قوله { الحمد لله } لفظه خبر كأنه ، يخبر عن المستحق للحمد هو الله عز وجل ، وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله . والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة ، يقال حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من نعمة ، وحمدته على علمه وشجاعته ، والشكر لا يكون إلا على النعمة ، والحمد أعم من الشكر ، إذ لا يقال شكرت فلاناً على علمه ، فكل حامد شاكر ، وليس كل شاكر حامدا . وقيل الحمد باللسان قولاً والشكر بالأركان فعلاً قال الله تعالى ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ) ( اعملوا آل داود شكراً ) . يعني اعملوا الأعمال لأجل الشكر ، فشكرا مفعول به وانتصب باعملوا . قوله : { لله } اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد . قوله { رب العالمين الرحمن الرحيم } فالرب يكون بمعنى المالك ، كما يقول لمالك الدار رب الدار ، ويقال رب الشيء إذا ملكه ، ويكون بمعنى التربية والإصلاح ، يقال : رب فلان الضيعة يربها إذا أتمها وأصلحها فهو رب ، مثل طب وبر ، فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق وهو الرب معرفاً ، إنما يقال رب كذا مضافاً لأن الألف واللام للتعميم ، وهو لا يملك الكل ، والعالمين جمع عالم والعالم ، جمع لا واحد له من لفظه ، واختلفوا في العالمين ، قال ابن عباس : هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب ، قال الله تعالى : { ليكون للعالمين نذيراً } وقال قتادة و مجاهد و الحسن : جميع المخلوقين . قال الله تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين ؟ قال رب السماوات والأرض وما بينهما ) واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم . قال أبو عبيد : أربع أمم الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين ، مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم ، لأنها لا تعقل ، واختلفوا في مبلغهم . قال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال مقاتل بن حيان : لله ثمانون ألف عالم ، أربعون ألفاً في البحر ، وأربعون ألفاً في البر ، وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء ، وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين أحد إلا الله قال ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) .
{ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم }
{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .
{ رب العالمين } أي : مالكهم ، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئًا فشيئا درجة الكمال . وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيدًا فيقال : رب الدار ، ورب الضيعة أى : صاحبها ومالكها .
والعالمين : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله - تعالى- . قال القرطبي : " وهو مأخوذ من العلم والعلامة ؛ لأنه يدل على موجده " . وقيل : المراد بالعالمين أولوا العلم من الإِنس والجن والملائكة .
وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } لأنه سبحانه أول كل شئ وآخر كل شئ ، ولكي يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه ، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها ، وتجلو عن القلوب أصداءها . والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصًا لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه مما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد . ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، عن غير استحقاق لهم عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله - تعالى - وأنه ليس لأحد أن ينازعه إياه - سبحانه - هو رب العالمين .
وجملة { الحمد للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم : " الكرم في العرب " . كما أن أل في الحمد " للاستغراق . أي : أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين .
وإنما كان الحمد مقصورًا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم علي .
ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال : احمدوا الله ، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { الحمد للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضى التكليف : والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانًا ، فأراد - سبحانه – وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهد وها ، أن يؤنس نفوسهم ، ويؤلف قلوبهم ، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر ، ترفقا بهم ، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف .
وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { الحمد للَّهِ } ، دون قوله - تعالى - : المدح لله ، أو : الشكر لله . فقال : اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله ، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله .
أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان ، فثبت أن المدح أعم من الحمد . وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام . سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك . وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك ، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل : المدح لله ، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار . فكان قوله : " الحمد لله " تصريحًا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . . . وإنما لم يقل : الشكر لله ، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه . وهذه درجة حقيرة . فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإِخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت . وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين ، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده ، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم ، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم ، أما إذا كان موجهًا ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم ، وفى تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم . فكأنه - سبحانه - يقول لهم : اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي . لأني أنا رب العالمين . وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
القراء السبعة على ضم الدال من قوله : { الحمدُ لِله } وهو مبتدأ وخبر . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا " الحمدَ لِله " بالنصب وهو على إضمار فعل ، وقرأ ابن أبي
عبلة : " الحمدُ لُله " بضم الدال واللام إتباعًا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي : " الحمدِ لِله " بكسر الدال إتباعًا للأول الثاني .
قال أبو جعفر بن جرير : معنى { الحمد لله } الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذَّاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .
[ وقال ابن جرير : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا : { الحمد لله } ]{[879]} .
قال : وقد قيل : إن قول القائل : الحمد لله ، " ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى{[880]} ، وقوله : الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ، ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان{[881]} الآخر .
[ وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية . وقال ابن عباس : { الحمد لله } كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل : { الحمد لله } شكرًا{[882]} ]{[883]} .
وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان ، كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم{[884]} اختلفوا : أيهما أعم ، الحمد أو الشكر ؟ على قولين ، والتحقيق أن بينهما عمومًا وخصوصًا ، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية ، تقول : حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه . وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه{[885]} ، لأنه يكون بالقول والعمل{[886]} والنية ، كما تقدم ، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية ، لا يقال : شكرته لفروسيته ، وتقول : شكرته على كرمه وإحسانه إليّ . هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين ، والله أعلم .
وقال أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول : حَمِدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة{[887]} ، فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . وقال في الشكر : هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، يقال : شكرته ، وشكرت له . وباللام أفصح{[888]} .
[ وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد - أيضا - كما يمدح الطعام والمال ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضًا فهو أعم ]{[889]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو معمر القطيعي ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال عمر : قد عَلِمْنا سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه{[890]} .
ورواه غير أبي مَعْمَر ، عن حفص ، فقال : قال عمر لعلي ، وأصحابه عنده : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، قد عرفناها ، فما الحمد لله ؟ قال{[891]} علي : كلمة أحبها [ الله ]{[892]} لنفسه ، ورضيها لنفسه ، وأحب أن تقال{[893]} .
وقال علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، قال : قال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله ، قال : شكرني عبدي . رواه ابن أبي حاتم .
وروى - أيضًا - هو وابن جرير ، من حديث بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له ، والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك .
وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء الله . وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن . وقد ورد الحديث بنحو ذلك .
قال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السَّكوني ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير ، وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا قلت : الحمد لله رب العالمين ، فقد شكرت الله ، فزادك »{[894]} .
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي ، تبارك وتعالى ؟ فقال : «أما إن ربك يحب الحمد »{[895]} .
ورواه النسائي ، عن علي بن حجر ، عن ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، به{[896]} .
وروى الترمذي ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير ، عن طلحة بن خراش ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله »{[897]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ »{[898]} . وقال القرطبي في تفسيره ، وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال : الحمد لله ، لكان الحمد لله أفضل من ذلك »{[899]} . قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى ، قال الله تعالى : { المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } [ الكهف : 46 ] . وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم : «أن عبدًا من عباد الله قال : يا رب ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء فقالا يا رب ، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قد قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها »{[900]} . وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا : قول العبد : الحمد لله رب العالمين ، أفضل من قول : لا إله إلا الله ؛ لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون : لا إله إلا الله أفضل لأنها الفصل بين الإيمان والكفر ، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر في السنن : " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له »{[901]} . وقد تقدم عن جابر مرفوعا : " أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله " . وحسنه الترمذي .
والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد ، وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث : «اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، وبيدك الخير كله ، وإليك يرجع الأمر كله » الحديث{[902]} .
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والرب هو : المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد ، وعلى المتصرف للإصلاح ، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى .
[ ولا يستعمل الرب لغير الله ، بل بالإضافة تقول : رب الدار رب كذا ، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل ، وقد قيل : إنه الاسم الأعظم ]{[903]} . والعالمين : جمع عالم ، [ وهو كل موجود سوى الله عز وجل ]{[904]} ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات [ في السماوات والأرض ]{[905]} في البر والبحر ، وكل قرن منها وجيل يسمى عالمًا أيضًا .
قال بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات والأرضون ، ومن فيهن وما بينهن ، مما نعلم ، وما لا نعلم .
وفي رواية سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس : رب الجن والإنس . وكذلك قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وابن جريج ، وروي عن علي [ نحوه ]{[906]} . وقال{[907]} ابن أبي حاتم : بإسناد لا يعتمد عليه .
واستدل القرطبي لهذا القول بقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] وهم الجن والإنس . وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم : عالم ، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلاء{[908]} كل ما له روح يرتزق . وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم - وهو آخر خلفاء بني أمية ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار - أنه قال : خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائر ذلك لا يعلمه{[909]} إلا الله ، عز وجل .
وقال قتادة : رب العالمين ، كل صنف عالم . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى { رب العالمين } قال : الإنس عالم ، والجن عالم ، وما سوى{[910]} ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ، هو يشك ، من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم ، وخمسمائة عالم ، خلقهم [ الله ]{[911]} لعبادته . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
[ وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح ]{[912]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب{[913]} بن سمي ، عن تُبَيع ، يعني الحميري ، في قوله : { رب العالمين } قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر .
[ وحكي مثله عن سعيد بن المسيب ]{[914]} .
وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي ، أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه ، فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق ، يسأل : هل رئي من الجراد شيء أم لا ؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «خلق الله ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلك{[915]} تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه »{[916]} . محمد بن عيسى هذا - وهو الهلالي - ضعيف .
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لله ألف عالَم ؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال وهب بن منبه : لله ثمانية عشر ألف عالَم ؛ الدنيا عالم منها . وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفًا . وقال كعب الأحبار : لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل . نقله كله البغوي ، وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن لله أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها ، وقال الزجاج : العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة . قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين ؛ كقوله : { قال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } والعالم مشتق من العلامة ( قلت ) : لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :
{ الحمد لله } الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها ، والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا ، تقول حمدت زيدا على علمه وكرمه ، ولا تقول حمدته على حسنه ، بل مدحته وقيل هما أخوان ، والشكر : مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
فهو أعم منهما من وجه ، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة ، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد ، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام : " الحمد رأس الشكر ، وما شكر الله من لم يحمده " .
والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر . ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه . وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها ، والتعريف فيه للجنس ومعناه : الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو ؟ أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كله له ، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى وما { بكم من نعمة فمن الله } وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم . إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه . وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة .
{ رب العالمين } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل . وقيل هو نعت من ربه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه . ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله { ارجع إلى ربك } والعالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم . وقيل اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع . وقيل عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقرئ { رب العالمين } بالنصب على المدح . أو النداء . أو بالفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها .