قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } قيل : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم{[45254]} - وفيه حمكة وهي أن اله تعالى لما ذكر الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا . ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه إشْعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبيِّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيما كان من النصيحة{[45255]} .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا } هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء و «مُخْتلِفاً » نعت «لَثَمَرَاتٍ »{[45256]} و «ألوانها » فاعل{[45257]} به ولولا ذلك لأنَّث «مختلفاً » ولكنه لما أسند إلى جميع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنث فقيل مختلفة كما يقول اختلفتْ ألوانُها لجاز . وبه قرأ{[45258]} زيدُ بن علي .
قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع «جُدَّةٍ » وهي الطريقة قال ابن بحر{[45259]} : قِطَعٌ من قولك : جَدَدْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ{[45260]} وقال أبو الفضل الرازي : هي ما يخالف من الطرائق لون ما يليها{[45261]} ومنه جُدّة الحمار للخط الذي في ظهره{[45262]} وقرأ الزُّهْرِيُّ{[45263]} جُدُد بضم الجيم والدال{[45264]} جمع جَدِيدَةٍ يقال : جَدِيدَة وجُدُد وجَدَائِدُ ، قال أبو ذؤيب :
4158- . . . . . . . . . . . . . . . . جَوْنُ السَّرْاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ{[45265]}
نحو : سِفِينةٍ وسُفُنٍ وسَفَائِنَ . وقال أبو الفضل : جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان{[45266]} وعنه أيضاً جَدَدٌ{[45267]} بفتحهما ، ورد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثَرِ والمعنى{[45268]} وقد صححها غيره وقال : الجَدد الطريق الواضح البيِّن ، إلا نه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط{[45269]} .
قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } مختلف صفة «لجُدَد » أيضاً ، «ألوانها » فاعل به كما تقدم في نظيره{[45270]} ولا جائز أن يكون «مُخْتَلِفٌ »{[45271]} خبراً مقدماً و «ألوانها » مبتدأ مؤخر والجملة صفة ؛ إذ كان يجب أن يقال مختلفة لِتَحَمُّلِهَا ضمير المبتدأ{[45272]} وقوله : { أَلْوَانُهَا } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرُبَّ أبْيَضَ أشدَّ من أبْيَضَ وأحْمَرَ أشدَّ من أحْمَرَ فنفيس{[45273]} البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها{[45274]} فيكون من باب المُشْكِل .
والثاني : أن الجُدَد كلها على لونين بياض وحمرة فالبياض والحمرة وإن كان لونين إلا أنهما جمعا باعتبار مَحَالِّهِمَا{[45275]} .
قوله : { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه معطوف على «حُمْرٌ » عطفُ ذِي لَوْنٍ على ذِي لَوْنٍ{[45276]} .
والثاني : أنه معطوف على «بيض » .
الثالث : أنه معطوف على «جدد »{[45277]} ، قال الزمخشري : معطوف على بيض ( أَ ){[45278]} وعلى «جدد » كأنه قيل : ومن الجبال مُخَطّط ذُوجدد ومنها ما هو على لون واحدٍ . ثم قال : ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله : «ومن الجبال جدد » بمعنى ومن الجبال ذُو جُدَد بيضٌ وحمرٌ وسودٌ حتى يؤول إلى قول : وَمِنَ الْجِبَالِ مختلف ألوانها ) ){[45279]} كما قال { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا }{[45280]} ولم يذكر بعد غرابيب سود ( مختلفاً ألوانها ) كما ذكر ذلك بعد » بيض وحمر «لأن الغِرْبِيبَ هو البَالِغُ في السواد فصار لوناً واحداً غير متفاوت بخلاف ما تقدم .
وغرابيب : جمع غِرْبيب وهو الأسود المتناهي في السواد{[45281]} .
فهو تابع للأسود كقانٍ{[45282]} وناصع{[45283]} وناضر{[45284]} ويَقَقٍ{[45285]} ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير{[45286]} ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصفة على موصوفها وأَنْشَدُوا :
4159- والْمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ يَمْسَحُهَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[45287]}
يريد : والمؤمن الطيْرَ العَائِذَاتِ ، وقول الآخر :
4160- وبالطَّوِيل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[45288]} . .
يريد : وبالعمر الطويل . والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثَّاني بدلٌ من الأول ( ( فسودٌ والطيرُ والعمرُ ) ) أبدالٌ مما قبلها{[45289]} وخرَّجها الزَّمَخْشَريُّ وغيرهُ على أنه حذف الموصوف وقامت صفته مَقَامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري : الغِرْبيبُ تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفرُ فاقعٌ وأبيضُ يَقَق{[45290]} ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر كقوله : » والْمؤْمِن العَائِذَات الطَّير «وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار{[45291]} ، يعني فيكون الأصلُ وسودٌ غرابيبُ سود والمؤمن الطير العائذات الطير . قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يُجَوِّز حذفَ{[45292]} المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك{[45293]} قال شهاب الدين : ليس{[45294]} هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيداً من حيث إنَّهَا لا تفيد معنى زائداً إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول تأكيداً فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو : { نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } [ ص : 23 ] و { إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصَّنَاعِيّ{[45295]} .
ومذهب سيبويه جوازه ، أجاز : » مَرَرْتُ بأَخْوَيْك أَنْفُسُهَما «بالنصب والرفع على تقدير أَعْيُنِهِما أنْفُسِهما أو هُمَا أَنْفُسُهُمَا فأين هذا من ذاك إلا أنه يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد » غرابيب «ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسراً لذلك المحذوف وهذا إنما عهد في الجمل لا في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه ؟ والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود{[45296]} .
قوله : «مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ » «مُخْتَلِف » نعت لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومِنَ النَّاس صِنْفٌ أو نَوْغٌ مختلف{[45297]} ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله :
4161- كَناطحٍ صَخْرَةً لِيَفْلِقَهَا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[45298]}
وقرأ ابن السَّمَيْقَع ألوانها{[45299]} وهو ظاهر وقرأ الزهري{[45300]} «وَالدَّوَابِ » خفيفة الباء{[45301]} هرباً من التقاء ساكنين{[45302]} كما حرك أولهما في الضّالين{[45303]} وجانَّ .
قال ابن الخطيب في الآية لطائف الأولى : قوله : «أَنْزَلَ » وقال : «أَخْرَجْنَا » وفائدته أن قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم . وأيضاً فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل وقرب التفكير فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال : أخْرَجْنَا ، لقربه وأيضاً فالإخراج أتم نعمة من الإنزال ، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسْنَدَ ( تعالى ){[45304]} الأتمَّ إلى نفسه بصيغة المتلكم وما دونه بصيغة المخاطب الغائب . الثانية : قال تعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } كأَنَّ قائلاً قال : اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض النباتات لا تَنْبُتُ{[45305]} ببعض البلاد كالزَّغْفَرَانِ فقال تعالى : اختلاف البِقاع ليس إلا بإرادة الله ( تعالى ){[45306]} وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمرٌ ومواضع بيضٌ .
فإن قيل : الواو في «وَمِنَ الْجِبَالِ » ما تقديرها ؟ هي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للاستئناف كأنه تعالى قال : «أخْرَجْنَا بالماء ثمراتٍ مختلفة الألوان وفي الجبال{[45307]} جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من{[45308]} ينكر الإرادة في اختلاف ألوان{[45309]} الثمار .
ثانيهما : أن تكون للعطف والتقدير وخُلِقَ مِن الجبال جددٌ » بِيضٌ « .
قال الزمخشري : أراد ذُو جُدَدٍ .
الثالثة{[45310]} : ذكر الجبال ولم يذكر الآية في ( الأرض ) كما قال في موضع آخر : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [ الرعد : 4 ] مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } كان نفس إخراج الثِّمار{[45311]} دليلاً على القدرة ثم زاد عليه بياناً وقال : » مختلفاً «كذلك في الجبال في نفسها دليل القدرة{[45312]} والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار . ثم زاد بياناً وقال : » جُدَدٌ بِيضٌ «أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل .
الرابع : قوله : » مُخْتَلِفاً{[45313]} ألوانها «الظاهر أن الاختلاف راجعٌ إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مخلتف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجِصّ وقد يكون على لون التُّراب الأبيض وبالجلمة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في الحمرة ولو كان المراد البيض والحُمْر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول أولى .
وعلى هذا ذكر «مختلفٌ ألوانها » في البيض والحمر وأخر «السود الغرابيب » لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغِرْبيب يكون بالغاً غايةَ السواد فلا يكون فيه اختلافٌ .
قوله : { وَمِنَ الناس والدواب والأنعام } استدلال آخر على قدرة الله وإرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير حيوان وهو إما نبات وإما معدِن والنبات أشرف فأشار إليه بقوله : { فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ } ثم ذكر المعدن بقوله : { وَمِنَ الجبال }