قوله تعالى : { ردوها علي } أي : ردوا الخيل علي ، فردوها ، { فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } فجعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، هذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، و مقاتل ، وأكثر المفسرين ، وكان ذلك مباحاً له ، لأن نبي الله لم يكن يقدم على محرم ، ولم يكن يتوب عن ذنب بذنب آخر . وقال محمد بن إسحاق : لم يعنفه الله على عقر الخيل إذا كان ذلك أسفاً على ما فاته من فريضة ربه عز وجل . وقال بعضهم : إنه ذبحها ذبحاً وتصدق بلحومها ، وكان الذبح على ذلك الوجه مباحاً في شريعته . وقال قوم : معناه أنه حبسها في سبيل الله ، وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة . وقال الزهري و ابن كيسان : إنه كان يمسح سوقها وأعناقها بيده ، يكشف الغبار عنها حبا لها وشفقة عليها ، وهذا قول ضعيف ، والمشهور هو الأول . وحكي عن علي أنه قال في معنى قوله : ( ( ردوها علي ) ) يقول سليمان بأمر الله عز وجل للملائكة الموكلين بالشمس : ( ( ردوها علي ) ) يعني : الشمس ، فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها ، وذلك أنه كان يعرض عليه الخيل لجهاد عدو ، حتى توارت .
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } أى قال سليمان لجنده ردوا الصافنات الجياد علىَّ مرة أخرى ، لأزداد معرفة بها ، وفهما لأحوالها . .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } فصيحة تدل على كلام محذوف يفهم من السياق . و " طفق " فعل من أفعال الشروع يرفع الاسم وينصب الخبر ، واسمه ضمير يعود على سليمان ، و " مسحا " مفعول مطلق لفعل محذوف . والسوق والأعناق : جمع ساق وعنق .
أى : قال سليمان لجنده : ردوا الصافنات الجياد علىّ ، فردوها عليه ، فأخذ فى مسح سيقانها وأعناقها إعجابا بها ، وسرورا بما هى عليه من قوة هو فى حاجة إليها للجهاد فى سبيل الله - تعالى - .
هذا هو التفسير الذى تطمئن إليه نفوسنا لهذه الآيات ، لخلوه من كل ما يتنافى مع سمو منزلة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
ولكن كثيرا من المفسرين نهجوا نهجا آخر ، معتمدين على قصة ملخصها : أن سليمان - عليه السلام - جلس يوما يستعرض خيلا له ، حتى غابت الشمس دون أن يصلى العصر ، فحزن لذلك وأمر بإحضار الخيل التى شغله استعراضها عن الصلاة ، فأخذ فى ضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، قربة لله - تعالى - .
فهم يرون أن الضمير فى قوله - تعالى - { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } يعود إلى الشمس . أى : حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار .
وأن المراد بقوله - تعالى - { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } الشروع فى ضرب سوق الخيل وأعناقها بالسيقف لأنها شغلته عن صلاة العصر .
قال الجمل : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } أى : جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف . هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين .
ولم يرتض الإِمام الرازى - رحمه الله - هذا التفسير الذى عليه أكثر المفسرين ، وإنما ارتضى أن الضمير فى { توارت } يعود إلى الصافنات الجياد وأن المقصود بقوله - تعالى - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } الإِعجاب بها والمسح عليها بيده حبّاً لها . .
فقد قال ما ملخصه : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه فى دينهم ، كما أنه كذلك فى دين الإِسلام ، ثم إن سليمان - عليه السلام - احتاج إلى الغزو . فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها .
وذكر أنى لا أحبها لأجل الدنيا وإنما أحبها لأمر الله ، وطلب تقوية دينه . وهو المراد من قوله : { عَن ذِكْرِ رَبِّي } ثم إنه - عليه السلام - أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أى : غابت عن بصره .
ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها . والغرض من ذلك : التشريف لها لكونها من أعظم الأعوان فى دفع العدو . . . وإظهاهر أنه خبير بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمنحها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض . .
وقال بعض العلماء نقلا عن ابن حزم : تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة ، خرافة موضوعة . . قد جمعت أفانين من القول ؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها . وإتلاف مال منتفع به بلا معنى . ونسبة تضييع الصلاة إلى نبى مرسل . ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها . .
وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير ، من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمي أو تلك الصافنات بحجابها .
ثم أمر بردها . فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برابها ، وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذى لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل ، وتعطيل الصلاة . .
والحق أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن سليمان - عليه السلام - شغل باستعراض الخيل عن صلاة العصر ، وأنه أمر بضب سوقها وأعناقها . . لا دليل عليه لا من النقل الصحيح ولا من العقل السليم . .
وأن التفسير المقبول للآية هو ما ذكره الإِمام الرازى والإِمام ابن حزم ، وما سبق أن ذكرناه من أن المقصود بقوله - تعالى - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } إنما هو تكريمها . .
وأن الضمير فى قوله : { حتى تَوَارَتْ } يعود إلى الصافنات لأنه أقرب مذكور .
وقوله : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، من ذلك عن جابر قال : جاء عمر ، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها " فقال : فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب .
ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال . والخيل تراد للقتال . وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة ، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب ؛ لأنه قال بعدها : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ }
قال الحسن البصري . قال : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك . ثم أمر بها فعقرت . وكذا قال قتادة .
وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : جعل يمسح أعراف الخيل ، وعراقيبها حبالها . وهذا القول اختاره ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها . وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت - قالا أتينا على رجل من أهل البادية ، فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال : " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله - عز وجل - إلا أعطاك الله خيرا منه " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.