محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

{ ردوها عليّ } يعني الصافنات . وهذا من مقول القول ، فلا حاجة على تقدير قول آخر { فطفق مسحا بالسوق والأعناق } أي فجعل يمسح مسحا ، أي يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها ، يعني يقطعها .

تنبيه :

قال ابن كثير : ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر ، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا ، كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر ، حتى صلاها بعد الغروب . وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه . ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير لعذر الغزو ، والقتال . والخيل تراد للقتال ، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود . كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح ( تستر ) وهو منقول عن مكحول والأوزاعيّ وغيرهما ، والأول أقرب . لأنه قال بعد { ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق } قال الحسن البصري : قال : لا ، والله  ! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك . ثم أمر بها فعقرت . وكذلك قال قتادة .

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها ) . وهذا القول اختاره ابن جرير . قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ، ويهلك مالا من ماله بلا سبب ، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها . وهذا الذي رجح ابن جرير ، فيه نظر . لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا . ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى ، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة . ولهذا لما خرج عنها لله تعالى ، عوضه الله عز وجل ما هو خير منها . وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، غدوّها شهر ورواحها شهر . فهذا أسرع وخير من الخيل . روى الإمام أحمد عن ابن قتادة وأبي الدهماء ، / وكانا يكثران السفر نحو البيت ، قال : ( أتينا على رجل من أهل البادية . فقال لنا البدويّ ، أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل . وقال : إنك لا تدع شيئا اتقاء الله تعالى ، إلا أعطاك الله عز وجل خيرا منه ) . انتهى ما ذكره ابن كثير .

وقال القشاني : أي طفق يمسح السيف بسوقها ، يعرقب بعضها وينحر بعضها ، كسرا لأصنام النفس التي تعبدها بهواها ، وقمعا لسورتها وقواها ، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق ، واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك .

وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه ، قال : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم . كما أنه كذلك في دين الإسلام . ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو . فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها . وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه . وهو المراد من قوله { عن ذكر ربي } ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره . ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور : الأول - تشريفا لها وإبانة لعزتها ، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو . والثاني - أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه . الثالث - أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها . فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض .

وقال : فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا . ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات .

قال : وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة . مع أن العقل والنقل يردها . وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة فإن قيل : إن الجمهور فسروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه ؟ فنقول : لنا هاهنا مقامان : المقام الأول – أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها . وقد ظهر ، والحمد لله ، أن الأمر كما / ذكرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه . المقام الثاني - أن يقال : هب أن لفظ الآية لا يدل عليه ، إلا أنه كلام ذكره الناس . فما قولك فيه ؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام . ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات . ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالى بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم ؟ والله أعلم . انتهى كلام الرازي .

وسبقه ابن حزم حيث قال : تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة ، خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة . قد جمعت أفانين من القول ، لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها ، والتمثيل بها . وإتلاف مال منتفع به بلا معنى . ونسبة تضييع الصلاة إلى نبيّ مرسل ، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها . وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير . من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها . ثم أمر بردها . فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برا بها وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره . وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة . وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين . فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ انتهى كلام ابن حزم .

وأقول : الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم . لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه . إلا أن له الهيمنة عليه . فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه ، يوقف عنده ولا يتجاوز . وحينئذ ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها . لكن مع الهيمنة عليها ، إذ لا تقبل على علاتها .