فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعۡفُوٓاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (237)

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير 237

( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة ، أي فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهن من المهر ، وهذا مجمع عليه .

وقد وقع الاتفاق أيضا على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات وقد فرض لها مهرا تستحقه كاملا بالموت ولها الميراث وعليها العدة .

واختلفوا في الخلوة هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا ؟ فذهب إلى الأول مالك والشافعي في القديم والكوفيون والخلفاء الراشدون وجمهور أهل العلم وتجب أيضا عندهم العدة ، وقال الشافعي في الجديد : لا يجب إلا نصف المهر ، وهو ظاهر الآية لما تقدم من أن المسيس هو الجماع ، ولا يجب عنده العدة وإليه ذهب جماعة من السلف .

( إلا أن يعفون ) أي المطلقات ومعناه يتركن ويصفحن وهو استثناء مفرغ من أعم العام ، وقيل منقطع ومعناه يتركن النصف الذي يجب لهن على الأزواج ، وروى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال ( إلا أن يعفون ) يعني الرجال وهو ضعيف لفظا ومعنى .

( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) معطوف على محل قوله ( إلا أن يعفون ) لأن الأول مبني وهذا معرب قيل هو الزوج ، وبه قال جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع وابن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبو مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان ، وهو الجديد من قولي الشافعي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي ، ورجحه ابن جرير .

وفي هذا القول قوة وضعف .

أما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج لأنه الذي اليه رفعه بالطلاق ، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول ، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملا غير ظاهر ، لأن العفو لا يطلق على الزيادة ، وقيل المراد بقوله ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) هو الولي ، وبه قال النخعي وعلقمة والحسن وطاوس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة والزهري والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في قوله القديم .

وفيه قوة وضعف .

أما قوته فلكون معنى العفو فيه معقولا ، وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده .

ومما يزيد هذا القول ضعفا أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه .

وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الولي لا يملك شيئا من مالها ، فالراجح ما قاله الأولون لوجهين :

الأول : أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة .

الثاني : أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك المطلق التصرف بخلاف الولي ، وتسمية الزيادة عفوا وإن كان خلاف الظاهر لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملا عند العقد كان العفو معقولا ، لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه .

ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال : إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف لأنه عفو حقيقي أي ترك لما يستحق المطالبة به إلا أن يقال إنه مشاكلة أو تغليب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج .

( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) قيل هو خطاب للرجال والنساء تغليبا أي وعفو بعضكم أيها الرجال والنساء أقرب للتقوى أي من عدم العفو الذي فيه التنصيف ، والمراد بالتقوى الألفة وطيب النفس من الجانبين ، وعليه قراءة الجمهور بالتاء الفوقية ، وقرأ الشعبي و أبو نهيك بالياء التحتية فيكون الخطاب مع الرجال فقط ، وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ، لأن عفو الولي عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب للتقوى ، بل أقرب إلى الظلم والجور ، والمعنى وليعف الزوج فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قبل الطلاق فهو أقرب للتقوى .

( ولا تنسوا الفضل بينكم ) المعنى أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر ، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر ، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضا والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت بينهما من إفضاء البعض إلى البعض ، وهي صلة لا تشبهها وصلة ، فمن رعاية حقها ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح .

( إن الله بما تعملون بصير ) فيه من ترغيب المحسن وترهيب غيره ما لا يخفى .