روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (23)

{ قَالَ رَجُلاَن منَ الذين يَخَافُونَ } أي يخافون الله تعالى وبه قرىء ، والمراد رجلان من المتقين وهما كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والسدي والربيع يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ، وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو ، وقيل : المراد بالرجلين ما ذكر ، و { من الذين يخافون } بنو إسرائيل ؛ والمراد يخافون العدو ، ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف ، وقيل : في الخوف أيضاً ، والمراد : أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه السلام ، فعلى هذا يكون { الذين } عبارة عن الجبابرة ، والواو ضمير بني إسرائيل ، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير { يخافون } بضم الياء ، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل : من المخوّفين أي يخافهم بنو إسرائيل ، وفيها احتمالان آخران : الأول : أن يكون من الإخافة ، ومعناه من الذين يخوّفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة ؛ أو يخوّفهم وعيد الله تعالى بالعقاب ، والثاني : أن معنى { يخافون } يهابون ويوقرون ، ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم ؛ ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين ، وترجيح ذلك بقوله تعالى : { أنْعَمَ الله عَلَيْهمَا } أي بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضاً لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما ، وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع ، والجملة صفة ثانية لرجلين أو اعتراض ، وقيل : حال بتقدير قد من ضمير { يخافون } أو من { رجلان } لتخصيصه بالصفة ، أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين .

{ ادخلوا عَلَيْهمُ الباب } أي باب مدينتهم وتقديم { عليها } عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم ليصحروا ويجدوا للحرب مجالاً { فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ } عليهم الباب { فَإنَّكُمْ غالبون } من غير حاجة ( إلى ) القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر ، وقيل : إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام ، و ( من ) قوله : { التي كتب الله لكم } [ المائدة : 21 ] ، وقيل : من جهة غلبة الظن ، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله ، وما عهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه السلام في قهر أعدائه ، قيل : والأول : أنسب بتعليق الغلبة بالدخول .

{ وَعَلَى الله } تعالى خاصة { فَتَوَكَّلُواْ } بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا تؤثر من دون إذنه إن { كُنْتُمْ مُّؤْمنينَ } بالله تعالى ، والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق ، وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أي : إن كنتم مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتماً . .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ } سوء عاقبة ملازمة الجسم { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } بالهداية إلى الصراط السوي وهما العقل النظري والعقل العملي { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب } أي باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون } بخروجكم عن أفعالكم وحولكم ، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى : { وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] بالحقيقة وهو الإيمان عن حضور ، وأقل درجاته تجلي الأفعال { قَالُواْ يا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض { إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات