فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

وقوله : { رُدُّوهَا عَلَي } من تمام قول سليمان ، أي : أعيدوا عرضها عليّ مرّة أخرى . قال الحسن : إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله ، وقال : ردّوها عليّ ، أي : أعيدوها . وقيل : الضمير في { ردّوها } يعود إلى الشمس ، ويكون ذلك معجزة له ، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر ، والأوّل أولى ، والفاء في قوله : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } هي : الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام ، والتقدير هنا : فردّوها عليه . قال أبو عبيدة : طفق يفعل ، مثل ما زال يفعل ، وهو مثل ظلّ وبات . وانتصاب { مسحاً } على المصدرية بفعل مقدّر ، أي : يمسح مسحاً ؛ لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، والأول أولى .

والسوق جمع ساق ، والأعناق جمع عنق ، والمراد : أنه طفق يضرب أعناقها وسوقها ، يقال : مسح علاوته ، أي : ضرب عنقه . قال الفراء : المسح هنا : القطع ، قال : والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها ؛ لأنها كانت سبب فوت صلاته ، وكذا قال أبو عبيدة . قال الزجاج : ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له ، وجائز أن يباح ذلك لسليمان ، ويحضر في هذا الوقت .

وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية ، فقال قوم : المراد بالمسح ما تقدّم . وقال آخرون : منهم الزهري وقتادة : إن المراد به : المسح على سوقها ، وأعناقها لكشف الغبار عنها حباً لها . والقول الأوّل أولى بسياق الكلام ، فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر ، ثم أمرهم بردّها عليه ؛ ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك ، وما صدّه عن عبادة ربه ، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه ، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردّها عليه هو كشف الغبار عن سوقها ، وأعناقها بالمسح عليها بيده أو بثوبه ، ولا متمسك لمن قال : إن إفساد المال لا يصدر عن النبيّ ، فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرّر في شرعنا ، مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح ، على أن إفساد المال المنهيّ عنه في شرعنا ، إنما هو مجرّد إضاعته لغير غرض صحيح ، وأما لغرض صحيح ، فقد جاز مثله في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة ، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة ، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر .

/خ33