اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (23)

قوله : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِين يَخَافُون } هذا الجارُّ والمَجْرُور في محلِّ رَفْع صِفَةٍ ل " رَجُلاَن " ، ومَفْعُول " يَخَافُونَ " محذوفٌ تَقْدِيرُهُ : " يَخَافُون الله " ، أو يخافُون العَدُوّ [ ولكن ثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تعالى ] بالإيمَان والثِّقَةِ به ، حتى قَالُوا هَذِه المَقَالة ، ويُؤيِّد التَّقْدير الأوَّل التَّصْرِيح بالمَفْعُول في قِرَاءة ابْن مَسْعُود{[11369]} " يَخَافُون اللَّه " ، وهذان [ التَّأوِيلاَن ]{[11370]} بِنَاء على ما هُوَ المَشْهُور عِنْد الجُمْهُور ، من كَوْنِ الرَّجُلَين القَائِلَيْن ذلك من قَوْمِ موسى ، وهما : يُوشَعُ بن نُون بن أفرائيم بن يُوسُف فتى مُوسَى ، والآخَر : كَالِب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى على أخْتِه مَرْيَم بِنْت عِمْران ، وكان من سِبْط يَهُوذَا .

وقيل : الرَّجُلان من الجَبَّارين ، ولكن أنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِما بالإيمَانِ حَتَّى قَالاَ هذه المقَالَة يُحَرِّضُونَهُم{[11371]} على قَوْمِهِم لِمُعَادَاتِهِم لهم في الدِّينِ وعلى هذا القَوْل فَيُحْتَمَل أن يكون المَفْعُولُ " يَخَافُون " كما تقدَّم ، أي : يَخَافُون اللَّه أو العَدو ، والمعنى كما تقدَّم ويُحْتَمَلُ أنَّ في المَفْعُول ضَمِيراً عَائِداً على المَوْصُولِ ، ويكون الضَّمِير المَرْفُوع في " يَخَافُون " ضَمِير بَنِي إسْرَائيل ، فالتَّقْدير : [ من ]{[11372]} الَّذِين يَخَافُهُمْ بَنُو إسْرَائِيل .

وأيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا التَّأوِيل بِقرَاءة مَنْ قرأ{[11373]} " يُخافون " مَبْنِيًّا للمَفْعُول [ وبِقَوْلِه أيْضاً ]{[11374]} { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهمَا } ، فإنَّه قال : " وقراءة مَنْ قَرأ " يُخَافُون " بالضَّمِّ شاهدة له ، ولذلك أنْعَم الله عَلَيْهِما ، كأنَّه قيل : من المُخَوفين " انتهى .

والقِرَاءةُ المَذْكُورة مَرْوِيَّة عن ابْن عبَّاسٍ ، وابن جُبَيْر ، ومُجاهد ، وأبدى الزَّمَخْشَرِي - أيضاً - في هذه القِرَاءة احْتِمَالاً آخَر ، وهو أن تكُون من الإضَافَةِ ومعناه : من الَّذين يَخُوَّفُون{[11375]} من اللَّه بالتَّذْكِرة والمَوْعِظَة ، أو يُخَوِّفهم وَعِيد الله بالعقَابِ .

وتَحْتَمِلُ القِرَاءةُ - أيضاً - وجْهاً آخَر ، وهو : أن يكُون المَعْنَى : يُخَافون ، أي : يُهَابُون [ ويُوَقَّرُون{[11376]} ، ويُرْجَعُ ] إليهم لِفَضْلِهِم وخَيْرِهِم .

ومع هَذَيْن الاحْتِمَالين الأخِيرَيْن ، فلا تَرْجِيحَ في هذه القراءة لِكَون الرَّجُلَيْن من الجبَّارين [ أما قوله كذلك : { أنعم الله عليهما } ، أي : في كونه مرجّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين ] فَغَيْرُ ظاهر ، لكون هذه الصِّفَة مُشْتَرَكَة بَيْن يُوشَع{[11377]} وكالب ، وبين غيرهما مِمَّن أنْعَمَ اللَّهُ عليه .

قوله : { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهما } في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه :

أظهرها : أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع ، وجيءَ{[11378]} هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد .

والثاني : أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر .

الثالث : أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في " يَخَافُون " قاله مَكِّي{[11379]} .

الرابع : أنَّها حالٌ من " رَجُلانِ " ، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة ، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف .

الخامس : أنَّها حالٌ من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور ، وهو " مِن الَّذِين " لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف ، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار{[11380]} " قَدْ " مع المَاضِي ، على خلافٍ سلف [ في المسألة ]{[11381]} .

فصل

قوله : { ادْخُلُوا عَلَيْهمُ البَابَ } مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر ؛ كأنَّه قيل : مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا ، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما : { فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنَّكُمْ غَالِبُون } ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام - ، فلمَّا أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال : { ادْخُلُواْ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم ]{[11382]} بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم : { وعلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤمنين } ، يعني : توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام - .


[11369]:ينظر: المحرر الوجيز 2/175، والدر المصون 2/506.
[11370]:سقط في أ.
[11371]:في أ: بحرصهم.
[11372]:سقط في أ.
[11373]:ينظر: الكشاف 1/620، والبحر المحيط 3/470 والمحرر الوجيز 2/175، والدر المصون 2/506.
[11374]:في أ: وكذلك.
[11375]:في أ: يخافون.
[11376]:في أ: ويؤثرون.
[11377]:سقط في أ.
[11378]:في أ: وهي.
[11379]:ينظر: المشكل 1/224.
[11380]:في أ: احتمال.
[11381]:سقط في أ.
[11382]:في أ: قطعا.