التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (23)

ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكروا إحجام قومهم عن الجهاد ، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

والمراد بالرجلين : يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وكانا من الاثني عشر نقيباً .

وقد وصف الله - تعالى - هذين الرجلين بوصفين .

أولهما : قوله : { مِنَ الذين يَخَافُونَ } أي : من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه - تعالى - بل يخافون العدو .

وقيل المعنى : من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله - تعالى - ربط على قلبيهما بطاعته . فجعلهما يقولان ما قالا :

الوصف الثاني : فهو قوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين . أي : قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله - تعالى - ولا يخافون سواه ، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتثبيت والثقة بوعده ، والطاعة لأمره قالا لقومهما .

ادخلوا عليهم الباب .

هذا ، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال : ويجوز أن تكون الواو في قوله : { يَخَافُونَ } - لبني إسرائيل . والراجع إلى الموصول محذوف . والتقدير : قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم ، - وهم الجبارون - وهما رجلان منهم " أنعم الله عليهما " بالإِيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ، يشجعانهم على قتالهم . وقراءؤة من قرأ : ( يخافون ) - يضم الياء - شاهدة له . وكذلك . أنعم الله عليهما .

والذي نراه أن الرأي الأول أرجح وهو أن الرجلين من بني إسرائيل ، وأن قوله - تعالى - { مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله - تعالى - أي : يخافون الله ويخشون لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية ، وهو الذي صدر به المفسرون تفسيرهم للآية ، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه في أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بني إسرائيل على قتال قومه ، بينما وردت الآثار في بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثني عشر نقيبا - كما سبق أن ذكرنا - وقوله - تعالى - { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين .

أي : قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما : ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم ، وباغتوهم بقتالكم إياهم ، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم ، وأدركتم الفوز ، فإنه " ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا " .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : من أين علما أنهم غالبون ؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك . ومن جهة قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله ، وما عهدوا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة .

وقوله - تعالى - : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها ، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب ، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم ، إن كانوا مؤمنين حقا ، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله - تعالى - لعباده ، وإلى توكل عليه وحده ، وإلى عزيمة صادقة ، ومباشرة للأسباب التي توصل إليه .