اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعۡفُوٓاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (237)

هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها ؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها .

واختلف أهل العلم في الخلوة ، فقال الشَّافعيُّ : إنها تقرر نصف المهر .

وقال أبو حنيفة : الخلوة الصَّحيحة : أن يخلو بها ، وليس هناك مانعٌ حسي ، ولا شرعيٍّ ، فالحسِّي : كالرَّتق ، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ .

والشرعي : كالحيض ، والنُّفاس ، وصوم الفرض ، وصلاة الفرض ، والإحرام المطلق ؛ فرضاً كان ، أو نفلاً .

واحتجَّ الشَّافعيُّ : بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر ؛ لأن قوله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ليس كلاماً تاماً ، بل لا بدَّ من إضمار ، [ شيءٍ ، ليتم ]{[3902]} الكلام ، فإمَّا أن يضمر : " فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ " ، أو يضمر : " فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ " ، والإضمار الأوّل هو المقصود ؛ لوجوه :

أحدها : أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة " إِنْ " عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً ؛ فلو حملناه على الوجوب ، تركنا العلم بمقتضى التعليق ، لأنّه غير منفي قبله ، وإذا حملناه على السقوط ، عملنا بمقتضى التَّعليق ؛ لأنه منفيٌّ قبله .

وثانيها : أنَّ قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه ، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر ، لزمه الكلُّ بقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة :1 ] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف ، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف ؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ ، فكان سقوط البعض هاهنا ، هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط ، أولى من حملها على بيان الوجوب .

وثالثها : أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر ، قد تقدمت في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة :229 ] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى .

ورابعها : أن المذكور في هذه الآية ، هو الطلاق قبل المسيس ، وهو يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيءٍ ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى ، لا جرم استقصينا هذه الوجوه ؛ لأن منهم من قال : معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجبٌ ، وتخصيص النصف بالوجوب ، لا يدلُّ على سقوط الآخر ، إلاّ من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة . وقد ذكرنا هذه الوجوه ؛ دفعاً لهذا السؤال .

واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء :20 ] إلى قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } [ النساء :21 ] فنهى تعالى عن أخذ المهر ، ولم يفرّق بين الطلاق ، وعدم الطَّلاق ، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - هاهنا - فعليه البيان ، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر ، وعلَّل بعلَّة الإفضاء ، وهي الخلوة ، لأنَّ الإفضاء : مشتقٌّ من الفضاء ، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرِّر المهر .

والجواب عن ذلك : بأن دليلهم عامٌّ ، ودليلنا خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ .

قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } : هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل ، وأن يكون ضمير المفعول ؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما ، والتقدير : وإن طلقتموهن فارضين لهن ، أو مفروضاً لهنَّ ، و " فَرِيضَة " فيها الوجهان المتقدمان .

والفاء في " فَنِصْفُ " جواب الشرط ، فالجملة في محلِّ جزمٍ ؛ جواباً للشرط ، وارتفاع " نِصْفُ " على أحد وجهين : إمَّا الابتداء ، والخبر حينئذٍ محذوفٌ ، وإن شئت قدَّرته قبله ، أي : فعليكم أو فلهنَّ نصف ، وإن شئت بعده ، أي : فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب نصف .

وقرأت{[3903]} فرقةٌ : " فَنِصْفَ " بالنصب على تقدير : " فَادْفَعُوا ، أَوْ أَدُّوا " ، وقال أبو البقاء{[3904]} : " ولو قُرِئَ بالنصبِ ، لكان وجهه فَأَدَّوا [ نِصْفَ ] " فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً .

والجمهور على كسر نون " نِصْف " ، وقرأ{[3905]} زيدٌ وعليٌّ ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو : " فَنُصْف " بضمِّ النون هنا ، وفي جميع القرآن ، وهما لغتان ، وفيه لغةٌ ثالثة : " نَصِيف " بزيادة ياءٍ ، ومنه الحديث : " مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ " {[3906]} .

والنَّصيف - أيضاً - : القناع ، قاله القرطبي{[3907]} ، والنِّصف : الجزء من اثنين ، يقال : نصف الماء القدح ، أي : بَلَغَ نِصْفَهُ ، ونَصَفَ الإزار السّاق ، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره ، فقد نصفه .

و " مَا " في " مَا فَرَضْتُمْ " بمعنى " الَّذِي " ، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً .

قوله تعالى : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } في هذا الاستثناء وجهان :

أحدهما : أن يكونَ استثناءً منقطعاً ، قال ابن عطيَّة وغيره : " لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ " .

والثاني : أنه متصلٌ ، لكنه من الأحوال ؛ لأَنَّ قوله : " فنصفُ ما فَرَضْتُمْ " معناه : فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال ، إلا في حال عَفْوِهِنَّ ، فإنه لا يجب ، وإليه نَحَا أبو البقاء{[3908]} ، وهذا ظاهرٌ ، ونظيرُه : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف :66 ] وقال أبو حيان " إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ " أَنْ " وصلتُها حالاً ، كسيبويه{[3909]} ؛ فإنه يمنعُ ذلك ، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً " .

وقرأ الحسن{[3910]} " يَعْفُونَهُ " بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان :

أحدهما : أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف ، والأصلُ : إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ .

والثاني : أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ ، وإنما ضَمَّها ؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ ، كقول الآخر [ الطويل ]

هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ *** . . . {[3911]}

على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً .

وقرأ ابن أبي{[3912]} إسحاق : " تَعْفُونَ " بتاءِ الخطابِ ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ ، وأنه مندوبٌ .

و " يَعْفُونَ " منصوبٌ ب " أَنْ " تقديراً ؛ فإنَّه مبنيٌّ ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ ، هذا رأيُ الجمهور ، وأمَّا ابن درستويه ، والسُّهَيْليُّ : فإنه عندهما معربٌ ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء{[3913]} بين قولك : " الرِّجَالُ يَعْفُونَ " و " النِّسَاءُ يَعْفُونَ " وإنْ كان [ هذا ] من الواضحاتِ بأنَّ قولك " الرِّجَالُ يَعْفُونَ " الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور ، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة ، فإن الأصل : " يَعْفُوونَ " ، فاسْتُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى ، فحُذِفت ، فبقيت ساكنةً ، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ ، فحُذِفت الواو الأولى ؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان ، فوزنهُ " يَعْفُونَ " ، والنونُ علامة الرفع ؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ وأَنَّ قولك : " النِّسَاءُ يَعْفُونَ " ، الواوُ لامُ الفعل ، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ ، والفعل معها مبنيٌّ ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين : وقد ناقش الشيخ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك : " الرِّجَالُ يَعْفُونَ " ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث ، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله .

وقوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي } " أَوْ " هنا فيها وجهان :

أحدهما : هي للتنويع .

والثاني : أنها للتخيير ، والمشهورُ فتحُ الواو ؛ عطفاً على المنصوبِ قبله ، وقرأ الحسن{[3914]} بسكونها واستثقل الفتحة على الواو ، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف ، وسائرُ العرب على استخفافها ، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل - [ الطويل ]

فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ *** أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ{[3915]}

ولمَّا سكَّن الواوَ ، حُذِفَت للساكن بعدها ، وهو اللامُ من " الَّذِي " ، وقال ابنُ عطية " والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم " وقال الخليل : " لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم " عَفْوَة " جمع عَفْو " ، وهو ولدُ الحِمَارِ ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ " انتهى . قال أبو حيَّان : فقوله : " لقلَّةِ مجيئها " ، يعني مفتوحةً ، مفتوحاً ما قبلَها ، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها : إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً ، أو كسرةً ، أو فتحةً ، فإنْ كانَتْ ضمَّةً : فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ ، فإنْ كان في فعلٍ ، فهو كثيرٌ ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ ؛ نحو : " لَنْ يَغْزُوَ " ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها ؛ نحو " هلَ يَغْزُوَنَّ " ، وكذلك الأمر ؛ نحو : " اغْزُوَنَّ " ، وكذا الماضي على " فَعُلَ " في التعجب ؛ نحو : سَرُوَ الرَّجُل ؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب ، فيقولون : " لَقَضُوَ الرَّجُلُ " ، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف ، وإنْ كان ذلك في اسم : فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث ، فيكثر أيضاً ؛ نحو : عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة ، وإنْ كان قبلها فتحة ، فهو قليل ؛ كما ذكر الخليل ، وإن كان قبلها كسرةٌ ، قُلِبت الواوُ ياءً ؛ نحو : الغازي والغازية ، وشَذَّ من ذلك " أَفْرِوَة " جمع " فَرِوَة " ، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب ، و " سَوَاسِوَة " وهم : المستوون في الشَّرِّ ، و " مَقَاتِوَة " جمع مُقْتَو ، وهو السائسُ الخادِمُ ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [ في ] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ ، فليس قولُ ابن عطية " والَّذي عندي إلَى آخره " بظاهر .

والمرادُ بقوله : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } قيل : الزوجُ ، وقيلَ : الولِيُّ و " أل " في النكاح للعهدِ ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ ، أي : نكاحُه ؛ كقوله : [ الطويل ]

لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ *** مِنَ الجُودِ ، وَالأَحْلاَمُ غَيْرُ عَوَازِبِ{[3916]}

أي : أحلامُهم ، وهذا رأيُ الكوفيِّين . وقال بعضهم : في الكلامِ حذفٌ ، تقديره : بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ ؛ كما قيل ذلك في قوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } [ البقرة :235 ] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح ، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ .

فصل فيمن بيده عقدة النكاح

المراد بقوله : " يَعفُونَ " أي : المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ .

واختلفوا في { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وسعيدُ بن جُبير ، والشعبي ، وشُرَيحٌ ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الزَّوج{[3917]} ، وبه قال أبو حنيفة .

وقال علقمةُ ، وعطاءُ ، والحسنُ ، والزهريُّ ، وربيعةُ : هو الولي{[3918]} ، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ .

واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ :

الأول : أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته ، صغيرةً كانت ، أو كبيرةً .

الثاني : أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ ، فإذا عقد ، فقد حصل النكاحُ ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج ، لا في يدِ الولي .

الثالث : روي عن جُبير بن مطعم : أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحَقُّ بالعفوِ{[3919]} ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج .

واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ .

أحدها : أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ ، وذلك يكون هبةً ، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً .

وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم ، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها ، عند التزوج ، فإذا طلّق ، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها ، فإذا ترك المطالبة ، فقد عفا{[3920]} عنها .

وأيضاً ، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ ، يقال : فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً ، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة :178 ] فعلى هذا عفو الرجل : أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ .

الثاني : أَنَّ ذكر الزَّوج ، قد تقدَّم في قوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } فلو كان المرادُ ب { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هو الزوج ، لقال : أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب ، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج .

وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة ؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد ، والمعنى : أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج ، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج ، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً .

الثالث : أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح اَلْبَتَّةََ ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة ، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ ، وأمَّا بعد النكاح ، فقد حصل النكاحُ ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح ، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه ، وفي قُدرته عقد النكاح .

قوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ } : " أَنْ تَعْفُوا " في محلِّ رفع بالابتداء ؛ لأنه في تأويل " عَفْوُكُمْ " ، و " أَقْرَبُ " خبره ، وقرأ الجمهور " تَعْفُوا " بالخطاب ، والمرادُ الرجالُ والنساءُ ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ ، والتأنيثُ فرعٌ في اللَّفظ ، والمعنى ؛ أمّا في اللفظ : فإنَّك تقول : " قَائِم " ، وإذا أردت التأنيث ، قلتَ : " قَائِمَة " فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل ، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه ، وأمَّا المعنى : فلأَنَّ الكمال للذُّكور ، والنُّقصانَ للإِناثِ ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير ، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً ؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ ، وهو قوله : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ - [ وهو المختارُ ] - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية ، وقرأ الشَّعبيُّ{[3921]} وأبو نهيك " يَعْفُوا " بياء من تحت ، قال أبو حيَّان{[3922]} جعله غائباً ، وجُمِع على معنى : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدٌ يعني أنَّ قوله : " وَأْنْ يَعْفُوا " أصله " يَعْفُوُونَ " ، فلمَّا دخل الناصبُ ، حُذِفت نونُ الرفعِ ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ ، جُمِعَ على معنى الموصُول ؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً ، فهو مجموعٌ في المعنى ؛ لأنه جنسٌ ، ويظهر فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح ، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً ؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن ، تقديره : وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح .

قوله : " لِلتَّقْوَى " متعلِّقٌ ب " أَقْرَبُ " وهي هنا للتعديةِ ، وقيلَ : بل هي للتعليل ، و " أَقْرَبُ " تتعدَّى تارةً باللام ، كهذه الآيةِ ، وتارةً ب " إِلَى " ؛ كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، وليست " إِلَى " بمعنى " اللام " ، وقيل : بل هي بمعناها ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، أعني التجوُّزَ في الحروفِ ، ومعنى اللامِ و " إِلَى " في هذا الموضع يتقارَبُ .

وقال أبو البقاء{[3923]} : يجوزُ في غير القرآن : " أَقْرَبُ مِنَ التقوَى ، وإِلَى التقْوَى " ، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [ معنًى ] غير معنى " إِلَى " ، وغيرِ معنى " مِنْ " ، فمعنى اللامِ : العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى ، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو ، وإذا قلتَ : أقربُ إلى التقوى ، كان المعنى : يقاربُ التقوى ؛ كما تقول : " أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ " ، و " أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى " يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن ، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى ، وليس معنى الآية على هذا . انتهى ، فجعل اللام للعلة ، لا للتعدية ، و " إِلَى " للتعدية .

واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب ، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً ؛ نحو : " مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ " ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ : فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً ، تعدَّيا بالباءِ ؛ نحو : " هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ " ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك ، تعدَّيا باللامِ ، نحو : " مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ " و " أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو " إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب " في " ، نحو : " مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمْرو ، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ " وإلى الفاعل المعنويِّ ب " إِلَى " ، نحو " زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو " ، أي : إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً ، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ .

والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ ، تقديرُه : أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو ، وواوها بدلٌ من ياءٍ ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً ، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة .

فصل

وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى ؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه ، فهو محسنٌ ، ومَنْ كان مُحْسِناً ، استحقَّ الثواب ، وإذا استحق الثواب ، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب ، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم ، وترك الظلم تقوى في الحقيقة ؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه ، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره .

قوله : { وَلاَ تَنسَوُواْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ " تَنْسَوا " ؛ لأنها واوُ ضمير ، وقرأ{[3924]} ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو " لَوْ " كما ضَمّوا الواو من " لَو " ؛ تشبيهاً بواو الضمير ، وقال أبو البقاء{[3925]} في واوِ " تَنْسَوا " من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في { اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ } [ البقرة :16 ] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا ، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما .

وقرأ علي{[3926]} رضي الله عنه : " وَلاَ تَنَاسَوا " قال ابن عطيَّة : " وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى ؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ ، لا نِسْيَانٍ ، إلاَّ على التشبيه " ، وقال أبو البقاء{[3927]} : " على باب المفاعلةِ ، وهي بمعنى المتاركةِ ، لا بمعنى السهو " ، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة .

قوله تعالى : " بَيْنَكُمْ " فيه وجهان .

أحدهما : أنه منصوبٌ ب " تَنْسَوا " .

والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ ، أي كائناً بينَكُمْ ، والأولُ أَوْلَى ؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ ، أي : إفضال بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها ، حثَّهما جميعاً على الإحسان ، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد ، فقال : { إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

قال القرطبي{[3928]} : هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين ، والحِرمانُ لغير المحسنين ، أي : لا يخفى عليه عفوكم ، واستقضاؤكم .


[3902]:- في ب: حتى يلتئم.
[3903]:- انظر: المحرر الوجيز 1/320، والبحر المحيط 2/244، والدر المصون 1/584.
[3904]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/100.
[3905]:- انظر: المحرر الوجيز 1/320، والبحر المحيط 2/244، والدر المصون 1/ 584.
[3906]:- أخرجه البخاري (7/21) كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا ومسلم (4/1967-1968) كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة (222-2541) وأبو داود (4/214) كتاب السنة باب النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والترمذي (5/653) كتاب المناقب باب فضل من بايع تحت الشجرة.
[3907]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/135.
[3908]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/100.
[3909]:- ينظر: الكتاب لسيبويه 1/195.
[3910]:- انظر: الدر المصون 1/585.
[3911]:- تقدم رقم 775.
[3912]:- انظر: البحر المحيط 2/245، والدر المصون 1/585.
[3913]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/100.
[3914]:- انظر: المحرر الوجيز 1/321، والبحر المحيط 2/246، والدر المصون 1/586.
[3915]:- ينظر المفصل لابن يعيش 10/100، الخزانة 3/237، الحماسة 1/21، البحر 2/246، مغني اللبيب (677)، العيني 1/242، الأشموني 1/101، الدر المصون 1/586.
[3916]:- البيت للنابغة ينظر ديوانه (56)، القرطبي (3/136)، البحر 2/246، الدر المصون 1/586.
[3917]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/151- 152) عن علي بن أبي طالب وقتادة وشريح وسعيد بن جبير. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/521) وعزاه لابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وشريح وابن المسيب والشعبي ونافع ومحمد بن كعب.
[3918]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/146-147-148) عن علقمة وعطاء والحسن والزهري ومجاهد والسدي وابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/521) وعزاه لابن أبي شيبة عن عطاء والحسن وعلقمة والزهري ولابن جرير عن ابن عباس كما تقدم.
[3919]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/ 136.
[3920]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/122.
[3921]:- انظر: المحرر الوجيز 1/321، والبحر المحيط 2/ 247، والدر المصون 1/587.
[3922]:- ينظر: البحر المحيط 2/247.
[3923]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/100.
[3924]:- انظر: البحر المحيط 1/247، والدر المصون 1/588، والقرطبي 3/137.
[3925]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/100.
[3926]:- وبها قرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة. انظر: المحرر الوجيز 1/323، البحر المحيط 2/247، والدر المصون 1/588.
[3927]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/100.
[3928]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/137.