اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

قوله : { رُدُّوهَا } هذا الضمير للصّافنات ، وقيل : للشمس وهو غريب جدًّا . قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لوجوه :

منها : أن الصَّافِنَات مذكورة بالتصريح ، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدَّر ، ومنها : أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقهُ التّضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة فإما أن يقول على سبيل العَظَمَة لربِّ العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجُرْم العظيم ، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول المطهر المكرم ومنها أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول رُدَّها عليَّ ، ولا يقول : ردوها عليَّ لأن هذا اللفظ مشعر بأعظم أنواع الاستعلاء فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم ؟ ومنها : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهداً لأهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علِمْنَا فَسَادَهُ .

قوله : { فَطَفِقَ مَسْحاً } نصب «مسحاً » بفعل مقدر ، هو خبر طفق أي ( ف ) طفق يَمْسَحُ مَسْحاً ، لأن خبر هذه الأفعال لا يكون إلا مضارعاً في الأمر العام . وقال أبو البقاء - وبه بدأ- : مصدر في موضع الحال وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأن «طَفِقَ » لا بدّ لها من خَبَرٍ . وقرأ زيد بن علي : مِسَاحاً بزنة قِتَال ، والباء في «بالسوق » مزيدة مثلها في قوله : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] وحكى سيبويه : مَسَحْتُ رَأْسَهُ وبرأسِهِ بمعنى واحدٍ .

ويجوز أن تكون للإلصاق كما تقدم ، وتقدم همز السوق وعدمه في النمل . وجعل الفارسيُّ الهمز ضعيفاً . وليس كما قال لما تقدم من الأدلة . وقرأ زيد بن عليّ أيضاً «بالسَّاقِ » مُفْرَداً اكتفاءً بالواحد لعدم اللَّبْسِ كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . ***وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

وقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . *** كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكم تَعفُّوا

وقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجِينَا

قال الزمخشري : فإن قلت : بِمَ اتَّصل قوله «ردوها علي » ؟ قلت : بمحذوف تقديره قال ردوها فأضمر وأضمر ما هو جواب له كأنّ قائلاً قال : فماذا قال سليمان ؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءاً ظاهراً .

قال أبو حيان : وهذا لا يحتاج إليه لأن هذه الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو : «فَقَال : إنِّي أَحْبَبْتُ » .

فصل

قال المفسرون : إنه - عليه ( الصلاة و ) السلام- لما فاتته صلاة العصر لاشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلَى الله تعالى ، وبقي منها مائة ، فالخيل التي في أيدي الناس اليوم ، من نسل تلك المائة ، قال الحسن : فلما عقر الخيل ، أبدله الله - عزّ وجلّ - خيراً منها وأوسع وهي الريح تجري بأمره كيفْ شاء . قال ابن الخطيب : وهذا عندي بعيد لوجوه :

الأول : أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل ، بل لو قيل : مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العُنُق ، أما إذا لم يُذْكَر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح .

الثاني : أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان - عليه ( الصلاة و ) السلام- أنواعاً من الأفعال المذمومة .

فأولها : ترك الصلاة .

وثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحُبِّ الدنيا حيث نَسِيّ الصلاة وقال - عليه الصلاة والسلام- : «( حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطيئَةٍ » .

وثالثها : أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة .

ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحَصِيف إلا مع الخادم الخسيس .

وخامسها : أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل من سوقها وأعناقها وقد «نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم _ عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة » ، وهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان- عليه ( الصلاة و ) السلام - مع أن لفظ القرآن لم يدلّ على شيء منها . وخلاصتها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب } [ ص : 16 ] وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله عزّ وجلّ لمحمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- : يا محمد اصبر على سفاهتهم ، واذكر عبدنا داود ، ثم ذكر عقيبه قصّةَ سليمان فكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- : يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان .

وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا : إن سليمان عليه ( الصلاة و ) السلام- أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات ، فلو كان المقصود من قصة سليمان في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً . والصواب أن نقول : إن رِبَاط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد عليه ( الصلاة و ) السلام ؛ ثم إنَّ سليمانَ - عليه ( الصلاة و ) السلام- احتاج إلى الغزو فجلس وأمَرَ بإحْضَارِ الخَيْل وأمر بإجرائها ، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما حبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله : { عَن ذِكْرِ رَبِّي } . ثم إنه -عليه السلام- أمر بإجرائها وسيَّرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ، ثم إنه أمر الرابضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعناقها والغرض من ذلك أمور :

الأول : تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو .

الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يَتَّضِعُ إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه .

الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض . فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من تلك المنكرات إلى سليمان عليه- ( الصلاة و ) السلام- والعَجَبُ منهم كيف قَبِلُوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة ؟

فإن قيل : فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه . فالجواب : أن نقول لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا ، وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء - عليهم ( الصلاة و ) السلام- ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قاطع ، ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا نلتفت إلى أقوالهم ؟ والذي ذهبنا إليه قولُ الزهري وابن كيسان .