هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها ؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها .
واختلف أهل العلم في الخلوة ، فقال الشَّافعيُّ : إنها تقرر نصف المهر .
وقال أبو حنيفة : الخلوة الصَّحيحة : أن يخلو بها ، وليس هناك مانعٌ حسي ، ولا شرعيٍّ ، فالحسِّي : كالرَّتق ، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ .
والشرعي : كالحيض ، والنُّفاس ، وصوم الفرض ، وصلاة الفرض ، والإحرام المطلق ؛ فرضاً كان ، أو نفلاً .
واحتجَّ الشَّافعيُّ : بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر ؛ لأن قوله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ليس كلاماً تاماً ، بل لا بدَّ من إضمار ، [ شيءٍ ، ليتم ]{[3902]} الكلام ، فإمَّا أن يضمر : " فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ " ، أو يضمر : " فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ " ، والإضمار الأوّل هو المقصود ؛ لوجوه :
أحدها : أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة " إِنْ " عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً ؛ فلو حملناه على الوجوب ، تركنا العلم بمقتضى التعليق ، لأنّه غير منفي قبله ، وإذا حملناه على السقوط ، عملنا بمقتضى التَّعليق ؛ لأنه منفيٌّ قبله .
وثانيها : أنَّ قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه ، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر ، لزمه الكلُّ بقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة :1 ] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف ، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف ؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ ، فكان سقوط البعض هاهنا ، هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط ، أولى من حملها على بيان الوجوب .
وثالثها : أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر ، قد تقدمت في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة :229 ] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى .
ورابعها : أن المذكور في هذه الآية ، هو الطلاق قبل المسيس ، وهو يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيءٍ ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى ، لا جرم استقصينا هذه الوجوه ؛ لأن منهم من قال : معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجبٌ ، وتخصيص النصف بالوجوب ، لا يدلُّ على سقوط الآخر ، إلاّ من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة . وقد ذكرنا هذه الوجوه ؛ دفعاً لهذا السؤال .
واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء :20 ] إلى قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } [ النساء :21 ] فنهى تعالى عن أخذ المهر ، ولم يفرّق بين الطلاق ، وعدم الطَّلاق ، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - هاهنا - فعليه البيان ، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر ، وعلَّل بعلَّة الإفضاء ، وهي الخلوة ، لأنَّ الإفضاء : مشتقٌّ من الفضاء ، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرِّر المهر .
والجواب عن ذلك : بأن دليلهم عامٌّ ، ودليلنا خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ .
قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } : هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل ، وأن يكون ضمير المفعول ؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما ، والتقدير : وإن طلقتموهن فارضين لهن ، أو مفروضاً لهنَّ ، و " فَرِيضَة " فيها الوجهان المتقدمان .
والفاء في " فَنِصْفُ " جواب الشرط ، فالجملة في محلِّ جزمٍ ؛ جواباً للشرط ، وارتفاع " نِصْفُ " على أحد وجهين : إمَّا الابتداء ، والخبر حينئذٍ محذوفٌ ، وإن شئت قدَّرته قبله ، أي : فعليكم أو فلهنَّ نصف ، وإن شئت بعده ، أي : فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب نصف .
وقرأت{[3903]} فرقةٌ : " فَنِصْفَ " بالنصب على تقدير : " فَادْفَعُوا ، أَوْ أَدُّوا " ، وقال أبو البقاء{[3904]} : " ولو قُرِئَ بالنصبِ ، لكان وجهه فَأَدَّوا [ نِصْفَ ] " فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً .
والجمهور على كسر نون " نِصْف " ، وقرأ{[3905]} زيدٌ وعليٌّ ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو : " فَنُصْف " بضمِّ النون هنا ، وفي جميع القرآن ، وهما لغتان ، وفيه لغةٌ ثالثة : " نَصِيف " بزيادة ياءٍ ، ومنه الحديث : " مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ " {[3906]} .
والنَّصيف - أيضاً - : القناع ، قاله القرطبي{[3907]} ، والنِّصف : الجزء من اثنين ، يقال : نصف الماء القدح ، أي : بَلَغَ نِصْفَهُ ، ونَصَفَ الإزار السّاق ، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره ، فقد نصفه .
و " مَا " في " مَا فَرَضْتُمْ " بمعنى " الَّذِي " ، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً .
قوله تعالى : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } في هذا الاستثناء وجهان :
أحدهما : أن يكونَ استثناءً منقطعاً ، قال ابن عطيَّة وغيره : " لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ " .
والثاني : أنه متصلٌ ، لكنه من الأحوال ؛ لأَنَّ قوله : " فنصفُ ما فَرَضْتُمْ " معناه : فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال ، إلا في حال عَفْوِهِنَّ ، فإنه لا يجب ، وإليه نَحَا أبو البقاء{[3908]} ، وهذا ظاهرٌ ، ونظيرُه : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف :66 ] وقال أبو حيان " إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ " أَنْ " وصلتُها حالاً ، كسيبويه{[3909]} ؛ فإنه يمنعُ ذلك ، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً " .
وقرأ الحسن{[3910]} " يَعْفُونَهُ " بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان :
أحدهما : أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف ، والأصلُ : إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ .
والثاني : أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ ، وإنما ضَمَّها ؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ ، كقول الآخر [ الطويل ]
هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ *** . . . {[3911]}
على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً .
وقرأ ابن أبي{[3912]} إسحاق : " تَعْفُونَ " بتاءِ الخطابِ ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ ، وأنه مندوبٌ .
و " يَعْفُونَ " منصوبٌ ب " أَنْ " تقديراً ؛ فإنَّه مبنيٌّ ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ ، هذا رأيُ الجمهور ، وأمَّا ابن درستويه ، والسُّهَيْليُّ : فإنه عندهما معربٌ ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء{[3913]} بين قولك : " الرِّجَالُ يَعْفُونَ " و " النِّسَاءُ يَعْفُونَ " وإنْ كان [ هذا ] من الواضحاتِ بأنَّ قولك " الرِّجَالُ يَعْفُونَ " الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور ، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة ، فإن الأصل : " يَعْفُوونَ " ، فاسْتُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى ، فحُذِفت ، فبقيت ساكنةً ، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ ، فحُذِفت الواو الأولى ؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان ، فوزنهُ " يَعْفُونَ " ، والنونُ علامة الرفع ؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ وأَنَّ قولك : " النِّسَاءُ يَعْفُونَ " ، الواوُ لامُ الفعل ، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ ، والفعل معها مبنيٌّ ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين : وقد ناقش الشيخ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك : " الرِّجَالُ يَعْفُونَ " ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث ، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله .
وقوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي } " أَوْ " هنا فيها وجهان :
والثاني : أنها للتخيير ، والمشهورُ فتحُ الواو ؛ عطفاً على المنصوبِ قبله ، وقرأ الحسن{[3914]} بسكونها واستثقل الفتحة على الواو ، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف ، وسائرُ العرب على استخفافها ، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل - [ الطويل ]
فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ *** أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ{[3915]}
ولمَّا سكَّن الواوَ ، حُذِفَت للساكن بعدها ، وهو اللامُ من " الَّذِي " ، وقال ابنُ عطية " والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم " وقال الخليل : " لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم " عَفْوَة " جمع عَفْو " ، وهو ولدُ الحِمَارِ ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ " انتهى . قال أبو حيَّان : فقوله : " لقلَّةِ مجيئها " ، يعني مفتوحةً ، مفتوحاً ما قبلَها ، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها : إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً ، أو كسرةً ، أو فتحةً ، فإنْ كانَتْ ضمَّةً : فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ ، فإنْ كان في فعلٍ ، فهو كثيرٌ ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ ؛ نحو : " لَنْ يَغْزُوَ " ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها ؛ نحو " هلَ يَغْزُوَنَّ " ، وكذلك الأمر ؛ نحو : " اغْزُوَنَّ " ، وكذا الماضي على " فَعُلَ " في التعجب ؛ نحو : سَرُوَ الرَّجُل ؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب ، فيقولون : " لَقَضُوَ الرَّجُلُ " ، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف ، وإنْ كان ذلك في اسم : فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث ، فيكثر أيضاً ؛ نحو : عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة ، وإنْ كان قبلها فتحة ، فهو قليل ؛ كما ذكر الخليل ، وإن كان قبلها كسرةٌ ، قُلِبت الواوُ ياءً ؛ نحو : الغازي والغازية ، وشَذَّ من ذلك " أَفْرِوَة " جمع " فَرِوَة " ، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب ، و " سَوَاسِوَة " وهم : المستوون في الشَّرِّ ، و " مَقَاتِوَة " جمع مُقْتَو ، وهو السائسُ الخادِمُ ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [ في ] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ ، فليس قولُ ابن عطية " والَّذي عندي إلَى آخره " بظاهر .
والمرادُ بقوله : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } قيل : الزوجُ ، وقيلَ : الولِيُّ و " أل " في النكاح للعهدِ ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ ، أي : نكاحُه ؛ كقوله : [ الطويل ]
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ *** مِنَ الجُودِ ، وَالأَحْلاَمُ غَيْرُ عَوَازِبِ{[3916]}
أي : أحلامُهم ، وهذا رأيُ الكوفيِّين . وقال بعضهم : في الكلامِ حذفٌ ، تقديره : بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ ؛ كما قيل ذلك في قوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } [ البقرة :235 ] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح ، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ .
المراد بقوله : " يَعفُونَ " أي : المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ .
واختلفوا في { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وسعيدُ بن جُبير ، والشعبي ، وشُرَيحٌ ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الزَّوج{[3917]} ، وبه قال أبو حنيفة .
وقال علقمةُ ، وعطاءُ ، والحسنُ ، والزهريُّ ، وربيعةُ : هو الولي{[3918]} ، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ .
الأول : أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته ، صغيرةً كانت ، أو كبيرةً .
الثاني : أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ ، فإذا عقد ، فقد حصل النكاحُ ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج ، لا في يدِ الولي .
الثالث : روي عن جُبير بن مطعم : أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحَقُّ بالعفوِ{[3919]} ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج .
واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ .
أحدها : أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ ، وذلك يكون هبةً ، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً .
وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم ، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها ، عند التزوج ، فإذا طلّق ، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها ، فإذا ترك المطالبة ، فقد عفا{[3920]} عنها .
وأيضاً ، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ ، يقال : فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً ، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة :178 ] فعلى هذا عفو الرجل : أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ .
الثاني : أَنَّ ذكر الزَّوج ، قد تقدَّم في قوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } فلو كان المرادُ ب { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هو الزوج ، لقال : أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب ، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج .
وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة ؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد ، والمعنى : أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج ، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج ، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً .
الثالث : أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح اَلْبَتَّةََ ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة ، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ ، وأمَّا بعد النكاح ، فقد حصل النكاحُ ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح ، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه ، وفي قُدرته عقد النكاح .
قوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ } : " أَنْ تَعْفُوا " في محلِّ رفع بالابتداء ؛ لأنه في تأويل " عَفْوُكُمْ " ، و " أَقْرَبُ " خبره ، وقرأ الجمهور " تَعْفُوا " بالخطاب ، والمرادُ الرجالُ والنساءُ ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ ، والتأنيثُ فرعٌ في اللَّفظ ، والمعنى ؛ أمّا في اللفظ : فإنَّك تقول : " قَائِم " ، وإذا أردت التأنيث ، قلتَ : " قَائِمَة " فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل ، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه ، وأمَّا المعنى : فلأَنَّ الكمال للذُّكور ، والنُّقصانَ للإِناثِ ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير ، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً ؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ ، وهو قوله : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ - [ وهو المختارُ ] - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية ، وقرأ الشَّعبيُّ{[3921]} وأبو نهيك " يَعْفُوا " بياء من تحت ، قال أبو حيَّان{[3922]} جعله غائباً ، وجُمِع على معنى : { الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدٌ يعني أنَّ قوله : " وَأْنْ يَعْفُوا " أصله " يَعْفُوُونَ " ، فلمَّا دخل الناصبُ ، حُذِفت نونُ الرفعِ ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ ، جُمِعَ على معنى الموصُول ؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً ، فهو مجموعٌ في المعنى ؛ لأنه جنسٌ ، ويظهر فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح ، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً ؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن ، تقديره : وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح .
قوله : " لِلتَّقْوَى " متعلِّقٌ ب " أَقْرَبُ " وهي هنا للتعديةِ ، وقيلَ : بل هي للتعليل ، و " أَقْرَبُ " تتعدَّى تارةً باللام ، كهذه الآيةِ ، وتارةً ب " إِلَى " ؛ كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، وليست " إِلَى " بمعنى " اللام " ، وقيل : بل هي بمعناها ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، أعني التجوُّزَ في الحروفِ ، ومعنى اللامِ و " إِلَى " في هذا الموضع يتقارَبُ .
وقال أبو البقاء{[3923]} : يجوزُ في غير القرآن : " أَقْرَبُ مِنَ التقوَى ، وإِلَى التقْوَى " ، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [ معنًى ] غير معنى " إِلَى " ، وغيرِ معنى " مِنْ " ، فمعنى اللامِ : العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى ، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو ، وإذا قلتَ : أقربُ إلى التقوى ، كان المعنى : يقاربُ التقوى ؛ كما تقول : " أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ " ، و " أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى " يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن ، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى ، وليس معنى الآية على هذا . انتهى ، فجعل اللام للعلة ، لا للتعدية ، و " إِلَى " للتعدية .
واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب ، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً ؛ نحو : " مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ " ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ : فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً ، تعدَّيا بالباءِ ؛ نحو : " هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ " ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك ، تعدَّيا باللامِ ، نحو : " مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ " و " أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو " إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب " في " ، نحو : " مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمْرو ، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ " وإلى الفاعل المعنويِّ ب " إِلَى " ، نحو " زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو " ، أي : إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً ، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ .
والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ ، تقديرُه : أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو ، وواوها بدلٌ من ياءٍ ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً ، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة .
وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى ؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه ، فهو محسنٌ ، ومَنْ كان مُحْسِناً ، استحقَّ الثواب ، وإذا استحق الثواب ، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب ، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم ، وترك الظلم تقوى في الحقيقة ؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه ، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره .
قوله : { وَلاَ تَنسَوُواْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ " تَنْسَوا " ؛ لأنها واوُ ضمير ، وقرأ{[3924]} ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو " لَوْ " كما ضَمّوا الواو من " لَو " ؛ تشبيهاً بواو الضمير ، وقال أبو البقاء{[3925]} في واوِ " تَنْسَوا " من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في { اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ } [ البقرة :16 ] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا ، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما .
وقرأ علي{[3926]} رضي الله عنه : " وَلاَ تَنَاسَوا " قال ابن عطيَّة : " وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى ؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ ، لا نِسْيَانٍ ، إلاَّ على التشبيه " ، وقال أبو البقاء{[3927]} : " على باب المفاعلةِ ، وهي بمعنى المتاركةِ ، لا بمعنى السهو " ، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة .
قوله تعالى : " بَيْنَكُمْ " فيه وجهان .
أحدهما : أنه منصوبٌ ب " تَنْسَوا " .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ ، أي كائناً بينَكُمْ ، والأولُ أَوْلَى ؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ ، أي : إفضال بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها ، حثَّهما جميعاً على الإحسان ، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد ، فقال : { إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قال القرطبي{[3928]} : هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين ، والحِرمانُ لغير المحسنين ، أي : لا يخفى عليه عفوكم ، واستقضاؤكم .