11- إن الذين اخترعوا الكذب الصارف عن كل هداية بالنسبة لعائشة زوج النبي - صلي الله عليه وسلم - إذ أشاعوا حولها الإفك والكذب - هم جماعة ممن يعيشون معكم ، لا تظنوا هذه الحادثة شراً لكم بل هي خير لكم ، لأنها ميَّزت المنافقين من المؤمنين الخالصين ، وأظهرت كرامة المبرئين منها ، والمتألمين ، ولكل شخص من هذه الجماعة المتهمة جزاؤه علي مقدار اشتراكه في هذا الاتهام ، ورأس هذه الجماعة له عذاب عظيم لعظم جرمه .
قوله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنبأنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصاً ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضاً . وإن كان بعضهم أوعى له من بعض قالوا : قالت عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب ، فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت ، فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه . قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول . قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه . وقال عروة أيضاً : لم يسم من أهل الإفك أيضاً إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة ، كما قال الله تعالى : { والذي تولى } كبر ذلك عبد الله بن أبي سلول ، قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان ، وتقول : إنه الذي قال :
فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهراً ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا ، كنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا . قالت : فانطلقت ، أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت : فقلت ما قال ، فأخبرتني بقول أهل الإفك ، قالت فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت فقلت : سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . قالت : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيراً ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك الخبر ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمضه غير أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي ، قالت : فقام سعد ابن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فعلنا أمرك ، قالت : وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم لسعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتله ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت . قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، قالت وأصبح أبواي عندي ، قالت : وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ، ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي ، وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال أبي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبا يوسف حين قال : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة أما والله فقد برأك الله ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } العشر الآيات ، ثم أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة } إلى قوله { غفور رحيم } قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً . قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة ، وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك . قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط . قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله .
ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله ، وقال : " وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه ، إلى قوله : فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك . ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فقالت : ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي ، فقالت : لا والله ما علمت عليها عيباً إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، فقال : اصدقي رسول الله حتى أسقطوا المهابة ، فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وفيه قالت : وأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ، ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك ، فقال لي أبواي : قومي إليه ، فقلت : لا والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمد أحداً ، ولكن أحمد الله الذي برأءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه " . أما تفسير قوله : { إن الذين جاؤوا بالإفك } بالكذب ، وهو أسوأ الكذب ، سمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق ، من قولهم : أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه ، عصبة منكم أي : جماعة منهم عبد الله بن أبي بن سلول ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، زوجة طلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ، { لا تحسبوه شراً لكم } يا عائشة ويا صفوان ، وقيل : هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي صلى الله عليه وسلم ولصفوان ، يعني : لا تحسبوا الإفك شراً لكم ، { بل هو خير لكم } لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم . وسمي الإفك إفكا لكونه مصروفا عن الحق من قولهم أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف ، فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه . قوله تعالى : { لكل امرئ منهم } يعني من العصبة الكاذبة { ما اكتسب من الإثم } أي : جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ، { والذي تولى كبره } أي : تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، قرأ يعقوب كبره بضم الكاف ، وقرأ العامة بالكسر ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الضحاك : قام بإشاعة الحديث ، وهو عبد الله بن أبي بن سلول . وروى الزهري عن عروة بن عائشة { والذي تولى كبره منهم } قالت : عبد الله بن أبي بن سلول ، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة . وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : " ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي ، رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها . وشرع في ذلك أيضاً حسان ابن ثابت ، ومسطح ، وحمنة ، فهم الذين تولوا كبره . وقال قوم : هو حسان بن ثابت " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا بشر بن خالد ، أنبأنا محمد بن جعفر عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : " دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له ، وقال :
حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً ثمانين ثمانين .
وبعد أن بين - سبحانه - حكم القذف بالنسبة للمحصنات . وبالنسبة للزوجات ، أتبع - عز وجل - ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - . ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه فى مثل هذه الأحوال ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " هذه الآيات نزلت فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التى غار الله - تعالى - لها ولنبيه صلى الله عليه وسلم فأنزل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم .
جاء فى الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى - وكان ذلك فى غزوة بنى المصطلق على الأرجح - ، فخرجت مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أُنزل الحجاب ، وأنا أُحمل فى هودج وأنزل فيه .
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش .
فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الراحلة ، فلمست صدرى ، فإذا عقد لى قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدى فاحتبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بى ، فاحتملوا هودجى ، فرحلوه على بعيرى . وهم يحسبون أنى فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدى بعد ما سار الجيش . فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم فيممت منزلى الذى كنت فيه . وظننت أن القوم سيفقدوننى فيرجعون إلى .
فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عيناى فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمى ، قد عرَّس - أى تأخر - من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلى فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى فعرفنى حين رآنى . وقد كان يرانى قبل أن يُضْرَب علينا الحجاب .
فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفنى . فخمرت وجهى بجلبابى ، والله ما كلمنى كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ، فوطىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بى الراحلة . حتى أتينا الجيش ، بعدما نزلوا فى نحو الظهيرة . فهلك من هلك فى شأنى ، وكان الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول . . . " .
وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } .
والإفك : أشنع الكذب وأفحشه ، يقال أفِكَ فلان - كضرب وعلم - أَفْكاً ، أى : كذب كذبا قبيحا .
والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، من العصب وهو الشد ، لأن كل وأحد منها يشد الآخر ويؤازره .
أى : إن الذين قالوا ما قالوا من كذب قبيح ، وبهتان شنيع ، على السيدة عائشة - رضى الله عنها - هم جماعة ينتسبون إليكم - أيها المسلمون - بعضهم قد استزلهم الشيطان .
- كمسطح بن أثاثة - وبعضهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق - كعبد الله بن أبى بن سلول - وأتباعه .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { عُصْبَةٌ } : إشعار بأنهم جماعة لها أهدافها الخبيثة ، التى تواطئوا عل نشرها ، وتكاتفوا على إشاعتها ، بمكر وسوء نية .
وقوله - سبحانه - : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ . . } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين الصادقين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث البالغ نهاية دركات الكذب والقبح .
أى : لا تظنوا - أيها المؤمنون - أن حديث الإفك هذا هو شر لكم ، بل هو خير لكم ، لأنه كشف عن قوى الإيمان من ضعيفة . كما فضح حقيقة المنافقين وأظهر ما يضمرونه من سوء للنبى صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته ، وللمؤمنين ، كما أنكم قد نلتم بصبركم عليه وتكذيبكم له أرفع الدرجات عند الله تعالى .
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الخائضين فى حديث الإفك من عقاب فقال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } .
أى لكل واحد من هؤلاء الذين اشتركوا فى إشاعة حديث الإفك العقاب الذى يستحقه بسبب ما وقع فيه من آثام ، وما اقترفه من سيئات .
وقوله - تعالى - : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بيان لسوء عاقبة من تولى معظم إشاعة هذا الحديث الكاذب .
والكبر - بكسر الكاف وضمها - مصدر لمعظم الشىء وأكثره .
أى : والذى تولى معظم الخوض فى هذا الحديث الكاذب ، وحرض على إشاعته ، له عذاب عظيم لا يقادر قدره من الله - تعالى - .
والمقصود بهذا الذى تولى كبره . عبد الله بن أبى بن سلول ، رأس المنافقين وزعيمهم ، فهو الذى قاد حملته ، واضطلع بالنصيب الأكبر لإشاعته .
روى أنه لما جاء صفوان بن المعطل يقود راحلته وعليها عائشة - رضى الله عنها - قال عبد الله بن أبى لمن حوله : من هذه ؟ قالوا عائشة فقال - لعنه الله - : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه وما نجا منها .
وقال ابن جرير : " والأولى بالصواب قول من قال ، الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، وأن الذى بدأ بذكر الإفك . وكان يجمع أهله ويحدثهم به ، هو عبد الله بن ابى بن سلول " .
وقال الآلوسى : " والذى تولى كبره . . . كما فى صحيح البخارى عن الزهرى عن عروة عن عائشة : هو عبد الله بن أبى - عليه اللعنة - وقد سار على ذلك أكثر المحدثين .
أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر ، أنه بعد نزول هذه الآيات فى براءة السيدة عائشة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ، ثم تلاها عليهم .
ثم بعث إلى عبد الله بن أبى . فجىء به فضربه حدين ، ثم بعث إلى حسان بن ثابت ، ومسطح . وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا . . . وقيل إن ابن أبى لم يحد أصلا ، لأنه لم يقر ، ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة " .
هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى{[20833]} لها ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل [ الله عز وجل ]{[20834]} براءتها صيانة لعرض الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام{[20835]} فقال : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، يعني : ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة ، فكان المقدَّم في هذه اللعنة{[20836]} عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فإنه كان يجمعه ويستوشيه ، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وَجوّزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريبًا من شهر ، حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلّهم قد حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضًا : ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سَفَرًا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أنزل الحجابُ ، فأنا أحْمَل في هَودَجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزْوه وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقْد من جَزْع ظَفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحَبَسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون أني فيه - قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَلَبْهُنَّ ولم يغشهن اللحمُ ، إنما يأكلن العُلقْة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذّكْوَانَي قد عَرَس من وراء الجيش - فادّلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وقد كان يراني قبل أن يُضْرَب عليّ الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمَّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فَوْطئ على يَدها فركبتُها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أبي بن سلول . فَقَدمتُ المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يُفيضُون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يقول : " كيف تِيكُم ؟ " فذلك يَرِيبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نَقِهْت وخَرَجَت معي أم مِسطْح قبل المناصع - وهو مُتَبَرَّزُنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نَتَّخذَ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكُنُف أن نتخذها في بيوتنا . فانطلقت أنا وأم مسْطَح - وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسْطَح بن أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسْطح في مِرْطها فقالت : " تَعس مسْطح " . فقلت لها : بئسما قلت ، تسبين رجلا [ قد{[20837]} ] شهد{[20838]} بدرا ؟ قالت : أي هَنْتاه ، ألم{[20839]} تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ فأخبرتني{[20840]} بقول أهل الإفك ، فازددتُ مرضًا إلى{[20841]} مرضي . فلما رجعتُ إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : " كيف تِيكُم ؟ " قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ ؟ - قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبَلهما - فأذنَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمَّتاه ، ما يتحدث الناس ؟ فقالت : أيْ بُنَية{[20842]} هَوِّني عليك ، فوالله لقلما كانت{[20843]} امرأة قَطّ وضيئة ، عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت : فقلتُ : سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا{[20844]} وأسامة بن زيد حين استلبث الوحيُ ، يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه له من الود ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يُضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدُقك الخبر . قالت{[20845]} : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَريرة ، فقال : " أيْ بَرِيرة ، هل رأيت من شيء يَريبك من عائشة ؟ " فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إنْ رأيت عليها أمرا قَطّ أغمصُه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سَلُول . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد ابن معاذ : لعمر الله لا تقتله{[20846]} ولا تقدر على قتله . فقام أُسَيد بن حُضير _ وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت ! لعمر الله{[20847]} لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هَمّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [ قائم على المنبر . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[20848]} يُخَفّضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذَنَت عليَّ امرأة من الأنصار ، فأذنتُ لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك{[20849]} إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس - قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل [ لي ]{[20850]} ما قيل ، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني شيء - قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألْمَمْت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت{[20851]} لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : والله ما أدري ما أقول للرسول . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله . فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . قالت : فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أحفظ{[20852]} كثيرا من القرآن - : [ إني ]{[20853]} والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر{[20854]} في أنفسكم وصدقتم به ، ولَئَن{[20855]} قلت لكم إني بريئة - والله يعلم إني بريئة - لا تصدقوني [ بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني ]{[20856]} ، وإني والله ما أجد لي{[20857]} ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] . قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤْيا يبرّئني الله بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشاتي ، من ثِقَل القول الذي أنزل عليه . قالت{[20858]} : فلما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة ، أما الله{[20859]} فقد بَرّأك{[20860]} . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، هو الذي أنزل براءتي{[20861]} وأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } عشر آيات . فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - : والله لا أنفق عليه شيئًا أبدا بعد الذي قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى قوله { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [ النور : 22 ] فقال أبو بكر{[20862]} : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فَرجّع إلى مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه . وقال : لا أنزعها منه أبدًا .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش - زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم - ، عن أمري : يا زينب ، ما علمت ، أوما رأيت [ أو ما بلغك ]{[20863]} ؟ فقالت يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمتُ إلا خيرًا . قالت عائشة : وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم{[20864]} ، فعصمها الله تعالى بالورع . وطَفِقَت أختها حَمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك .
قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الزهري{[20865]} . وهكذا رواه ابن إسحاق ، عن الزهري كذلك ، قال : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة{[20866]} بنحو{[20867]} ما تقدم ، والله أعلم{[20868]} .
ثم قال البخاري : وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة قال : أخبَرَني أبي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذُكرَ من شأني الذي ذُكر وما عَلمتُ به ، قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيَّ خطيبا ، فتشهد فَحَمِدَ الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، أشيروا عَلَيّ في أناس أبَنُوا أهلي ، وَايمُ الله ما علمت على أهلي من سوء{[20869]} ، وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء قطّ ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ، ولا غبت في سفر إلا غاب معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من الخزرج - وكانت أمّ حسان [ بن ثابت ]{[20870]} من رهط ذلك الرجل - فقال : كذبت ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببتَ أن تُضرب أعناقهم . حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شَرٌّ في المسجد ، وما عَلمتُ . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ، فعَثَرتْ فقالت : تَعس مسطح ، فقلت : أيْ أمّ ، أتسبين ابنك ؟ وسكتت ، ثم عَثَرت الثانية فقالت : تَعس مسطح . فقلت لها : أيْ أمّ ، تسبين ابنك ؟ ثم عَثَرت الثالثة فقالت : تَعس مسْطح . فانتهرتها فقالت : والله ما أسبه إلا فيك ، فقلت : في أيّ شأني ؟ قالت : فَبَقَرت لي الحديث . فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله . فرجعتُ إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرًا ، ووُعكت ، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني إلى بيت أبي . فأرسل معي الغلام ، فدخلتُ الدار ، فوجدت أم رومان في السّفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت [ لي ]{[20871]} أمي : ما جاء بك يا بنية ؟ فأخبرتها ، وذكرتُ لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني ، [ فقالت : يا بنية ، خَفِّضي عليك الشأن ؛ فإنه - والله - لَقَلَّما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر إلا حَسَدنها ، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني ، فقلت : وقد عَلِم به أبي ؟ قالت : نعم . قلت : ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[20872]} . فاستَعْبَرْتُ وبكيت ، فسمعَ أبو بكر صوتي ، وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذُكر من شأنها . ففاضت عيناه وقال{[20873]} : أقسمت عليك - أيْ بُنَيّة - إلا رجعت إلى بيتك فَرَجعتُ ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فسأل عني خادمي{[20874]} فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا ، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خَميرها - أو : عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدُقي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به ، فقالت : سبحان الله . والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبْر الذهب الأحمر . وبلغ الأمر ذلك الرجلَ الذي قيل له ، فقال : سبحان الله . والله ما كَشَفت كَنَف أنثى قط - قالت عائشة : فقتل شهيدا في سبيل الله - قالت : وأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صَلّى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفَني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة ، إن كنت قارفت سُوءًا أو ظَلَمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده " . قالت : وقد جاءت امرأة من الأنصار ، فهي{[20875]} جالسة بالباب ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئًا ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي ، فقلت له : أجبْه . قال : فماذا أقول ؟ فالتفتُ إلى أمي فقلت : أجيبيه . قالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه ، تَشَّهدتُ فحمدتُ الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فَوَالله لَئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به ، وأشْربته قلوبكم ، وإن قلت : إني قد فعلت - والله يعلم أني لم أفعل - لتقولُنَ : قد باءت به على نفسها ، وإني - والله - ما أجد لي ولكم مثلا - والتمستُ اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته ، فسكتنا ، فَرُفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه ويقول : " أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك " قالت : وكنت{[20876]} أشد ما كنتُ غضبًا ، فقال لي أبواي : قومي [ إليه ]{[20877]} فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غَيَّرتموه ، وكانت عائشة تقول : أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرًا . وأما أختها حَمنة بنت جحش ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذي يتكلم به{[20878]} مسطح وحسان بن ثابت . وأما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [ كان ]{[20879]} يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْرَه منهم هو وحمنة . قالت : وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا ، فأنزل الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية ، يعني : أبا بكر ، { وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ } يعني : مسطحا ، إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 22 ] . فقال أبو بكر : بلى والله يا رَبّنا ، إنا لنُحِبّ أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع .
هكذا رواه البخاري من هذا الوجه مُعَلَّقا بصيغة الجزم{[20880]} عن أبي أسامة حماد بن أسامة [ أحد الأئمة الثقات . وقد رواه ابن جرير في تفسيره ، عن سفيان بن وَكيع ، عن أبي أسامة ]{[20881]} به مطولا مثله أو نحوه . {[20882]} ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، ببعضه .
وقال الإمام أحمد : حَدَثنا هُشَيْم ، أخبرنا عمر{[20883]} بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزل عُذْري من السماء ، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت : نَحمدُ الله لا نَحمدك{[20884]} .
وقال الإمام أحمد : حدثني ابن أبي عَدِيّ ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمْرَةَ ، عن عائشة قالت : لما نزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أَمَر برجلين وامرأة فَضُربوا حدهم{[20885]} .
وأخرجه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ووقع عند أبي داود تسميتهم : حسان بن ثابت ، ومِسْطح بن أثاثة ، وحَمْنة بنت جحش .
فهذه طرق متعددة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها{[20886]} .
وقد رُوي من حديث أمها أمّ رومان ، رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حُصَين ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها{[20887]} امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله - بابنها - وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حَدَّث الحديث . قالت عائشة : وأي حديث ؟ قالت : كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة ، رضي الله عنها ، مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها ، قالت : وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما شأن هذه ؟ " قلت : يا رسول الله ، أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تُحُدِّث به " . قالت : فاستوت له عائشة قاعدة فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تُعذرُوني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] قالت : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر ، [ فدخل فقال : " يا عائشة ، إن الله تعالى قد أنزل عذرك " . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم . قالت : فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر ]{[20888]} فحلف أبو بكر ألا يصله ، فأنزل الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية[ النور : 22 ] ، قال أبو بكر : بلى ، فوصله .
تفرد به البخاري دون مسلم ، من طريق حُصَين{[20889]} وقد رواه البخاري ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عَوَانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن حصين ، به{[20890]} وفي لفظ أبي عوانة : حدثتني أم رومان . وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ ، منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول : " سئلت أم رومان " ، ويسوقه ، فلعل بعضهم كتب " سُئلت " بألف ، فاعتقد الراوي أنها " سَألت " ، فظنه متصلا . قال الخطيب : " وقد رواه البخاري كذلك ، ولم تظهر{[20891]} له علته " . كذا قال ، والله أعلم .
فقوله : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ } أي : بالكذب والبهت والافتراء ، { عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ } أي : يا آل أبي بكر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس ، رضي الله عنه{[20892]} وهي في سياق الموت ، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ، ولم يتزوج بكرًا غيرك ، وأنزل{[20893]} براءتك من السماء{[20894]} .
وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جَحْش قال : تفاخَرَت عائشةُ وزينبُ ، رضي الله عنهما ، فقالت زينب : أنا التي نزل تزوُّجي [ من السماء ]{[20895]} قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذري في كتابه ، حين حملني ابن المعطل على الراحلة . فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل . قالت : قلت كلمة المؤمنين{[20896]} .
وقوله : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } أي : لكل من تكلم في هذه القضية ورَمَى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بشيء من الفاحشة ، نصيب عظيم من العذاب .
{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } {[20897]} قيل : ابتدأ به . وقيل : الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : على ذلك .
ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول - قبحه الله ولعنه - وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد .
وقيل : بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بشعره ]{[20898]} ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هاجهم وجبريل معك "
وقال الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق قال : كنتُ عندَ عائشة ، رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا ؟ يعني : يدخل عليك - وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال الله : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت : وأيُّ عذاب أشدّ من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم . ثم قالت : إنه كان يُنافحُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [ شعرا ]{[20899]} يمتدحها به ، فقال :
حَصَان رَزَانٌ ما تُزَنّ{[20900]} بريبة *** وتُصْبح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافل
فقالت : أما أنت فلست كذلك . وفي رواية : لكنك لست كذلك{[20901]} .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن قَزْعَة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان - يعني ابن [ الحارث ]{[20902]} بن عبد المطلب - :
هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأجبتُ{[20903]} عنه *** وَعندَ الله في ذاك الجزاءُ
فَإنَ أبي وَوَالده وعِرْضي *** لعرْضِ مُحَمَّد منكم وقاءُ
أَتَشْتُمُه ، ولستَ لَه بكُفءٍ? *** فَشَرُّكُمَا لخَيْركُمَا الفدَاءُ
لِسَانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه *** وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ
فقيل : يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء . قيل : أليس الله يقول { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، قالت : أليس قد أصابه [ عذاب ]{[20904]} عظيم ؟ [ أليس ]{[20905]} قد ذهب بصره وكُنِّع بالسيف ؟ تعني : الضربة التي ضربه إياها{[20906]} صفوان بن المعطل [ السلمي ]{[20907]} ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف ، وكاد أن يقتله{[20908]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ مّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين جاءوا بالكذب والبُهتان عُصْبَةٌ مِنْكُمْ يقول : جماعة منكم أيها الناس . لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس ، بل ذلك خير لكم عنده وعند المؤمنين وذلك أن الله يجعل ذلك كَفّارة للمرميّ به ، ويُظهر براءته مما رُمي به ، ويجعل له منه مخرجا . وقيل : إن الذي عَنَى الله بقوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ : جماعة ، منهم حسان بن ثابت ، ومِسْطَح بن أُثاثة ، وحَمْنه بنت جحش . كما :
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك ، وهم كما قال الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ، وأنه لم يُسَمّ منهم أحد إلا حسان بن ثابت ، ومِسْطَح بن أُثاثة ، وحَمْنة بنت جَحْش ، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ هم أصحاب عائشة . قال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : قوله : جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . الآية ، الذين افْتَروا على عائشة : عبد الله بن أُبَيّ ، وهو الذي تولى كِبْره ، وحسان بن ثابت ، ومِسْطَح ، وحَمْنة بنت جحش .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الذين قالوا لعائشة الإفك والبهتان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : الشرّ لكم بالإفك الذي قالوا ، الذي تكلّموا به ، كان شرّا لهم ، وكان فيهم من لم يقله إنما سمعه ، فعاتبهم الله ، فقال أوّلَ شيء : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ثم قال : والّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
وقوله : لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ يقول : لكلّ امرىء من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم ، بمجيئه بما جاء به ، من الأولى عبد الله . وقوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يقول : والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يقول : الذي بدأ بذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عُصْبَةٌ مِنْكُمْ قال : أصحاب عائشة عبد الله بن أبيّ ابن سَلُول ، ومِسْطَح ، وحَسّان .
قال أبو جعفر : له من الله عذاب عظيم يوم القيامة .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : كِبْرَهُ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : كِبْرَهُ بكسر الكاف ، سوى حميد الأعرج فإنه كان يقرؤه : «كُبْرَهُ » بمعنى : والذي تحمل أكبره .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : القراءة التي عليها عوامّ القرّاء ، وهي كسر الكاف ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وأن الكِبْر بالكسر : مصدر الكبير من الأمور ، وأن الكُبْر بضم الكاف : إنما هو من الولاء والنسب ، من قولهم : هو كُبْر قومه والكِبْر في هذا الموضع : هو ما وصفناه من معظم الإثم والإفك . فإذا كان ذلك كذلك ، فالكسر في كافة هو الكلام الفصيح دون ضمها ، وإن كان لضمها وجه مفهوم .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ . . . الآية ، فقال بعضهم : هو حسان بن ثابت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، أن عائشة قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان :
هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأجَبْتُ عَنْهُ *** وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الجَزاءُ
فإنّ أبي وَوَالِدهُ وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمّدٌ مِنْكُمْ وِقاءُ
أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ *** فَشَرّكُما لخَيْرِكُما الفِداءُ
لِسانِي صَارِمٌ لا عَيْبَ فِيهِ *** وبَحْرِي لا تُكَدّرهُ الدّلاءُ
فقيل : يا أمّ المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت لا ، إنما اللّغو ما قيل عند النساء . قيل : أليس الله يقول : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره وكُنّع بالسيف ؟ .
قال : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت ، فأُلقي له وسادة فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا وقد قال الله ما قال ؟ فقالت : قال الله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ وقد ذهب بصره ، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة ، فشبّب بأبيات له ، فقال :
*** وَتُصْبِح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ ***
فقالت عائشة : أما إنك لست كذلك فقلت : تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد أنزل الله فيه : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ . . . الآية ؟ فقالت : وأيّ عذاب أشدّ من العمى وقالت : إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المُعَلّى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجِي من السماء . قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعَطّل على الراحلة . فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل قالت قلتِ كلمةَ المؤمنين .
وقال آخرون : هو عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان الذين تكلموا فيه : المنافق عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْره ، ومِسْطَحا ، وحسان بن ثابت .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمدبن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقّاص وغيره أيضا ، قالوا : قالت عائشة : كان الذي تولى كبره الذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : كان الذي تولى كبره : عبد الله بن أُبيّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : إنّ الّذِينَ جاءُوا . . . الآية ، ، الذين افْتَرَوا على عائشة : عبد الله بن أُبيّ ، وهو الذي تولى كِبْره ، وحسان ، ومِسْطَح ، وحَمْنه بنت جحش .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة في الذين جاءوا بالإفك : يزعمون أنه كان كِبْرُ ذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول ، أحد بني عوف بن الخرزج وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم فيقرّه ويسمعه ويستوشيه .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أما الذي تولى كبره منهم ، فعبد الله بن أُبيّ ابن سلول الخبيث ، هو الذي ابتدأ هذا الكلام ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والذي تولى كِبْره هو عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وهو بدأه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب : قول من قال : الذي تولى كِبْره من عصبة الإفك ، كان عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، أن الذي بدأ بذكر الإفك ، وكان يجمع أهله ويحدثهم ، عبدُ الله بن أُبيّ ابن سَلُول ، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كِبْر ذلك الأمر . وكان سبب مجيء أهل الإفك ، ما :
حدّثنا به ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ، ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقّاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضا :
زعموا أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها . قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما أَنْزِل الحجاب ، وأنا أُحْمَل في هودجي وأنزل فيه . فسرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل إلى المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْع ظَفَارِ قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرْحَلون لي ، فاحتملوا هو دجي ، فَرَحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه . قالت : وكانت النساء إذ ذاك خِفافا لم يُهَبّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقلَ الهودج حين رَحَلُوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السنّ ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عَقْدي بعد ما استمرّ الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب . فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني ، فنمت حتى أصبحت . وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ ثم الذّكْوانيّ ، قد عَرّس من وراء الجيش ، فادّلَج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل أن يُضرب الحجاب عَلَيّ ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطِىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغِرِينَ في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أُبيّ ابن سلول .
فقدمنا المدينة ، فاشتكيت شهرا ، والناس يُفِيضُون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَرِيبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : «كيف تيكم ؟ » فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشرّ . حتى خرجت بعد ما نَقَهت ، فخرجت مع أمّ مِسْطَح قبَلَ المَنَاصع ، وهو مُتَبرّزنا ، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قَبل أن نتخذ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأَمْرُنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه ، وكنا نتأذّى بالكُنُف أن نتخذها عند بيوتنا . فانطلقت أنا وأمّ مسطح ، وهي ابنة أبي رُهْم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصدّيق ، وابنها مِسْطَحْ بن أُثاثة بن عباد بن المطّلب . فأقبلت أنا وابنة أبي رُهْم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أمّ مِسْطَح في مِرْطِها ، أوَ لم تسمعي ماقال ؟ وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مَرَضا على مرضي . فلما رجعت إلى منزلي ، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «كَيْفَ تِيكُمْ ؟ » فقلت : أتأذن لي أن آتيَ أبويّ ؟ قال : «نعم » . قالت : وأنا حينئذٍ أريد أن أستثبت الخبر من قِبَلهما . فأذِن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبويّ ، فقلت لأمي : أي أمتاه ، ماذا يتحدّث الناس ؟ فقالت : أي بُنية ، هوّني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها . قالت : قلت : سبحان الله ، أَوَ قد تحدّث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت ، فدخل عليّ أبو بكر وأنا أبكي ، فقال لأمي : مايبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها . فأكبّ يَبْكي ، فبكى ساعة ، ثم قال : اسكتي يا بنية فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، حتى ظنّ أبواي أن البكاء سيفلق كبدي .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد ، حين استْلَبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أُسامة ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الودّ ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما عليّ فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تَصْدُقك ، يعني بَرِيرة . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرة ، فقال : «هَلْ رأيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ ؟ » قالت له بَرِيرة : والذي بعثك بالحقّ ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أَغْمِصْه عليها ، أكثرَ من أنها حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتأكله فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «مَنْ يَعْذِرُنِي مِمنْ قَدْ بَلَغْنِي أذَاهُ فِي أهْلِي ؟ » يعني عبدَ الله بن أُبي ابن سَلُول . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا : «يا مَعْشَرَ المُسْلَمِينَ ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلي ؟ فَوَاللّهِ ما عَلمْتُ عَلى أهْلي إلاّ خَيْرا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلمْتُ عَلَيْهِ إلاّ خَيْرا ، وَما كانَ يَدْخُلُ عَلى أهْلي إلاّ مَعي » فقام سعد بن مُعاذ الأنصاريّ ، فقال : أنا أعذِرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عُنُقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . فقام سعد بن عُبادة ، فقال ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحا ، ولكن احتملَتْه الحَمِيّة ، فقال : أَيْ سعدَ بن معاذ ، فقال لسعد بن عُبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلّنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان : الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفّضُهم حتى سكتوا . ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بيت أبويّ ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنتْ عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي قالت : فبينا نحن على ذلك ، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس عندي ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحَى إليه في شأني بشيء قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ يا عائشَةُ فإنّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذا ، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرّئُكِ اللّهُ ، وَإنْ كُنْتِ ألمَمْتِ بِذَنْبٍ ، فاسْتَغْفِرِي اللّهَ ، وَتُوبِي إلَيْهِ ، فإنّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَف بَذَنْبِهِ ثُمّ تابَ تابَ اللّه عَلَيْهِ » . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قَلَص دمعي ، حتى ما أحسّ منه دمعة قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد عرفت أنْ قد سمعتم بهذا ، حتى استقرّ في أنفسكم ، حتى كِدْتم أن تصدّقوا به ، فإن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم أني برئة ، لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدّقُنّي ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ .
ثم تولّيت واضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلم أني بريئة وأن الله سيبرّئني ببراءتي ، ولكني والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحْي يُتلى ، ولَشأني كان أحقَر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يُتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرّئني الله بها . قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدّر منه مثلُ الجُمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أُنزل عليه . قالت : فلما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أوّل كلمة تكلم بها أن قال : «أبْشِرِي يا عائِشةُ ، إنّ اللّهَ قَدْ بَرّأكِ » فقالت لي أمي ، قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عشر آيات ، فأنزل هذه الاَيات براءة لي . قالت : فقال أبو بكر ، وكان ينفق على مِسْطَح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة قالت : فأنزل الله : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ حتى بلغ : غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر : إني لأحبّ أن يغفر الله لي . فرجع إلى مِسْطَح النفقةَ التي كان يُنفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا .
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري وما رأت وما سمعت ، فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما رأيت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالوَرَع ، وطفقت أختها حَمْنة تحارب فهلكت فيمن هلك .
قال الزهريّ بن شهاب : هذا الذي انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، وعن علقمة بن وقّاص الليثيّ ، عن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود . قال الزهريّ : كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان له أوعى من بعض . قال : وقد جمعت لك كل الذي قد حدثني . وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال : وثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . قال : ثني عبد الله بن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت وكل قد اجتمع في حديثه قصة خبر عائشة عن نفسها ، حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا ، وكله قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا ، ويحدث بعضهم ما لم يحدث بعض ، وكلّ كان عنها ثقة ، وكلّ قد حدث عنها ما سمع .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأَيتهُنّ خرج سهمها خرج بها معه . فلما كانت غزاة بني المصطَلِق ، أقرع بين نسائه كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهنّ ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم معه . قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العُلَق لم يهيّجْهُنّ اللحم فيثقلن . قالت : وكنت إذا رحل بعيري جلست في هَوْدَجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بي بعيري ويحملوني ، فيأخذون بأسفل الهودج يرفعونه فيضعونه على ظهر البعير ، فينطلقون به . قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجّه قافلاً ، حتى إذا كان قريبا من المدينة ، نزل منزلاً فبات بعض الليل ، ثم أذّن في الناس بالرحيل . فلما ارتحل الناس ، خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جَزْعَ ظَفارِ ، فلما فرغت انسلّ من عنقي وما أدري فلما رجعت إلى الرحْل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل . قالت : فرجعت عَوْدِي إلى بَدْئِي ، إلى المكان الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون بي البعير .
ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وما علمت ، فتشهد ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ أشِيرُوا عَليّ فِي أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي وَاللْهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي سُوءًا قَطّ ، وأبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللّهِ ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءا قَطّ ، وَلا دَخَلَ بَيْتِي قَطّ إلاّ وأنا حاضِرٌ ، وَلا أغِيبُ فِي سَفَرٍ إلاّ غابَ مَعِي » فقام سعد بن مُعاذ فقال : يا رسول الله ، نرى أن نضرب أعناقهم فقام رجل من الخزرج ، وكانت أمّ حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل ، فقال كذبتَ ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شرّ وما علمتُ به . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعى أمّ مِسْطح ، فعثرت ، فقالت : تَعَس مِسْطح فقلت علام تسبين ابنك ؟ فسكتت ، ثم عثرت الثانية ، فقالت : تَعَس مسطح قلت : علام تسبين ابنك ؟ فسكتت الثانية . ثم عثرت الثالثة ، فقالت : تَعَس مسطح فانتهرتها ، فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله . قالت : فرجعت إلى بيتي فكأن الذي خرجت له لم أخرج له ، ولا أجد منه قليلاً ولا كثيرا . ووُعِكْت ، فقلت : يا رسول الله ، أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار فإذا أنا بأمي أمّ رومان ، قالت : ما جاء بك يا بُنية ؟ فأخبرتها ، فقالت : خَفّضي عليك الشأن ، فإنه والله ما كانت امرأة جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا حسدنها وقلن فيها . قلت : وقد علم بها أبي ؟ قالت : نعم . قلت : ورسول الله ؟ قالت : نعم . فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذُكر من أمرها . ففاضت عيناه ، فقال : أقسمت عليك إلاّ رَجَعْت إلى بيتك فرجعت .
فأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا عندي حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بعد العصر ، وقد اكتنفني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ يا عائِشَةُ ، إنْ كُنْتِ قارَفْتِ سُوءا أوْ ألَمَمْتِ فَتُوبِي إلى اللّهِ ، فإنّ اللّهَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ » . وقد جاءت امرأة من الأنصار وهي جالسة ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تقول شيئا ؟ فقلت لأبي : أجبه فقال : أقول ماذا ؟ قلت لأمي : أجيبيه فقالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه تشّهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل ، والله يعلم إني لصادقة ما ذا بنافعي عندكم ، لقد تُكُلّم به وأُشْرِبته قلوبكم وإن قلت إني قد فعلت والله يعلم أني لم أفعل لَتقولُنّ قد باءت به على نفسها ، وأيمُ الله مَا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه : فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ . وأنزل الله على رسوله ساعتئذٍ ، فُرفع عنه ، وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه يقول : «أبْشِرِي يا عائِشَةُ ، فَقَدْ أنْزَلَ اللّهُ بَرَاءَتَكِ » فكنت أشدّ ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمدكما ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي . ولقد جاء رسول الله بيتي ، فسأل الجارية عني ، فقالت : والله ما أعلم عليها عيبا إلا أنها كانت تنام حتى كانت تدخل الشاة فتأكل حصيرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، وقال لها : اصْدُقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عروة : فعَتب على من قاله ، فقال : لا ، والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر . وبلغ ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال : سبحان الله ما كشفت كَنَف أنثى قطّ . فقتل شهيدا في سبيل الله . قالت عائشة : فأما زينب بنت جحش ، فعصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرا وأما حَمْنة أختها ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذين تكلموا فيه : المنافقَ عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْره ، ومِسْطحا ، وحسانَ بن ثابت ، فحلف أبو بكر أن لا ينفع مِسْطَحا بنافعة ، فأنزل الله : وَلا يَأَتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ يعني أبا بكر ، أنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى وَالمَساكِينَ يعني مِسْطحا ، ألا تَحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر : بلى والله ، إنا لنحبّ أن يغفر الله لنا وعاد أبو بكر لِمْسطَح بما كان يصنع به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا ، قال : خرجت عائشة تريد المَذْهب ، ومعها أمّ مسطح . وكان مِسطح بن أثاثة ممن قال ما قال . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك ، فقال : «كَيْفَ تَرَوْنَ فِيمَنْ يُؤْذِينِي فِي أهْلِي وَيجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي ؟ » فقال سعد بن مُعاذ : أي رسول الله ، إن كان منا معشرَ الأوس جلدنا رأسه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا فأطعناك . فقال سعد بن عبادة : يا ابن معاذ ، والله ما بك نُصْرة رسول الله ، ولكنها قد كانت ضغائن في الجاهلية وإحن لم تحلل لنا من صدوركم بعد فقال ابن معاذ : الله أعلم ما أردت . فقام أُسَيد بن حُضَير ، فقال : يا ابن عبادة ، إن سعدا ليس شديدا ، ولكنك تجادل عن المنافقين وتدفع عنهم . وكثر اللّغَط في الحيين في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر ، فما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يومىء بيده إلى الناس ههنا وههنا ، حتى هدأ الصوت .
وقالت عائشة : كان الذي تولى كِبْره ، والذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبّي ابن سلول . قالت : فخرجت إلى المَذْهَب ومعي أمّ مسطح ، فعثرتْ ، فقالتْ : تَعَس مِسْطح فقلت : غفر الله لك ، أتقولين هذا لابنك ولصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت ذلك مرّتين ، وما شعرت بالذي كان . فحُدثت ، فذهب عنى الذي خرجت له ، حتى ما أجد منه شيئا . ورجعت على أبويّ أبي بكر وأمّ رُومان ، فقلت : أما اتقيتما الله فيّ وما وصلتما رحمي ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال ، وتحدّث الناس بالذي تحدثوا به ولم تُعْلِماني فأُخْبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : أي بنية ، والله لقلما أحبّ رجل قطّ امرأته إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك أي بنية ارجعي إلى بيتك حتى نأتَيك فيه فرجعت وارتكبني صالِبٌ من حُمّى ، فجاء أبواي فدخلا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سريري وُجاهي ، فقالا : أي بينة ، إن كنت صنعت ما قال الناس فاستغفري الله ، وإن لم تكوني صنعتيه فأخبرني رسول الله بعذرك قلت : ما أجد لي ولكم إلا كأبي يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ . قالت : فالتمست اسم يعقوب ، فما قدرت ، أو فلم أقدر عليه . فشخص بصر رسول الله إلى السقف ، وكان إذا نَزَل عليه وَجَد ، قال الله : إنّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً فوالذي هو أكرمه وأنزل عليه الكتاب ، ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ، ثم مسح عن وجهه ، فقال : «يا عائِشَةُ أبْشِرِي ، قَدْ أنْزَلَ اللّهُ عُذْرَكِ » قلت : بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك . قال الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . حتى بلغ : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ . وكان أبو بكر حلف أن لا ينفع مسطحا بنافعة ، وكان بينهما رَحم ، فلما أنزلت : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ . . . حتى بلغ : وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر : بلى ، أي ربّ فعاد إلى الذي كان لمسطح إن الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم . قالت عائشة : والله ما كنت أرجو أن ينزل فيّ كتاب ولا أطمع به ، ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا تُذْهب ما في نفسه . قالت : وسأل الجارية الحَبَشية ، فقالت : والله لعائشة أطيب من طيب الذهب ، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها ، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله قال : فعجب الناس من فقهها .
هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر «الإفك » وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر الآيات ثم أنزل الله ما قرىء في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها . و «الإفك » : الزور والكذب ، والأفاك : الكذاب ، و «الإفك » : قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال وصرفها عن جهة الصواب وبذلك شبه الكذب . واختصار ، حديث «الإفك » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بعائشة في غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع{[8620]} قال ابن إسحاق كانت سنة ست ، وقال ابن عقبة كانت سنة أَربع{[8621]} فضاع لها هناك عقد ، فلما انصرفت إلى الرحل شعرت بضياعه وجعلت تطلبه ، وسار الناس يومئذ فوجدته وانصرفت فلم تجد أحداً وكانت شابة قليلة اللحم رفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أَن تفتقد فيرجع عنها فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل إنا لله وإِنا إليه راجعون ، وذلك أنه تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل اتفاقاً فلما مر بسوادها قرب منها فعرفها ، فاسترجع وقال ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفت هاهنا ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة فوقع أهل «الإفك » في مقالتهم وكل الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه{[8622]} عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنة بنت جحش ، وهذا اختصار الحديث هو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم وهو في مسلم أكمل{[8623]} وكان صفوان صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته وكان من خيار الصحابة قال لما سمع ما قال الناس فيه : سبحان الله والله ما كشفت كنف{[8624]} أنثى قط .
قال الفقيه الإمام القاضي : أراد بزنى{[8625]} ، ويدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنيه «لهما أشبه به من الغراب بالغراب »{[8626]} وقيل كان حصوراً لا يأتي النساء ذكره ابن إسحاق عن طريق عائشة ، وقتل شهيداً رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشر في زمن عمر ، وقيل في بلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمن معاوية ، وقوله { عصبة } رفع على البدل من الضمير في { جاؤوا } وخبر { إن } في قوله { لا تحسبوه } والتقدير إن فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أَن يكون { عصبة } خبر { إن } و «العصبة » الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، قاله يعقوب وغيره ولا يقال عصبة لأقل من عشرة ولم يسم من أهل «الإفك » إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله{[8627]} وجهل الغير قاله عروة بن الزبير وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان وقال ألا إنهم كانوا { عصبة } كما قال الله تعالى .
وقوله { لا تحسبوه } خطاب لكل من ساءه من المؤمنين ، وقوله { بل هو خير لكم } يريد أنه تبرئة في الدنيا وترفيع من الله تعالى في أَن نزل وحيه بالبراءة من ذلك وأجر جزيل في الآخرة وموعظة للمؤمنين في غابر الزمن ، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة . ففي ذلك شفاء وخير هذه خمسة أوجه ، والضمير في قوله { منهم } عائد على العصبة المذكورة ، و { اكتسب } مستعملة في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في التذنيب ، وكسب مستعمل في الخير وذلك أن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ، وقد تستعمل كسب في الوجهين ومثله :
فحملت برة واحتملت فجاره{[8628]} ، والإشارة بقوله { والذي تولى كبره } إلى عبد الله بن أبي سلول ، والعذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة ، وهذا قول الجمهور وهو ظاهر الحديث ، وروي عن عائشة رضي الله عنها أَن حسان بن ثابت دخل عليها يوماً وقد عمي فأنشدها مدحه فيها : [ الطويل ]
حصان رزان ما تزنُّ بريبة . . . وتصبح غرثى من لحوم الغوافل{[8629]}
فقالت له عائشة : لا لكنك لست كذلك تريد أَنه وقع في الغوافل فأنشد : [ الطويل ]
فإن كان ما قد قيل عني قلته . . . فلا رفعت سوطي إليَّ أَناملي{[8630]}
فلما خرج قال لها مسروق أيدخل هذا عليك وقد قال ما قال وتوعده الله بالعذاب على توليه كبر الإفك ، فقالت عائشة أي عذاب أشد من العمى ، وضرب الحد ؟ وفي بعض الروايات وضربه بالسيف ع فأما قولها عن الحد فإن حسان بن ثابت وحمنة ومسطحاً حدوا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وذكره الترمذي ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن أبي حد ، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما لأنه لم يحفظ عن عبد الله الرمي ، قال عروة في البخاري : ( أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه ){[8631]} . وأَما ضربة بالسيف فإن صفوان بن العطل لما بلغه قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال : [ الطويل ]
تلق ذباب السيف عني فإنني . . . غلام إذا هوجيت لست بشاعر
فأخذ جماعة صفوان ولببوه وجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر رسول الله صلى الله عليه جرح حسان واستوهبه إياه ، وهذا يقتضي أن حسان ممن تولى الكبر{[8632]} ، وقال الإشارة ب { الذي } إلى البادي بهذه الفرية والذي اختلقها ف { لكل } واحد { منهم ما اكتسب } وللبادي المفتري عذاب عظيم ، وهو على غير معين وهذا قول الضحاك والحسن وقال أَبو زيد وغيره هو عبد الله بن أَبي ، وقرأ جمهور الناس «كِبره » بكسر الكاف ، وقرأ حميد والأعرج ويعقوب والزهري وأَبو رجاء والأعمش وابن أَبي عبلة «كُبره » بضم الكاف وهما مصدران من كبر الشيء عظم ، ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن تقول هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة «الكبر الكبر »{[8633]} ومن استعماله في المعنى الثاني قول ابن الحطيم : [ المنسرح ]
تنام عن كبر شأنها فإذا . . . قامت رويداً تكاد تنقصف{[8634]}
الخطاب بهاتين الآيتين لجميع المؤمنين حاشى من تولى الكبر ويحتمل دخولهم في الخطاب ، وفي هذا عتاب للمؤمنين أي كان الإنكار واجباً عليهم ، والمعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم وإذا كان ذلك يبعد فيهم فكانوا يقضون بأنه من صفوان وعائشة أبعد لفضلهما ، وروي أَن هذا النظر السديد وقع من أَبي أيوب الأنصاري وامرأته ، وذلك أنه دخل عليها فقالت له يا أًبا أيوب أسمعت ما قيل ؟ فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ؟ قالت لا والله ، قال فعائشة والله أفضل منك ، قالت أم أيوب نعم{[8620]} فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين [ عليه ]{[8621]} إذ لم يفعله جميعهم .