المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

105- أنزلنا إليك القرآن حقاً وصدقاً ، مشتملاً على كل ما هو حق ، مبيناً للحق إلى يوم القيامة ليكون منارك في الحكم بين الناس ، فاحكم بينهم ولا تكن مدافعاً عن الخائنين .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } الآية ، روى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق ، من بني ظفر بن الحارث ، سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، وكانت الدرع في جراب له فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، يقال له زيد بن السمين ، فالتمست الدرع عند طعمة ، فحلف بالله ما أخذها وما له بها من علم ، فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره ، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه منه ، فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة بن أبيرق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا له : إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى ، أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة ، فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق ، فجاء به إلى دار زيد السمين ، وتركه على بابه ، وحمل الدرع إلى بيته ، فلما أصبح صاحب الدرع جاء على أثر النخالة إلى دار زيد السمين ، فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي . وقال مقاتل : إن زيداً السمين أودع درعاً عند طعمة فجحدها طعمة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } بالأمر ، والنهي ، والفصل .

قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } . بما علمك الله وأوحى إليك .

قوله تعالى : { ولا تكن للخائنين } . طعمة .

قوله تعالى : { خصيماً } معيناً . مدافعاً عنه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

وبعد أن أمر الله - تعالى - المؤمنين بالمحافظة على فرائضه وبأخذ حذرهم من الأعداء . وبالاستعداد لإِبطال مكرهم ، وبمواصلة قتالهم حتى تعلو كلمة الحق ، بعد كل هذا أمر - سبحانه - المؤمنين فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن يلتزموا الحق فى كل شئونهم وأحوالهم ، لأن عدم التقيد بالحق والعدل يؤدى إلى ضعف الأمة واضمحلالها . وقد ساق - سبحانه - فى آيات كريمة ما يهدى القلوب إلى صراطه المستقيم فقال - تعالى - : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ . . . عَلَيْكَ عَظِيماً } .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ( 105 ) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 106 ) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( 107 ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( 108 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ( 109 ) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 110 ) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 111 ) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 112 ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( 113 )

ذكر المفسسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة السياق إلا أنها متقاربة المعانى . ومن ذلك ما ذكره صاحب الشكاف من أن رجلا اسمه طعمة بن أبيرق - أحد بنى ظفر - سرق درعا من جار له اسمه قتادة ابن النعمان فى جراب دقيق . فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه . وخبأ طعمة الدرع عند رجل من اليهود اسمه زيد بن السمين .

فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها ، وماله بها علم ، فتركوه واتبعوه أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودى فأخذوها . فقال اليهودى : دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود . فقالت بنو ظفر - أقرب طعمة - : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصلوا إليه سألوه أن يجادل - أى يدافع - عن صاحبهم طعمة وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودى . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودى . وقيل هم أن يقطع يده فنزلت .

وهذه الآيات الكريمة وإن كانت قد نزلت فى حادثة معينة ، إلا أن توجيهاتها وأحكامها تتناول جميع المكلفين فى كل زمان ومكان .

وقوله تعالى { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ } تشريف للنبى صلى الله عليه وسلم وإرشاد إلى ما يجب أن يكون عليه الحاكم أو القاضى من عدالة ونزاهة .

أى : إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن الكريم ، إنزالا ملتبسا بالحق وبالعدل لكى تحكم بين الناس فى قضاياهم بما أراك الله . أى بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك وقوله { بالحق } فى محل نصب على الحال المؤكدة فيتعلق بمحذوف . وصاحب الحال هو الكتاب . أى : أنزلناه ملتبسا بالحق .

وقوله { بِمَآ أَرَاكَ } الفعل هنا متعد لاثنين أحدهما العائد المحذف والآخر كاف الخطاب أى : بما أراكه الله . أى : بما عرفك وأعلمك .

وسمى ذلك العلم بالرؤية ، لأن العلم اليقينى المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية فى القوة والظهور .

قال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية . وبما ثبت فى الصحيحين " عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصوم بباب حجرته فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر . وإنما أقضى بنحو مما أسمع . ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار ، فليحملها أو ليذرها " " .

وفى رواية للإِمام أحمد عن السيدة أم سلمة - أيضا - قالت : " جاء رجلان من النصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواريث بينهما قد درست . ليس عندها بينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر . ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض . فإنى أقضى بينكم على نحو ما أسمع . فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار . . . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقى لأخى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إذا قلتما ذلك فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما . ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه " " .

وقوله { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } معطوف على كلام مقدر يفهم من المقام . والخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع عن غيره فهو اسم فاعل بمعنى مخاصم وجمعه الخصماء . وأصله من الخصم وهو ناحية الشئ وطرفه . وقيل للخصمين خصمان ، لأن كل واحد منهما فى ناحية من الحجة والدعوى .

والمعنى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم به ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء ، بأن تجعل فكرك ينحاز إلى أولئك الخائنين - الذين يظهرون الإِسلام - قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق .

وسماهم - سبحانه - خائنين ، لأنهم فى علمه - تعالى - كانوا كذلك وقد أخبر نبيه بخيانتهم ليحذرهم ولا يسحن الظن بهم .

قال القرطبى : قال العلماء : لا ينبغى إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم . فإن هذا قد وقع على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } . وقوله { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } .

والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دون لوجهين :

أحدهما : أنه - تعالى - أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله { هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا } . والآخر : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم ، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره فدل على أن القصد لغيره .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

105

( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ، ولا تكن للخائنين خصيما . واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله . وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ؟ أم من يكون عليهم وكيلا ؟ ) .

إننا نحس في التعبير صرامة ، يفوح منها الغضب للحق ، والغيرة على العدل ؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها :

وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله [ ص ] بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه ، وتقويم أيضاً على الجادة في الحكم ، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة ، وقوله تعالى : { بما أراك الله } معناه : على قوانين الشرع ، إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي ، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ، وقوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً ، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق ، وكانوا إخوة ، بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وينحل الشعر غيره ، فكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث ، فقال شعراً يتنصل فيه ، فمنه قوله :

أفكلما قال الرجال قصيدة . . . نحلت وقالوا : ابن الأبيرق قالها

قال قتادة بن النعمان : وكان بنو أبيرق أهل فاقة ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من درمك الشام{[4267]} فجعله في مشربة له{[4268]} ، وفي المشربة درعا له وسيفان ، فعدي على المشربة من الليل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا ، فقال : فتحسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم ، قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : «ونحن نسأل » والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ، رجل منا له صلاح وإسلام ، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه{[4269]} ثم أتى بني ابيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها{[4270]} فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي : يابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه ، فقال : انظر في ذلك ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلاً منهم يقال له : أسير بن عروة{[4271]} فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته قال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة ، قال : فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه ، فأتيت عمي فقال : ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن { إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } الآيات .

فالخائنون بنو أبيرق ، والبريء المرمي لبيد بن سهل ، والطائفة التي همت : أسير وأصحابه .

وقال قتادة وغير واحد من المتأولين : هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة ، وقال السدي : القصة في طعمة بن أبيرق ولكن بأن استودعه يهودي درعاً فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليك الأنصاري{[4272]} ، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح ، وأبو مليل هو البريء المشار إليه ، وقال عكرمة : سرق طعمة بن أبيرق درعاً من مشربة ورمى بسرقتها رجلاً من اليهود يقال له : زيد بن السمين .

قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه ، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق ، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم ، وخلق{[4273]} مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك ، ونبه على مقالة قتادة بن النعمان بقوله : { ولا تكن للخائنين خصيماً } .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وطعيمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة ، ونزل على سلافة{[4274]} فرماها حسان بن ثابت بشعر ، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت : اخرج عنا ، أهديت إليَّ شعر حسان ، فروي : أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله ، وروي : أنه اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه .


[4267]:- الدّرمك: الدقيق الناعم. وهو هنا يقصد نوعا معينا يأتي من الشام.
[4268]:- المشربة: المكان يشرب منه، وهو بفتح الراء وضمها، والجمع: مشارب.
[4269]:- اخترط سيفه: استلّه من غمده.
[4270]:- أي: بصاحب الحادثة، أو السرقة.
[4271]:- قال القرطبي في تفسيره: ابن عم لهم. يعني لبني أبيرق. وكان أسير هذا مسلما، ومن ذلك الوقت اتهم بالنفاق، قال ابن إسحاق: وفيه نزلت: [لهمّت طائفة منهم أن يضلوك]. (عن الاستيعاب 1/ 100).
[4272]:- قال في الإصابة (12/28): أبو مليك هو: سليك بن الأغر، مذكور في الصحابة، كذا ذكره ابن عبد البر مختصرا، وأنا أخشى أن يكون هو الذي بعده وقع فيه تصحيف وتحريف" والذي بعده هو: أبو مُليل –بلامين- الأنصاري، ذكره ابن إسحاق وغيره فيمن شهد بدرا، وقال ابن فتحون: إنهما واحد.اهـ- والثابت في الأصول: أبو مليك وفي بعضها: أبو مليكة. وكذلك هو في "البحر المحيط".
[4273]:- هكذا في الأصول: والصواب أن تكون: (وخلقا)، لأنها معطوفة على: (معصية) خبر (كان)، اللهم إلا إذا قدرناها خبرا لمبتدأ محذوف، أي: وهي خلق، ومعناها: اختلاق وافتراء، أو لعلها من سهو النساخ، والله أعلم.
[4274]:- اسمها: سلافة (بضم السين) بنت سعد بن شهيد، ومن شعر حسان فيها قوله: وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم وفينا نبي عنده الحي واضعه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

اتّصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم ، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله : { يأيها الذين آمنوا خُذوا حذركم فانفروا } [ النساء : 71 ] الآية ، وتخلّل فيه من أحوال المنافقين في تربّصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين ، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد ، وانتقل إلى ذكر الهجرة ، وعقّب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف ، عاد الكلام بعد ذلك إلى أحوال أهل النفاق .

والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .

وجمهور المفسّرين على أنّ هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي حاصلها : أنّ أخوةً ثلاثة يقال لهم : بِشر وبَشير ومُبشّر ، أبناء أبَيْرِق ، وقيل : أبناء طُعْمَةَ بن أبيرق ، وقيل : إنّما كان بشير أحدهم يكنى أبا طُعمة ، وهم من بني ظَفَر من أهل المدينة ، وكان بشير شرّهم ، وكان منافقاً يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره ، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة ، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد ، وكانت عِير قد أقبلت من الشام بدَرْمَككٍ وهو دقيق الحُوّارَى أي السميذ فابتاع منها رفاعة بن زيد حِملا من دَرْمك لطعامه ، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير ، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيّد المنزل شيئاً لطعامه فجَعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح ، فعدَى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح ، فلمّا أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه قتادة بن النعمان بذلك ، فجعل يتحسّس ، فأنبىء بأنّ بني أبيرق استوقدُوا في تلك الليلة ناراً ، ولعلّه على بعض طعام رفاعة ، فلمّا افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مُليل الأنصاري . وقيل : في دار يهودي اسمه زيد بن السمين ، وقيل : لبيد بنُ سهل ، وجاء بعض بني ظَفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكوا إليه أنّ رفاعة وابن أخيه اتَّهَما بالسرقة أهلَ بيت إيمان وصلاح ، قال قتادة : فأتَيت رسول الله ، فقال لي " عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بيّنة " . وأشاعوا في الناس أنّ المسروق في دار أبي مُليل أو دار اليهودي . فما لبث أن نزلت هذه الآية ، وأطْلَعَ الله رسولَه على جِليّة الأمر ، معجزة له ، حتى لا يطمع أحد في أن يروّج على الرسول باطلاً . هذا هو الصحيح في سَوق هذا الخبر . ووقع في « كتاب أسباب النزول » للواحدي ، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرتُه : وأنّ بني ظَفر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن أصحابهم كي لا يفتضحوا ويبرأ اليهودي ، وأنّ رسول الله هَمّ بذلك ، فنزلت الآية . وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لام اليهودي وبَرّأ المتّهم ، وهذه الرواية واهية ، وهذه الزيادة خطأ بيِّنٌ من أهل القَصص دون علم ولا تبصّر بمعاني القرآن .

والظاهر أنّ صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة ، فهو غير مختصّ بها ، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوّح إليها ، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } .

وقوله : { بما أراك الله } الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور ، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ . والرؤية في قوله : { أراك الله } عرفانية ، وحقيقتها الرؤية البصرية ، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد . والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحداً فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا ، وقد حذف المفعول الثاني لأنّه ضمير الموصول ، فأغنى عنه الموصول ، وهو حذف كثير ، والتقدير : بما أراكَه الله .

فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس ، وليس المراد أنّه يُعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له : إن فلاناً على الحقّ ، لأنّ هذا لا يلزم اطّراده ، ولأنّه لا يُلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإنْ صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية ، بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك ، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب ، مثل قوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] ، فقد أبطل حكم التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فأعلَمنا أنّ قَول الرجل لمن ليس ولده : هذا ولدي ، لا يجعل للمنسوب حقّاً في ميراثه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطىء في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها ، وقد يعرض الخطأ لغيره ، وليس المراد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصادف الحقّ من غير وجوهه الجارية بين الناس ، ولذلك قال " إنّما أنا بَشَر وإنَّكُم تختصمون إليّ ولعَلّ بعضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بحجّته من بعضٍ فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخُذْه فإنّما أقْتَطِعُ له قِطعَة من نار " . وغير الرسول يخطىء في الاندراج ، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل ، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة . وعن عمر بن الخطاب أنّه قال : « لا يقولّن أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلاّ لنبيّه وأمّا الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ولا يكون علماً » ، ومعناه هو ما قدّمناه من عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلى الله عليه وسلم .

واللام في قوله : { للخائنين خصيماً } لام العلّة وليست لامَ التقوية . ومفعول { خصيماً } محذوف دلّ عليه ذكر مقابله وهو { للخائنين } أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين ، أي لا تخاصم عنهم .

فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله : « كنت أنا خَصْمَه يوم القيامة » . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد الأمّة ، لأنّ الخصام عن الخائنين لا يتوقّع من النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما المراد تحذير الذين دفعتهم الحميّة إلى الانتصار لأبناء أبيرق .