآية الأولى عامة لكل مطلقة ، والثانية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كنّ مفروضاً لهنّ مدخولاً بهنّ . وقال سعيد بن المسيب : إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى : { وَكِيلاً يا أيها الذين ءامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] قال : هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة .

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية ؛ لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى ، أو مهر المثل ، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة ، أي : سمى لها مهراً ، وطلقها قبل الدخول تستحق نصف المسمى ، ومن القائلين بهذا ابن عمر ، ومجاهد . وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول ، والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة . وأما إذا كانت أمة ، فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة ، وقال الأوزاعي ، والثوري : لا متعة لها ؛ لأنها تكون لسيدها ، وهو لا يستحق مالاً في مقابل تأذي مملوكته ؛ لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول ، والفرض ، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك . وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدّرة بقدر أم لا ؟ فقال مالك ، والشافعي في الجديد : لا حدّ لها معروف بل ما يقع عليه اسم المتعة . وقال أبو حنيفة : إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها ، ولا ينقص من خمسة دراهم ؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم . وللسلف فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله .

وقوله : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج ، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير . وقرأ الجمهور على الموسع بسكون الواو ، وكسر السين ، وهو الذي اتسعت حاله .

وقرأ أبو حيوة بفتح الواو ، وتشديد السين ، وفتحها . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر قدره بسكون الدال فيهما . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما . قال الأخفش ، وغيره : هما لغتان فصيحتان ، وهكذا يقرأ في قوله تعالى : { فَسَألَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . وقوله : { وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] والمقتر المقلّ ، ومتاعاً مصدر مؤكد لقوله : { وَمَتّعُوهُنَّ } . والمعروف : ما عرف في الشرع ، والعادة الموافقة له . وقوله : { حَقّاً } وصف لقوله : { متاعا } أو مصدر لفعل محذوف ، أي : حق ذلك حقاً ، يقال : حققت عليه القضاء ، وأحققت ، أي : أوجبت .

قوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } الآية ، فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء ، والفرض التي تستحق المتعة . وقوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أي قالوا : وجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر ، وهذا مجمع عليه . وقرأ الجمهور : { فَنِصْفُ } بالرفع . وقرأ من عدا الجمهور بالنصب ، أي : فادفعوا نصف ما فرضتم ، وقرئ أيضاً بضم النون ، وكسرها ، وهما لغتان . وقد وقع الاتفاق أيضاً على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ، ومات ، وقد فرض لها مهراً تستحقه كاملاً بالموت ، ولها الميراث ، وعليها العدة . واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول ، وتستحق المرأة بها كمال المهر ، كما تستحقه بالدخول أم لا ؟ فذهب إلى الأول مالك ، والشافعي في القديم ، والكوفيون ، والخلفاء الراشدون ، وجمهور أهل العلم ، وتجب عندهم أيضاً العدّة . وقال الشافعي في الجديد : لا يجب إلا نصف المهر ، وهو ظاهر الآية لما تقدّم من أن المسيس هو الجماع ، ولا تجب عنده العدّة ، وإليه ذهب جماعة من السلف .

قوله : { إَّلا أَن يَعْفُونَ } أي : المطلقات ، ومعناه : يتركن ، ويصفحن ، ووزنه يفعلن ، وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام ، وقيل : منقطع ، ومعناه : يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج . ولم تسقط النون مع " أن " لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع ، والنصب ، والجزم لكون النون ضميراً ، وليست بعلامة إعراب كما في المذكر في قولك : الرجال يعفون ، وهذا عليه جمهور المفسرين . وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : { إلا أَن يَعْفُونَ } يعني : الرجال ، وهو ضعيف لفظاً . ومعنى قوله : { أَوْ يَعْفُوَا الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } معطوف على محل قوله : «إلا أن يعفون » لأن الأول مبني ، وهذا معرب ؛ قيل : هو الزوج ، وبه قال جبير بن مطعم ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، ونافع ، وابن سيرين ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وجابر بن زيد ، وأبو مجْلَز ، والربيع بن أنس ، وإياس بن معاوية ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وهو الجديد من قول الشافعي ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، ورجحه ابن جرير .

وفي هذا القول قوّة وضعف ؛ أما قوته ، فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج ؛ لأنه هو الذي إليه رفعه بالطلاق ، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول ، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملاً غير ظاهر . لأن العفو لا يطلق على الزيادة .

وقيل : المراد بقوله : { أَوْ يَعْفُو الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } هو : الولي ، وبه قال النخعي ، وعلقمة ، والحسن ، وطاوس ، وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، والزهري ، والأسود بن يزيد ، والشعبي ، وقتادة ، ومالك ، والشافعي في قوله القديم ، وفيه قوّة وضعف ؛ أما قوّته فلكون معنى العفو فيه معقولاً ؛ وأما ضعفه ، فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده ، ومما يزيد هذا القول ضعفاً أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه . وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئاً من مالها ، والمهر مالها . فالراجح ما قاله الأوّلون لوجهين : الأوّل أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة . الثاني : أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك مطلق التصرف بخلاف الولي ، وتسمية الزيادة عفواً ، وإن كان خلاف الظاهر ، لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملاً عند العقد كان العفو معقولاً ، لأنه تركه لها ، ولم يسترجع النصف منه ، ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال : إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف ، لأنه عفو حقيقي أي : ترك لما يستحق المطالبة به ، إلا أن يقال : إنه مشاكلة ، أو يطيب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج .

قوله : { وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ للتقوى } قيل : هو خطاب للرجال ، والنساء تغليباً ؛ وقرأه الجمهور بالتاء الفوقية ، وقرأ أبو نهيك ، والشعبي بالياء التحتية ، فيكون الخطاب مع الرجال . وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ؛ لأن عفو الوليّ عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوى ، بل أقرب إلى الظلم والجور . قوله : { ولا تَنسوا الفضل بَيْنَكُمْ } قرأه الجمهور بضم الواو ، وقرأ يحيى بن يعمر بكسرها ، وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : «ولا تناسوا » والمعنى : أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر ، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ، ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر ، وهو إرشاد للرجال ، والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضاً ، والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت سهماً من إفضاء البعض إلى البعض ، وهي وصلة لا يشبهها ، وصلة ، فمن رعاية حقها ، ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح . وقوله : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيه من رغيب المحسن ، وترهيب غيره ما لا يخفى .

/خ237