199- إن بعض أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على محمد وبما أنزل على الرسل من قبله ، تراهم خاضعين لله ضارعين إليه ، لا يستبدلون بالبينات الظاهرة عرضاً من أعراض الدنيا مهما عظم فهو قليل ، هؤلاء لهم الجزاء الأوفى في دار الرضوان عند ربهم والله سريع الحساب لا يعجزه إحصاء أعمالهم ومحاسبتهم عليها ، وهو قادر على ذلك وجزاؤه نازل بهم لا محالة .
قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } . الآية ، قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة : نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية ، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ، النجاشي " فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات ، واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط ، وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : نزلت في أهل نجران أربعين رجلاً ، اثنان وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى عليه السلام ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) .
قوله تعالى : { وما أنزل إليكم } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { وما أنزل إليهم } . يعني : التوراة والإنجيل .
قوله تعالى : { خاشعين لله } . خاضعين متواضعين لله .
قوله تعالى : { لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } . يعني : لا يحرفون كتبهم ، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة ، كفعل غيرهم من رؤساء اليهود .
قوله تعالى : { أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } .
ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب ليسوا سواء . بل منهم الأشرار ومنهم الأخيار ، وقد بين - سبحانه - هنا صفات الأخيار منهم فقال : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } .
أى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب } وهم اليهود والنصارى لفريقاً { يُؤْمِنُ بالله } إيمانا حقا منزها عن الإشراك بكل مظاهره ويؤمن بما { أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بحقيقة " ما أنزل إليهم " من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق { خَاشِعِينَ للَّهِ } أى خاضعين له - سبحانه - خائفين من عقابه ، طالبين لرضاه { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أى لا يبيعون آيات الله أو حقيقة من حقائق دينهم فى نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا الفانية ، لأن هذا الثمن المأخوذ قليل حتى ولو بلغ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد وصفهم بخمس صفات كريمة تدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ، وفى هذا إنصاف من القرآن الكريم للمهتدين من أهل الكتاب .
وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآية فى كثير من سوره ومن ذلك قوله - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وقوله - تعالى - { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } وقدم - سبحانه - إيمانهم بالقرآن على إيمانهم بما أنزل عليهم لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية والأمين عليها ، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه فهو باطل وقوله { خَاشِعِينَ للَّهِ } حال من فاعل { يُؤْمِنُ } وجمع حملا على المعنى :
ثم بين - سبحانه - جزاءهم الطيب بعد بيان صفاتهم الكريمة فقال : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
أى أولئك الموصفون بتلك الصفات الكريمة لهم أجرهم الجزيل فى مقابل أعمالهم الصالحة وأفعالهم الحميدة .
وقوله { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وأنه يوفيها لكل عامل على ما ينبغى وقدر ما ينبغى .
ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر ؛ فإن سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء فكأنه قيل : لهم أجرهم عند ربهم عن قريب ، لأن الله - تعالى - سريع الحساب والجزاء .
وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب ، فيقرر أن فريقا منهم يؤمن إيمان المسلمين ، وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم . وسار سيرتهم . وله كذلك جزاؤهم :
( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم . خاشعين لله ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا . أولئك لهم أجرهم عند ربهم . إن الله سريع الحساب )
إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب . وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير . ففي معرض الإيمان ، وفي مشهد الدعاء والاستجابة ، يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق ، وانتهوا إلى النهاية . فآمنوا بالكتاب كله ، ولم يفرقوا بين الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد من رسله . آمنوا بما أنزل إليهم من قبل ، وآمنوا بما أنزل للمسلمين - وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود ؛ وتنظر إلى خط العقيدة موصولا بالله ، وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة ، ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب : سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمنا قليلا . . ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب ، وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله . ثم التزوير والكتمان لآيات الله ، لقاء أعراض الحياة الرخيصة !
ويعدهم أجر المؤمنين عند الله . الذي لا يمطل المتعاملين معه - حاشاه - !
عطف على جملة { لكن الذين اتقوا ربهم } [ آل عمران : 198 ] استكمالاً لذكر الفِرَق في تلقّي الإسلام : فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة ، وأثنى الله عليهم بأنّهم لا يحرّفون الدين ، والآية مؤذنة بأنّهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنّهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنّهم من أهل الكتاب ، وهذا الصنف بعكس حال المنافين . وأكّد الخبر بأنّ وبلام الابتداء للردّ على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لمّا صلّى على النجاشي : انظروا إليه يصلّي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط . على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية . ولعلّ وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أُحُد .
وقيل : أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكّة إن صحّ خبر إسلامهم .
وجيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } للتنبيه على أنّ المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدّم اسمَ الإشارة .
وأشار بقوله : { إن الله سريع الحساب } إلى أنّه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة .