البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ} (27)

الجدد : جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل ، كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً .

وقال الزمخشري : والجدد : الخطط والطرائق .

وقال لبيد : أو مذهب جدد على الواحد ، ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه . انتهى .

وقال الشاعر :

كأن مبرات وجدة ظهره *** كنائن يجري بينهن دليص

الجدة : الخط الذي في وسط ظهره ، يصف حمار وحش .

الغربيب : الشديد السواد .

لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها ، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال : { ألم تر } ، وهذا الاستفهام تقريري ، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً .

والخطاب للسامع ، وتر من رؤية القلب ، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل ، وإن كان إنزال المطر مشاهداً بالعين ، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها .

وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : { فأخرجنا } ، لما في ذلك من الفخامة ، إذ هو مسند للمعظم المتكلم .

ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج ، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم ، وما دونه بضمير الغائب .

والظاهر أن الألوان ، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك ، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ .

وقرأ الجمهور : { مختلفاً ألوانها } ، على حد اختلف ألوانها .

وقرأ زيد بن علي : مختلفة ألوانها ، على حد اختلفت ألوانها ، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء ، وأن لا تلحق .

وقرأ الجمهور : { جُدَد } ، بضم الجيم وفتح الدال ، جمع جدة .

قال ابن بحر : قطع من قولك : جددت الشيء : قطعته .

وقرأ الزهري : كقراءة الجمهور .

قال صاحب اللوامح : جمع جدة ، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها .

وعنه أيضاً ، بضم الجيم والدال : جمع جديدة وجدد وجدائد ، كما يقال في الاسم : سفينة وسفن وسفائن .

قال أبو ذؤيب :

جون السراة أم جدائد أربع . . .

وعنه أيضاً : بفتح الجيم والدال ، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى ، ولا صححه أثراً .

وقال غيره : هو الطريق الواضح المبين ، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض .

وقال أبو عبيدة : يقال جدد في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية .

وقال صاحب اللوامح : جدد جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان . انتهى .

وقال : مختلف ألوانها ، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف ، فأبيض لا يشبه أبيض ، وأحمر لا يشبه أحمر ، وإن اشتركا في القدر المشترك ، لكنه مشكل .

والظاهر عطف { وغرابيب } على { حمر } ، عطف ذي لون على ذي لون .

وقال الزمخشري : معطوف على { بيض } أو على { جدد } ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد .

وقال بعد ذلك : ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله : { ومن الجبال جدد } ، بمعنى : ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى تؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : { ثمرات مختلفاً ألوانها } .

والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب ، وهو الشديد السواد ، لم يذكر فيه مختلف ألوانه ، لأنه من حيث جعله شديد السواد ، وهو المبالغ في غاية السواد ، لم يكن له ألوان ، بل هذا لون واحد ، بخلاف البيض والحمر ، فإنها مختلفة .

والظاهر أن قوله : { بيض حمر } ليسا مجموعين بجدة واحدة ، بل المعنى : جدد بيض ، وجدد حمر ، وجدد غرابيب .

ويقال : أسود حلكوك ، وأسود غربيب ، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعاً .

فقال ابن عطية : قدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر ، وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا .

وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للاسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد ، كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق ، وما أشبه ذلك ؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله ، فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر ، كقول النابغة :

والمؤمن العائذات الطير . . .

وإنما يفعل لزيادة التوكيد ، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعاً . انتهى .

وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد .

ومن النحاة من منع ذلك ، وهو اختيار ابن مالك .

وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي سود غرابيب .

وقيل : سود بدل من غرابيب ، وهذا أحسن ، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً ، ومنه ما جاء في الحديث : « أن الله يبغض الشيخ الغربيب » ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقال الشاعر :

العين طامحة واليد سابحة *** والرجل لائحة والوجه غربيب

وقال آخر :

ومن تعاجيب خلق الله غالية *** البعض منها ملاحيّ وغربيب