تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعۡفُوٓاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (237)

الآية 237 وقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن{[2975]} وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } ذهب قوم إلى ظاهر الآية أنه ذكر فيها : { فنصف ما فرضتم } ولم يخص المفروض في العقد دون المفروض بعد العقد ، فكله مفروض ، فلها نصف المفروض سواء أكان المفروض في العقد أم بعد العقد . وعلى ذلك قال قوم : إن الرجل إذا تزوج امرأة على جارية ، ودفعها إليها ، فولدت عنها ولدا ، ثم طلقها قبل الدخول بها ، فإن{[2976]} له نصف الجارية لأن الله تعالى قال : { فنصف ما فرضتم } ، وأنتم لا تجعلون له نصف ما فرضتم ، فخالفتم ظاهر الكتاب .

أما الجواب لمن جعل المفروض بعد العقد كهو في العقد ما جعل لها نصف ما فرض فإن الخطاب من الله تعالى . إنما خرج في المفروض بهد العقد . إنما يتعارف في العقد ، خرج الخطاب على هذا المتعارف فيهم ، وهو المفروض ، فيجعل لها نصف ذلك وما يفرض بعد العقد ، فإنما يفرض بحق مهر المثل . فإذا وجد الدخول وجب ذلك ، وإلا لم يجب .

وأما الجواب{[2977]} من قال بأنه إذا تزوجها على جارية ، ودفعها إليها ، فولدت ولدا : إن له نصف ما فرض ؛ فإن نقول : إن الآية ليست في الفرض الذي معه آخر : ولد أو غيره . ألا ترى أن الجارية إذا كانت عند الزوج ، فولدت ولدا فإن لها نصف الجارية ونصف الولد ، والولد لم يكن في الفرض وقت العقد{[2978]} . فعلى ذلك الآية ليست في الجارية التي ولدت عندها ، ولكن في الفرض لا زيادة معه . ثم لا يخلو : إما أن يجعل [ له ]{[2979]} نصف الجارية لها دون الولد ، فقد فسخ العقد في الأصل ، فبقي الولد بلا أصل ، فذلك ربا ، وإما أن يجعل له نصف الجارية مع نصف الولد ، وهو غير مفروض ، والله تبارك ، وتعالى ، إنما جعل له نصف ما فرض ، فبطل قول من قال ذلك ، والله أعلم .

قال الشيخ رضي الله عنه : [ في ]{[2980]} قوله : { حقا على المحسنين } قيل : يريد به المؤمنين ، فيكون في هذا التأويل دلالة على ما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه ألا تلتزم الذمي المتعة ، وقيل : على من قصدهم الإحسان إلى الأزواج ، ويتقون الخلاف لما كان عليه النكاح من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، والله الموفق .

واعتل قوم في حق المتعة{[2981]} وكمال المهر انه ذكر في الطلاق لا على تخصيص الحكم له بل بكل ما يكون به تسريحا ، فمثله يكون ذكر المماسة لا على تخصيص ولكن كل ما يكون به تحقيقا{[2982]} ، ولا قوة إلا بالله .

قال : وقدرت المتعة في الاختبار بالقدر الذي كان يمتعها بالإمساك ؛ إذ لابد من كسوتها ليعلم أن ليس للفرار{[2983]} عن ذلك يطلق أو بما به يخرجها من منزله ، فأمر أن يمتعها بما به التي تخرج من المنازل ، وأقل ذلك ثلاثة أثواب ، والله أعلم .

وفي هذه الآيات{[2984]} دلالة واضحة على أن الشيء التافه لا يحتمل أن يكون مهرا لما أوجب عند العدم في مالا تسمية فيه الشيء الخطير ، وهو الذي يمتعها ، وأقل ما تمتع هي له فيه ثلاث أثواب . وفي ما سمي أمر عند ذلك [ العفو ؛ وجبة ]{[2985]} لا يحث على العفو عنها ، ولا يرغب بين الزوجين إلى [ الفضل بمثله ]{[2986]} ، دل على أن لذلك حدا قد يجرى بمثله التنازع ، فيرغبون في إبقاء ذلك واختار ما به التآلف ، على أن ذلك لله ، جل ثناؤه ، وقد جعل إبقاء النكاح بالأموال ، وبها أحل .

وقال في ذي العذر : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح } الآية [ النساء : 25 ] ولو كان{[2987]} بحبة طول عشرة{[2988]} لكان لا أحد يعجز عنها ، فيشترط ذلك في تزويج المملوكة وبخاصة على قول من لا يبيح إلا بالضرورة ؛ فمن رأى يضطر إلى حبة يتوق إلى الاستمتاع فضلا أن يتخير ، ثم على ذلك قال في الإماء : { وآتوهن أجورهن بالمعروف } [ النساء : 25 ] ، والجبة معروف أنها أنكر من المنكر ، فثبت أن مهر الحرائر يرجع بينها{[2989]} ، ويظهر في أهل الحاجة ، وأن القول بجعل الجبة مهرا تاما ، ووصف ملكها بملك الطول [ قول مهجور ]{[2990]} لا معنى له . وبعد فإن الناس قد أجمعوا على أنها لا تملك المعروف ببعضها ، والبذل للزواج بلا بذل يلزمه ، فصار كمتولي العقد على ما ليس لها ، وحظ القليل في مثله والكثير في المنع واحد ، فقياس{[2991]} ذلك ألا يكون الحط من مهر مثلها والجبة لا يتكون مهر مثلها أخبث امرأة في العالم ، فلا يجيء أن يجوز الحط ، ولكن أجبرت{[2992]}العشرة بالاتفاق ، ولم يجز{[2993]} الأكثر للتنازع ، وقد بينا الفساد من طريق التبذير{[2994]} والله أعلم .

وقوله تعالى : { وإلا أن يعفون } قيل : النساء{[2995]} ، [ وقوله ]{[2996]} : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } اختلف أهل التأويل فيه ؛ قال علي وابن عبسا رضي الله عنه [ وهو الزوج ]{[2997]} وقال قوم : وهو والولي ؛ وأمكن أن يكون [ القول بأنه ] الولي لما أن المهور في الابتداء كانت /43-ب/ للأولياء ؛ دليل ذلك قول شعيب لموسى : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } [ القصص : 27 ] ، [ شرط ]{[2998]} المهر لنفسه ، وكما روي في ( الشفاء ){[2999]} ثم نسخ من بعد ، وصار ذلك للنساء بقوله [ { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } ] [ البقرة : 229 ] وقوله : { وآتوا النساء صداقتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء ومنه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } [ النساء : 4 ] وقوله : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتموهن إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } ]{[3000]} [ النساء : 20 ] ، ولأنهم أجمعوا على ألا يجوز لأحد العفو{[3001]} في ملك الآخر إلا بإذنه . فعلى ذلك لما ثبت أن المهر لها لا يجوز [ للولي العفو ]{[3002]} فيه .

وقوله تعالى : { إلا أن يعفون } يعني المرأة تترك النصف ولا تأخذ منه شيئا ، [ وقوله ]{[3003]} : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } يعني الزوج ؛ يجعل لما كل الصداق ؛ يقول : كانت في حبالتي ، ومنعتها من الأزواج ، وتترك المرأة ، لها النصف ، فتقول : لم ينظر إلى عورتي ، ولا تمتع بي ، وهو على الإفضال . وعلى ذلك يخرج قوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } أي لا تنسوا الفضل الذي في ابتداء الأمر ؛ لأن أمر النكاح في الابتداء مبني على التشفع والإفضال ، فرغبهما عز وجل على ختم ذلك على الإنفصال على [ ما ]{[3004]} بني عليه .

وفيه دلالة على أن العفو هو الفضل في اللغة ، وهو البذل ؛ تقول العرب : عفوت لك : أي بذلته ؛ فإن كان العفو هو البذل ، فكان قوله : { فمن عفى له من أخيه شيء } ترك له ، وبذل { فاتباع بالمعروف } [ البقرة : 178 ] : يكون فيه دليل{[3005]} لقول أصحابنا في ذلك .

وقوله تعالى : { وأن تعفو أقرب للتقوى } معناه ، والله أعلم : حق على المتقي أن يرغب فيه ، وكذا قوله : { حقا على المحسنين } [ البقرة : 236 ] أن يرغب فيه . ثم لإضافة ذلك على الرجال وجهان :

أحدهما : لما أنهم هم الذين تركوا حقهم ، ومن عندهم جاء هذا التقصير .

الثاني : أن في تسليم ذلك من الرجال الكمان ، وهم في الأصل موصوفون بالكمال .

قال الشيخ ، رحمه الله : قوله{[3006]} : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } يحتمل اشتراك الزوجين في ذلك لا معنى الأخذ بالعفو . والفضل أولى لمن يريد اتقاء دناءة الأخلاق أو [ المفضل أولى ]{[3007]} ممن أكرم باتقاء الخلاف لله تعالى ، ويحتمل الأزواج بما قد ضمنوا الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، فهو أقرب إلى وفاء ذلك واتقاء الخلاف له ، على أن سبب الفراق جاء منه ، فذلك أقرب لاتقاء الجفاء منهم وأظهر للعذر لهم في ما اختاروا ، والله أعلم .

وقوله : { إن الله بما تعلمون بصير } حرف وعيد عما فيه التعدي ومجاوزة الحد والخلاف لأمره .


[2975]:في الأصل: تماسوهن وهي قراءة حمزة والكسائي انظر حجة القراءات: 137.
[2976]:في النسخ الثلاث: أن.
[2977]:في ط ع: الجواب.
[2978]:من ط ع وم، في الأصل: القصد.
[2979]:من ط ع.
[2980]:من ط ع.
[2981]:في الأصل وم: العقدة، في ط ع: العدة.
[2982]:في ط ه: تخفيفا.
[2983]:في ط ع وم: في الأصل: للفراق.
[2984]:في م: الآية.
[2985]:في ط ه: وجبة، في م: بالعفو وجب.
[2986]:في لنسخ الثلاث: الفضل ممثلة.
[2987]:من م، في الأصل و ط ع: كانت.
[2988]:من م: في الأصل: هرة، في ط ع: حرة.
[2989]:في النسخ الثلاث: يجوز.
[2990]:في النسخ الثلاث: قولا مهجورا
[2991]:في النسخ الثلاث: فقاس.
[2992]:في الأصل و م: أجيز، في ط ه: يجوز.
[2993]:في النسخ الثلاث: يجوز.
[2994]:في النسخ الثلاث: التدبير.
[2995]:في النسخ الثلاث: المرأة.
[2996]:من ط ع.
[2997]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[2998]:من ط ع وم:ساقطة من الأصل.
[2999]:لعله كتاب (شفاء الصدور في تفسير القرن الكريم) لمصنفة أبي بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى / 351 هـ.
[3000]:من ط ع، في الأصل وم: {فإن طبن لكم عن شيء ومنه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} {فلا تأخذوا منه شيئا} وقوله: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء: 4].
[3001]:في النسخ الثلاث: المعروف.
[3002]:في الأصل وم: للمولي المعروف، في ط ع: للولي المعروف.
[3003]:من ط ع.
[3004]:من ط ع وم.
[3005]:في النسخ الثلاث: دليلا.
[3006]:في الأصل وم: وقوله، في ط ع: في قوله.
[3007]:في النسخ الثلاث: أولى المفضل.