السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ} (27)

ولما ذكر تعالى الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم بقوله تعالى :

{ ألم تر } أي : تعلم أي : أيها المخاطب { أن الله } أي : الذي له جميع صفات الكمال { أنزل من السماء ماء } كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر ما ذكره للأول ، ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة ، وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه ؛ لئلا يسمع الأول كلام الآخر فيترك التفكر فيما كان وقوله تعالى { فأخرجنا } أي : بما لنا من القدرة والعظمة { به } أي : بالماء { ثمرات } أي : متعددة الأنواع ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان ذلك ؛ لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء وقوله تعالى : { مختلفاً } نعت لثمرات وقوله تعالى : { ألوانها } فاعل به ، ولولا ذلك لأنث مختلفاً ، ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ، ولو أنث فقيل : مختلفة كما تقول : اختلفت ألوانها لجاز أي : مختلفة الأجناس من الرمان والتفاح والعنب وغيرها مما لا يحصر أو الهيئات من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها ، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر .

ولما ذكر تعالى تنوع ما من الماء وقدمه ؛ لأنه الأصل في التكوين أتبعه التكوين من التراب الذي هو أيضاً شيء واحد بقوله تعالى ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التكوين : { ومن الجبال جدد } قال الجلال المحلّي رحمه الله تعالى : جمع جدة : طريق في الجبل وغيره وقال الزمخشري : الجدد الخطوط والطرائق ، وقال أبو الفضل : الجدة ما تخالف من الطرائق لون ما يليها ، ومنه جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه { بيض وحمر } وصفر وقوله تعالى { مختلف } صفة لجدد وقوله تعالى { ألوانها } فاعل به كما مر في نظيره ، ويحتمل معنيين : أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرب أبيض أشد من أبيض وأحمر أشد من أحمر فنفس البياض مختلف وكذا الحمرة ، فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكك . والثاني : أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة والبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محلهما .

وقوله تعالى { وغرابيب سود } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه معطوف على حمر عطف ذي لون على ذي لون . ثانيها : أنه معطوف على بيض . ثالثها : واقتصر عليه الجلال المحلي أنه معطوف على جدد أي : صخور شديدة السواد قال الجلال المحلي : يقال كثيراً : أسود غربيب ، وقليلاً غربيب أسود ، وقال البغوي : أي : سود غرابيب على التقديم والتأخير يقال : أسود غربيب أي : شديد السواد تشبيهاً بلون الغراب أي : طرائق سود ، وعن عكرمة : هن الجبال الطوال السود ، وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للأسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده مفسراً لما أضمر كقوله النابغة الجعدي :

والمؤمن العائذات الطير تمسحها *** ركبان مكة بين الغيل والسَنَد

هما موضعان والمؤمن : اسم الله وهو مجرور بالقسم والعائذات : منصوب بالمؤمن والمراد بها : الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم التعرض لها ، والطير منصوب بالبدل أو بعطف البيان ، ووجه الاستدلال بذلك : أن الطير دال على المحذوف وهو مفعول لمؤمن والعائذات الطير ، قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ، ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك ، ورد عليه بأن هذا ليس هو التأكيد المختلف في حذف مؤكده ؛ لأن هذا من باب الصفة والموصوف ومعنى تسميه الزمخشري له توكيداً من حيث إنه لا يفيد معنى زائداً وإنما يفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون ، والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول توكيداً فقالوا : وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو قوله تعالى { نفخة واحدة } ( الحاقة : 13 ) و{ إلهين اثنين } ( النحل : 51 ) والتوكيد المختلف في حذف مؤكده ، إنما هو في باب التوكيد الصناعي ، ومذهب سيبويه جوازه ، وقال ابن عادل : والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود .