البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً } طوَّل المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره .

نزلت في طعمة بن أبيرق ، سرق درعاً في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ، فقال اليهودي : دفعها إليّ طعمة .

وقيل : استودع يهودي درعاً فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري .

قال السدي : وقيل : السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأهموا أنَّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الرسول همَّ أن يجادل عن طعمه ، أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة .

وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث ، إلا ابن بحر فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } انتهى .

وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية ، رجع إلى أحوال المنافقين ، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقاً ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قوم .

أو أنه لما أنه يجاهد الكفار ، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق .

والكتاب هنا القرآن .

ومعنى بالحق : أي لا عوج فيه ولا ميل .

والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي .

وقيل : بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال .

وقيل : بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن .

وعن عمر : «لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بماله عاقبة حميدة ، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل » .

وقال الماتريدي : بالحق أي : موافقاً لما هو الحق على العباد ، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بياناً لأمره .

وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة ، ليتزودوا له .

أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل .

بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه .

{ ولا تكن للخائنين خصيماً } أي : مخاصماً ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله : الزجاج والفارسي وغيرهما .

ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم ، والخائنون جمع .

فإنّ بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها ، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه ، فكانوا شركاء له في الإثم ، خصوصاً من يعلم أنه هو السارق .

أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه .

وخصيماً يحتاج متعلقاً محذوفاً أي البراء .

والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري ؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن سهل ؟ وقال يحيى بن سلام : وكان يهودياً .

وذكر المهدوي أنه كان مسلماً .

وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة ، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي .

ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد ، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه :

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت *** ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو *** وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت : ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان ، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، ثم نقب بيتاً ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات .

وقيل : اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه .

/خ113