تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

المفردات :

خصيما : مجادلا ، و مدافعا .

التفسير :

105 _ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا .

اختار الله رسوله بشرا من بين الناس ؛ ليكون قدوة عملية في سلوكه وله أن يجتهد في الحكم بين الناس وهذا هو رأي الجمهور .

وقال بعضهم : ليس له أن يجتهد ؛ لأن الوحي قطعى ، والاجتهاد ظني .

و أجيب عن ذلك بأن الوحي قد لا ينزل عليه في كل وقت ؛ فقد تأخر عنه الوحي خمسة عشر يوما . ثم إن الاجتهاد من صفة العلماء إذا توفرت لديهم شروطه و الرسول نوع مختار من البشر يتمتع بالذكاء والفطنة والأمانة فهو أولى أن يتمتع بهذه النعمة ، و أن يعمل عقله في ما لم ينزل عليه وحي بشأنه .

فإذا تخاصم إليه رجلان فمن حقه أن يقضي بينهما ، بما ينقدح في ذهنه بأنه الحق والصواب ، ولا يجب عليه انتظار الوحي ؛ لان الوحي من شئون الرسالة والدين ونظام التشريعة . أما شئون الدنيا والقضاء بين الناس في خصوماتهم العادية ، فهو من شئون الناس ؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بأصول دينه الذي أوحى إليه ، وبما ينقدح في دهنه من الحكم بعد الاستماع إلى أطراف القضية .

وقد ساق الإمام ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحداث تتعلق بهذه الآية . منها ما تبث في الصحيحين عن أم سلمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال : ( ( ألا إنما أنا بشر و إنما أقضى بنحو ما أسمع ولعل أحدكم أن أن يكون ألحن بحجته من بعض ؛ فأقضى له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها ! ) ){[84]}

سبب نزول هذه الآية وما بعدها :

ذكر ابن الجوزي ثلاثة أقوال في سبب نزول هذه الآية .

وقال ابن كثير : ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدى وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة .

وقال ابن الجوزي :

جمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتبييت : قوم طعمة بن أبيرق وقد بيتوا : احتيالهم في براءة أصحابهم بالكذب .

وقصة الآية :

أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتاده بن النعمان ؛ وكان الدرع في جراب فيه دقيق ؛ فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب ، حتى انتهى إلى الدار ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده ، وحلف : مالى بها علم ، فقال أصحابها : بلى و الله ، لقد دخل علينا فأخدها ، وطلبنا أثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدقيق ، فلما حلف تركوه ، واتبعوا أثر الدقيق ؛ حتى انتبهوا إلى منزل اليهودي فأخدوه ، فقال : دفعها إلى طعمة بن أبيرق ، فقال قوم طعمة : انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حتى نبرئ صاحبنا وندافع عنه ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كلامهم ، وهم أن يجادل عن طعمة بن أبيرق ، و أن يعاقب اليهودي ؛ فنزلت هذه الآيات كلها ؛ تبرئ اليهودي وتطلخ طعمة بعار السرقة {[85]} وفي ذلك نلمح صدق القرآن فهو يتحيز إلى الحق ، ويدافع عن يهودي برئ ، ويوجه الا تهام إلى مسلم خائن ؛ لأن القرآن كلام الله الحق ، ومن أصدق من الله حديثا ؟ !

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه .

إنا أنزلنا إليك القرآن الكريم ناطقا بالحق ، داعيا إليه وإلى التمسك به ؛ لتحكم بين الناس على اختلاف عقائدهم ، بما عرفك الله وأوحى به إليك ، ولا تكن مجادلا عن الخائنين ؛ فينتصروا على البرءاء .

قال ابن الجوزي :

لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ . أي : لتقضي بينهم ، وفي قوله : بما أراك الله . قولان :

أحدهما : أنه الذي علمه ، والذي علمه ألا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرها .

والثاني : أنه مما يؤدي إليه اجتهاده {[86]} .

وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا .

قال الزجاج : لا تكن مخاصما ، ولا دافعا عن خائن ، واختلفوا هل خاصم عنه أم لا على قولين :

أحدهما : أنه قام خطيبا فعذره .

والثاني : أنه هم بذلك ولم يفعله .

قال القاضي أبو يعلي : وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه ، وهو غير عالم بحقيقة أمره ؛ لأن الله تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك .


[84]:ألا إنما أنا بشر وإنما أقضى: رواه البخاري في المظالم (2458) وفي الشهادات (2680) وفي الحيل (6967) وفي الأحكام (7169،7181،7185) وفي الأقضية (1713) ومسلم في الأقضية (1713) ومالك في الموطإ كتاب الأقضية (1424) وأبو داود في الأقضية (3583) والترمذي في الأحكام (1339) والنسائي في آداب القضاة (5422) وابن ماجه في الأحكام (2317) (25952) من حديث أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها.
[85]:أنظر تفسير ابن الجوزى زاد المسير 2/190 ، وتفسير ابن كثير 1/551، وكذلك الكشاف وروح المعاني وغيرها.
[86]:(ابن الجوزى: زاد المسير في علم التفسير 2/191 المكتب الإسلامي ونقل في الهامش عن ابن كثير أنه قال: احتج بهذه الآية من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد وبما ثبت في الصحيحين "ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو ما أسمع..."