البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (23)

{ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } الأشهر عند المفسرين أنّ الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى ، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه : كلاب ، ويقال : كالوب ، وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى ، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال .

وقيل : الرجلان كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه ، وأنعم الله عليهما بالإيمان .

فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله : يخافون ، أي : يخافون الله ، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم ، وهذان منهم .

أو يخافون العدو ، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات ، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائداً على بني إسرائيل ، والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفاً تقديره : من الذين يخافونهم أي : يخافهم بنو إسرائيل .

ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، يخافون بضم الياء .

وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب .

ومعنى يخافون أي : يهابون ويوقرون ويسمع كلامهم لتقواهم وفضلهم ، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون : بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده ، فيكون ذلك مدحاً لهم كقوله { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله : رجلان ، وصفا أولاً بالجار والمجرور ، ثم ثانياً بالجملة .

وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما ، وجوز أن تكون الجملة حالاً على إضمار قد ، وأن تكون اعتراضاً ، فلا يكون لها موضع من الإعراب .

وفي قراءة عبد الله .

أنعم الله عليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب .

والباب : باب مدينة الجبارين ، والمعنى : اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب ، وهذا يدل على أنّ موسى كان قد أنزل محلته قريباً من المدينة .

{ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله : { التي كتب الله لكم } وقيل : رجاء لنصر الله رسله ، وغلب ذلك على ظنهم .

وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا ، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم ، فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى .

وعلى قول أنّ الرجلين كانا من الجبارين فقيل : إنهما قالا لهم : إنّ العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم ، وارجعوا إليهم فإنكم غالبوهم تشجيعاً لهم على قتالهم .

{ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق ، استرابا في إيمانهم ، فأمراهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد ، وعلق ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل .