27- ألم تر - أيها العاقل - أنَّ الله أنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها ، منها الأحمر والأصفر والحلو والمر والطيب والخبيث ، ومن الجبال جبال ذوو طرائق وخطوط بيض وحمر مختلفة بالشدة والضعف{[187]} .
ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك أدلة أخرى على عظيم قدرته . وبين من هم أولى الناس بخشيته ، ومدح الذين يكثرون من تلاوة كتابه ، ويحافظون على أداء فرائضه ، ووعدهم على ذلك بالأجر الجزيل فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ . . . بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } . .
لتقرير ما قبله ، من أن اختلاف الناس فى عقائدهم وأحوالهم أمر مطرد ، وأن هذا الاختلاف موجود حتى فى الحيوان والحجارة والنبات . .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك ، فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت فى ذلك أجريت مجرى المثل فى هذا الباب ، بأن شبه من لم ير الشئ ، بحال من رآه . فى أنه لا ينبغى أن يخيفى عليه ، ثم أجرى الكلام معه . كما يجرى مع من رأى ، قصداً إلى المبالغة فى شهرته . .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى له الخطاب ، بتقرير دليل من أدلة القدرة الباهرة .
والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - علماً لا يخالطه شك ، أن الله - تعالى - أنزل من السماء ماء كثيراً ، فأخرج بسببه من الأرض ، ثمرات مختلفاً ألوانها . فبعضها أحمر ، وبعضها أصفر ، وبعضها أخضر . . وبعضها حلو المذاق ، وبعضها ليس كذلك ، مع أنها جميعاً تسقى بماء واحد ، كما قال - تعالى - : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وجاء قوله { فَأَخْرَجْنَا } على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى التكلم ، لإِظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة ، ولأن المنة بالإِخراج أبلغ من إنزال الماء .
وقوله { مُّخْتَلِفاً } صفة لثمرات ، وقوله { لْوَانُهَا } فاعل به .
وقوله - تعالى - : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } معطوف على ما قبله ، لبيان مظهر آخر من مظاهر قدرته - عز وجل .
قال القرطبى ما ملخصه : " الجدد جمع جُدَّة - بضم الجيم - وهى الطرائق المختلفة الألوان " . . والجُدَّة : الخطة التى فى ظهر الحمار تخالف لونه . والجدة : الطريق والجمع جدد . . أى : طارئق تخاف لون الجبل ، ومنه قولهم : ركب فلان جُدَّة من الأمر ، إذا رأى فيه رأيا .
وغرابيب : جمع غربيب ، وهو الشئ السواد ، والعرب تقول للشئ الشديد السواد ، أسود غربيب .
وقوله : { سُودٌ } بدل من { وَغَرَابِيبُ } .
أى : أنزلنا من السماء ماء أخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ، وجعلنا بقدرتنا من الجبال قطعاً ذات ألوان مختلفة ، فمنها الأبيض ، ومنها الأحمر ، ومنها ما هو شديد السواد ، ومنها ما ليس كذلك ، مما يدل على عظيم قدرتنا . وبديع صنعنا .
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد ، وهو الماء الذي ينزله من السماء ، يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها ، من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض ، إلى غير ذلك من ألوان الثمار ، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى{[24515]} بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد : 4 ] .
وقوله تبارك وتعالى : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي : وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان ، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر ، وفي بعضها طرائق - وهي : الجُدَد ، جمع جُدّة - مختلفة الألوان أيضا .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : الجُدَد : الطرائق . وكذا قال أبو مالك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي . {[24516]}
ومنها { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } ، قال عكرمة : الغرابيب : الجبال الطوال السود . وكذا قال أبو مالك ، وعطاء الخراساني وقتادة .
وقال ابن جرير : والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد ، قالوا : أسود غربيب .
ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية : هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى : { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } أي : سود غرابيب . وفيما قاله نظر .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أن الله أنزل من السماء غيثا ، فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها يقول : فسقيناه أشجارا في الأرض ، فأخرجنا به من تلك الأشجار ثمرات مختلفا ألوانها ، منها الأحمر ، ومنها الأسود والأصفر ، وغير ذلك من ألوانها وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ يقول تعالى ذكره : ومن الجبال طرائق ، وهي الجدد ، وهي الخطط تكون في الجبال بيض وحمر وسود ، كالطرق واحدتها جدّة ومنه قول امرىء القيس في صفة حمار :
كأنّ سَرَاتَهُ وَجُدّةَ مَتْنِهِ *** كَنائِنُ يَجْرِي فَوْقَهُنّ دَلِيصُ
يعني بالجدّة : الخطة السوداء تكون في متن الحمار .
وقوله : مُخْتَلِفٌ ألْوَانُها يعني : مختلف ألوان الجدد وَغَرَابِيبُ سُودٍ ، وذلك من المقدّم الذي هو بمعنى التأخير وذلك أن العرب تقول : هو أسود غربيب ، إذا وصفوه بشدّة السواد ، وجعل السواد ههنا صفة للغرابيب
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } .
استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خِلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جِبلِّي فَطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن .
وضُرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلاً لاختلاف البواطن تقريباً للأفهام ، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئِبُّ إليه الأفهام عند سماع قوله : { إن الله يسمع من يشاء } [ فاطر : 22 ] .
والرؤية بصرية ، والاستفهام تقريري ، وجاء التقرير على النفي على ما هو المستعمل كما بيناه عند قوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } في سورة الأعراف ( 148 ) وفي آيات أخرى .
وضمير { فأخرجنا } التفات من الغيبة إلى التكلم .
والألوان : جمع لون وهو عَرَض ، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيِّفه النورُ كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها إلى عدسات الأعين من شبه الظلمة وهو لون السواد وشِبه الصبح هو لون البياض ، فهما الأصلان للألوان ، وتنشق منها ألوان كثيرة وضعت لها أسماء اصطلاحية وتشبيهية . وتقدم عند قوله تعالى : { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } في سورة البقرة ( 69 ) ، وتقدم في سورة النحل .
والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل ، وألوان العنب مع ألوان التين ، واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمان .
وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع كقوله تعالى : { تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [ الرعد : 4 ] وذلك أرعى للاعتبار .
وجيء بالجملتين الفعليتين في { أنزل } و « أخرجنا » لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا فآنا .
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : { أنزل } وقوله : « أخرجنا » لأن الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات .
وضمير التكلم أنسب بِما فيهِ امتنان .
وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف الناس في المنافع والمدارك والعقائد . وفي الحديث : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمْرة طعمُها طيّب ولا ريح لها ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحُها طيّب وطعمها مُرّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها " .
وجرد { مختلفاً } من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأنُ النعت السَببي أن يوافق مرفوعه في التذكر وضده والإِفراد وضده ، ولا يوافق في ذلك منعوته ، لأنه لما كان الفاعل جمعاً لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزاً في الاستعمال ، وآثره القرآن إيثاراً للإِيجاز .
والمراد بالثمرات : ثمرات النخيل والأعناب وغيرها ، فثمرات النخيل أكثر الثمرات ألواناً ، فإن ألوانها تختلف باختلاف أطوارها ، فمنها الأخضر والأصفر والأحمر والأسود .
{ وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وغرابيب سود } .
عطف على جملة { ألم تر أن الله } فهي مثلها مستأنفة ، وعطفها عليها للمناسبة الظاهرة .
و { جدد } مبتدأ { ومن الجبال } خبره . وتقديم الخبر للاهتمام وللتشويق لذكر المبتدأ حثّاً على التأمل والنظر .
و { من } تبعيضية على معنى : وبعض تراب الجبال جُدَد ، ففي الجبل الواحد توجد جُدد مختلفة ، وقد يكون بعض الجُدَد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض آخر .
و { جُدَد } : جمع جُدّة بضم الجيم ، وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه . يقال للخطة السوداء التي على ظهر الحمار جُدّة ، وللظبي جدّتان مسكيّتا اللون تفصلان بين لوني ظهره وبطنه ، والجدد البيض التي في الجبال هي ما كانت صخوراً بيضاء مثل المروة ، أو كانت تقرب من البياض فإن من التراب ما يصير في لون الأصهب فيقال : تراب أبيض ، ولا يعنون أنه أبيض كالجير والجص بل يعنون أنه مخالف لغالب ألوان التراب ، والجُدَد الحُمر هي ذات الحجارة الحمراء في الجبال .
و { غرابيبُ } جمع غربيب ، والغربيبُ : اسم للشيء الأسود الحالك سواده ، ولا تعرف له مادة مشتق هو منها ، وأحسب أنه مأخوذ من الجامد ، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد .
{ وسود } جمع أسود وهو الذي لونه السواد .
فالغربيب يدل على أشد من معنى أسود ، فكان مقتضى الظاهر أن يكون { غرابيب } متأخراً عن { سود } لأن الغالب أنهم يقولون : أسود غربيب ، كما يقولون : أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قان ، ولا يقولون : غربيب أسود وإنما خولف ذلك للرعاية على الفواصل المبنية على الواو والياء الساكنتين ابتداءً من قوله : { واللَّه هو الغني الحميد } [ فاطر : 15 ] ، على أن في دعوى أن يكون غربيباً تابعاً لأسود نظراً والآية تؤيد هذا النظر ، ودعوى كون { غرابيب } صفة لمحذوف يدل عليه { سود } تكلف واضح ، وكذلك دعوى الفراء : أن الكلام على التقديم والتأخير ، وغرض التوكيد حاصل على كل حال .