قوله تعالى : { قال رجلان من الذين يخافون } ، أي : يخافون الله تعالى ، قرأ سعيد بن جبير : يخافون ، بضم الياء ، وقال : الرجلان كانا من الجبارين فأسلما ، واتبعا موسى . قوله تعالى : { أنعم الله عليهما } . بالتوفيق والعصمة .
قوله تعالى : { ادخلوا عليهم الباب } يعني قرية الجبارين .
قوله تعالى : { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } ، لأن الله تعالى منجز وعده ، وإنا رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة ، وقلوبهم ضعيفة ، فلا تخشوهم .
قوله تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة ، وعصوهما .
ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكروا إحجام قومهم عن الجهاد ، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
والمراد بالرجلين : يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وكانا من الاثني عشر نقيباً .
وقد وصف الله - تعالى - هذين الرجلين بوصفين .
أولهما : قوله : { مِنَ الذين يَخَافُونَ } أي : من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه - تعالى - بل يخافون العدو .
وقيل المعنى : من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله - تعالى - ربط على قلبيهما بطاعته . فجعلهما يقولان ما قالا :
الوصف الثاني : فهو قوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين . أي : قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله - تعالى - ولا يخافون سواه ، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتثبيت والثقة بوعده ، والطاعة لأمره قالا لقومهما .
هذا ، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال : ويجوز أن تكون الواو في قوله : { يَخَافُونَ } - لبني إسرائيل . والراجع إلى الموصول محذوف . والتقدير : قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم ، - وهم الجبارون - وهما رجلان منهم " أنعم الله عليهما " بالإِيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ، يشجعانهم على قتالهم . وقراءؤة من قرأ : ( يخافون ) - يضم الياء - شاهدة له . وكذلك . أنعم الله عليهما .
والذي نراه أن الرأي الأول أرجح وهو أن الرجلين من بني إسرائيل ، وأن قوله - تعالى - { مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله - تعالى - أي : يخافون الله ويخشون لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية ، وهو الذي صدر به المفسرون تفسيرهم للآية ، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه في أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بني إسرائيل على قتال قومه ، بينما وردت الآثار في بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثني عشر نقيبا - كما سبق أن ذكرنا - وقوله - تعالى - { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين .
أي : قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما : ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم ، وباغتوهم بقتالكم إياهم ، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم ، وأدركتم الفوز ، فإنه " ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : من أين علما أنهم غالبون ؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك . ومن جهة قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله ، وما عهدوا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة .
وقوله - تعالى - : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها ، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب ، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم ، إن كانوا مؤمنين حقا ، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله - تعالى - لعباده ، وإلى توكل عليه وحده ، وإلى عزيمة صادقة ، ومباشرة للأسباب التي توصل إليه .
( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) .
هنا تبرز قيمة الإيمان بالله ، والخوف منه . . فهذان رجلان من الذين يخافون الله ، ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين ! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم ! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة ؛ وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس . فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين : مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس . . والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده ؛ ولا يخاف شيئا سواه . .
( ادخلوا عليهم الباب . فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) . .
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب . . أقدموا واقتحموا . فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم ؛ وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم . .
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . .
فعلى الله - وحده - يتوكل المؤمن . وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته ؛ وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه . . ولكن لمن يقولان هذا الكلام ؟ لبني إسرائيل ؟ !
فُصلت هذه الجمل الأربع جرياً على طريقة المحاورة كما بيّنّاه سالفاً في سورة البقرة . والرجلان هما يوشع وكالب . ووُصف الرجلان بأنّهم { من الّذين يخافون } فيجوز أن يكون المراد بالخوف في قوله : { يخافون } الخوفُ من العدوّ ؛ فيكون المراد باسم الموصول بني إسرائيل . جعل تعريفهم بالموصولية للتعريض بهم بمذمّة الخوف وعدم الشجاعة ، فيكون « مِن » في قوله : { من الذين يخافون } اتّصالية وهي الّتي في نحو قولهم : لستُ منك ولستَ منّي ، أي ينتسبون إلى الذين يخافون . وليس المعنى أنّهم متّصفون بالخوف بقرينة أنّهم حرّضوا قومهم على غزو العدوّ ، وعليه يكون قوله : { أنعم الله عليهما } أنّ الله أنعم عليهما بالشجاعة ، فحذف متعلّق فعل « أنعم » اكتفاء بدلالة السياق عليه . ويجوز أن يكون المراد بالخوف الخوفَ من الله تعالى ، أي كان قولهما لقومها « ادخلوا عليهم الباب » ناشئاً عن خوفهما الله تعالى ، فيكون تعريضاً بأنّ الذين عصوهما لا يخافون الله تعالى ، ويكون قوله : { أنعم الله عليهما } استئنافاً بيانياً لبيان منشأ خوفهما الله تعالى ، أي الخوف من الله نعمة منه عليهما . وهذا يقتضي أنّ الشجاعة في نصر الدّين نعمة من الله على صاحبها .
ومعنى { أنعم الله عليهما } أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة .
و { الباب } يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدّسة ، أي المسالك الّتي يسلك منها إلى أرض كنعان ، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعْرَيْن ، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله : { ادخلوا الأرض المقدّسة } ، فأرادَا : فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم . وقد يسمّى الثغر البحري باباً أيضاً ، مثل باب المندب ، وسمّوا موضعاً بجهة بخاري الباب . وحمل المفسّرون الباب على المشهور المتعارف ، وهو باب البلد الذي في سوره ، فقالوا : أرادا باب قريتهم ، أي لأنّ فتح مدينة الأرض يعدّ ملكاً لجميع تلك الأرض . والظاهر أن هذه القرية هي ( أريحا ) أو ( قادش ) حاضرة العمالقة يومئذٍ ، وهي المذكورة في سورة البقرة . والباب بهذا المعنى هو دفّة عظيمة متّخذة من ألواح تُوصل بجزأيّ جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادّاً لتلك الفرجة متى أريد سدّها وبأن تفتح عند إرادة فتحها ؛ فيسمّى السَّد به غلقاً وإزالة السدّ فتحاً .
وبعد أن أمرا القوم باتّخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكّل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله ، ولذلك ذيّلا بقولهما : { إن كنتم مؤمنين } ، لأنّ الشكّ في صدق الرسول مبطل للإيمان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن الرجلين الصالحين من قوم موسى: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا، أنهما وفيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومه بني إسرائيل الذين أمرهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين، بما رأيا وعاينا من شدة بطش الجبابرة وعظم خلقهم، ووصفهما الله بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه...
"أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما": أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل الذي حذّر عنه أصحابهما الآخرين الذين كانوا معهما من النقباء. وقد قيل: إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف. [عن الضحاك] في قوله: "قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما "بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبارين.
"ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ".
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل إذ جبنوا وخافوا من الدخول على الجبارين لما سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فقالا لهم: ادخلوا عليهم أيها القوم باب مدينتهم، فإن الله معكم وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم. "وعلى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ": وهذا أيضا خبر من الله جلّ وعزّ، عن قول الرجلين اللذين يخافان الله أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك، ويرغبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم: توكلوا أيها القوم على الله في دخولكم عليهم ويقولان لهم: ثقوا بالله فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوّكم. وعنيا بقولهما "إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ": إن كنتم مصدّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيما أنبأكم عن ربكم من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه، ومؤمنين بأن ربكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوّه وعدوّكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} أي مصدقين بوعد موسى بالفتح لكم والنصر. ويحتمل {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} فإن كل من توكل على الله، ووثق [به] نصره الله، وجعله غالبا على عدوه، والله أعلم. {ادخلوا عليهم الباب} كأن المراد من الباب ليس نفس الباب ولكن جهة من الجهات التي يكون الدخول عليهم من تلك الجهة أوفق وأهون؛ كأنه قال {ادخلوا عليهم} جهة كذا، والله أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَليْهِمُ البَابَ} رُوي عن قتادة في قوله: {يَخَافُونَ} أنهم يخافون الله تعالى. وقال غيره من أهل العلم:"يخافون الجبارين" ولم يمنعهم الخوف من أن يقولوا الحق فأثْنَى الله عليهما بذلك، فدلّ على فضيلة قول الحقّ عند الخوف وشرف منزلته.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالتوفيق والعصمة..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا، وينبغي للمؤمن أن يتوكل. ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادَّ له، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومِنْ الله ولله، فإنَّ مَنْ فَقَدَ ذلك انتفى عنه اسم الإيمان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَالَ رَجُلاَنِ} هما كالب ويوشع {مِنَ الذين يَخَافُونَ} من الذين يخافون الله ويخشونه، كأنه قيل: رجلان من المتقين. ويجوز أن تكون الواو لبني إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف تقديره: من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالإيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم يشجعانهم على قتالهم. وقراءة من قرأ: «يخافون» بالضم شاهدة له، وكذلك أنعم الله عليهما، كأنه قيل: من المخوفين. وقيل: هو من الإخافة، ومعناه من الذين يخوفون من الله بالتذكرة والموعظة. أو يخوّفهم وعيد الله بالعقاب.
فإن قلت: من أين علما أنهم غالبون؟ قلت: من جهة إخبار موسى بذلك. وقوله تعالى: {كَتَبَ الله لَكُمْ} وقيل: من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة.
المسألة الثالثة: قوله {ادخلوا عليهم الباب} مبالغة في الوعد بالنصر والظفر، كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار، فلا تخافوهم. والله أعلم.
المسألة الرابعة: إنما جزم هذان الرجلان في قولهما {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} لأنهما كانا جازمين بنبوة موسى عليه السلام، فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن الله قال: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} لا جرم قطعا بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} يعني لما وعدكم الله تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم، بل توكلوا على الله في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإله القادر ومؤمنين بصحة نبوة موسى عليه السلام.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق، استرابا في إيمانهم، فأمراهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
.. {فتوكلوا} أي لا على عُدة منكم ولا عِدة ولا حول ولا قوة. ولما كان الإخلاص يلزمه التوكل وعدم الخوف من غير الله، ألهمهم بقوله؛ {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {مؤمنين} أي عريقين في الإيمان بنبيكم صلى الله عليه وسلم والتصديق بجميع ما أتى به،
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي وعليكم بعد أن تعلموا ما يدخل في طاقتكم من طاعة ربكم، أن تكلوا أمركم إليه وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم، فإن التوكل إنما يكون بعد بذل الوسع، في مراعاة السنة وامتثال الأمر، إن كنتم مؤمنين بأن ما وعدكم ربكم على لسان نبيكم حق، وأنه قادر على الوفاء لكم بوعده، إذا أنتم قمتم بما يجب عليكم من طاعته وشكره، والوفاء بميثاقه وعهده.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أي: ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تجزموا عليهم، وتدخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه عليهم فإنهم سينهزمون، ثم أمَرَاهم بعدة هي أقوى العدد، فقالا: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن في التوكل على الله -وخصوصا في هذا الموطن- تيسيرا للأمر، ونصرا على الأعداء. ودل هذا على وجوب التوكل، وعلى أنه بحسب إيمان العبد يكون توكله،
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا تبرز قيمة الإيمان بالله، والخوف منه.. فهذان رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة؛ وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس. فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته -جل جلاله- ومخافة الناس.. والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده؛ ولا يخاف شيئا سواه.. (ادخلوا عليهم الباب. فإذا دخلتموه فإنكم غالبون).. قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب.. أقدموا واقتحموا. فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم؛ وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم.. (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).. فعلى الله -وحده- يتوكل المؤمن. وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته؛ وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه.. ولكن لمن يقولان هذا الكلام؟ لبني إسرائيل؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {أنعم الله عليهما} أنعم عليهما بسلب الخوف من نفوسهم وبمعرفة الحقيقة. و {الباب} يجوز أن يراد به مدخل الأرض المقدّسة، أي المسالك الّتي يسلك منها إلى أرض كنعان، وهو الثغر والمضيق الذي يسلك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جبلين وعْرَيْن، إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينة بل أرض لقوله: {ادخلوا الأرض المقدّسة}، فأرادَا: فإذا اجتزتم الثغر ووطئتم أرض الأعداء غلبتموهم في قتالهم في ديارهم. وقد يسمّى الثغر البحري باباً أيضاً، مثل باب المندب، وسمّوا موضعاً بجهة بخارى الباب. وحمل المفسّرون الباب على المشهور المتعارف، وهو باب البلد الذي في سوره، فقالوا: أرادا باب قريتهم، أي لأنّ فتح مدينة الأرض يعدّ ملكاً لجميع تلك الأرض. والظاهر أن هذه القرية هي (أريحا) أو (قادش) حاضرة العمالقة يومئذٍ، وهي المذكورة في سورة البقرة. والباب بهذا المعنى هو دفّة عظيمة متّخذة من ألواح تُوصل بجزأيّ جدار أو سور بكيفية تسمح لأن يكون ذلك اللوح سادّاً لتلك الفرجة متى أريد سدّها وبأن تفتح عند إرادة فتحها؛ فيسمّى السَّد به غلقاً وإزالة السدّ فتحاً. وبعد أن أمرا القوم باتّخاذ الأسباب والوسائل أمراهم بالتوكّل على الله والاعتماد على وعده ونصره وخبر رسوله، ولذلك ذيّلا بقولهما: {إن كنتم مؤمنين}، لأنّ الشكّ في صدق الرسول مبطل للإيمان.
" فإن يخرجوا منها فإنا داخلون "ونقول: وهل الأمم التي تخطوا إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها وجود عناصر الخير؟ لا، لأن الحق يبقي بعضا من عناصر الخير حتى لا ينطمس الخير وهذا ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول فقد خالفهم رجلان منهم. {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23)}: وهما رجلان يخافان النكوص عن أمر الله، بينما بنو إسرائيل كمجموع لم يفهموا عن الله حق الفهم، لأنهم لو نفذوا أمر الله بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك، لكن لم يفهم عن الله فيها إلا رجلان فقد قالا: ما دام الله قد كتب لكم الدخول فهو لا يطلب منا إلا قليلا من الجهاد...
ويختتم الحق الآية بهذا التذييل:"وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "أي لا تتوقفوا عند حساب العدد في مواجهة العدد، والعدة في مواجهة العدة، ولكن احسبوا الأمر إيمانا لأن الله معكم "إن تنصروا الله ينصركم". وهو سبحانه القائل: {وإن جندنا لهم الغالبون173} (سورة الصافات).
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلوا زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.
- فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مع كل الاحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة (من الذين يخافون) إلاّ أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره، ويؤيد هذا التّفسير ما جاء في جملة (أنعم الله عليهما...) فأي نعمة أكبر وأرفع من أن يخاف الإِنسان من الله وحده ولا يخشى أحداً سواه.