اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} (105)

قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً }*{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }*{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }{[9626]}

في كيفية النَّظم وجُوهٌ :

أحدُها : أنَّه - تعالى - لما شَرَح أحْوَال المُنافِقِين وأمْر بالمُحَارَبَة ، وما يتَّصِل بها من الأحْكَام الشَّرْعِيَّة ، مثل قَتْل المسلم خَطَأ{[9627]} وصَلاَة المُسَافِر ، وصلاة الخَوْف ، رجع بَعْد ذَلِك إلى بَيَان أحْوَال المُنَافِقِين ؛ لأنَّهم كانوا يُحَاوِلُون [ حَمْل ]{[9628]} الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على أنْ يَحْكُم بالبَاطِل ويترك الحكمَ بالحَقِّ ، فأمره الله - تعالى - بألاَّ يلتَفِت إليْهِم في هذا البَابِ .

وثانيها : أنه - تعالى - لمَّا بيَّن الأحْكَام الكَثِيرة في هذه السُّورة ، بيَّن أنَّها كلها إنَّما عُرِفَت بإنْزَال الله - تعالى - ، وأنَّه ليس للرَّسُول أن يَحِيد عَنْ شَيْءٍ منها ؛ طلباً لِرِضا{[9629]} القَوْمِ .

وثالثها : أنَّه - تعالى - لما أمَر بالمجاهدة مَعَ الكُفَّار ، بَيَّن أن الأمْر وإن كَانَ كَذَلِك ، لكنه لا يَجُوزُ الخِيَانَة مَعَهُم{[9630]} ولا إِلْحَاق ما لَمْ يَفْعَلُوا بهم ، وأنَّ كُفْر الكَافِر لا يصحُّ المُسَامَحة له ، بل الوَاجِبُ في الدِّين : أن يحْكم له وعَلَيْه بِمَا أنْزَل اللَّه على رسُولِهِ ، وإن كان لا يَلْحَق الكَافِر حَيْفٌ ؛ لأجْل رِضَى المُنَافِقِ

[ قوله : " بالحَقِّ " : في محلِّ نصبٍ على الحَالِ المُؤكِّدة ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وصاحبُ الحَالِ هو الكِتَابُ ، أي : أنزلناه مُلْتبساً بالحَقِّ ، و " لتحكمْ " : متعلِّق ب " أنْزلنا " ، و " أراك " متعدٍّ لاثنين : أحدهما : العائدُ المَحْذُوفُ ، والثاني : كافُ الخطَابِ ، أي : بما أراكَهُ الله . والإراءَةُ هنا : يجوزُ أن تَكُون من الرَّأي ؛ كقولك : " رأيتُ رَأيَ الشَّافِعِي " ، أو من المَعْرِفة ، وعلى كلا التَّقْدِيرين ؛ فالفعلُ قبل النَّقْل بالهَمْزة متعدٍّ لواحد ، وبعدَه مُتَعَدٍّ لاثنين ] .

وقال أبو عَلِيٍّ الفَارِسِي{[9631]} : [ قوله ]{[9632]} " أرَاكَ اللَّهُ " إمّا أن يَكُون مَنْقُولاً بالهَمْزَة من " رَأيْت " ، الَّتِي يُرَاد بها رُؤْيَةُ البَصَر ، أو من " رَأيْت " [ الَّتِي ]{[9633]} تتعدَّى إلى مَفْعُولَيْن ، أو من " رأيْتُ " الَّتِي يُرَاد بها الاعْتِقَاد .

والأوَّل : بَاطِلٌ ؛ لأنَّ الحُكْمَ في الحَادِثَةِ لا يُرَى بالبَصَر .

والثاني : أيضاً بَاطِلٌ ؛ لأنَّه يَلْزَم أن يَتَعَدَّى إلى ثَلاَثَة مَفَاعِيل بسبب التعدية{[9634]} ومعلوم : أنَّ هذا اللَّفْظ لم يَتَعَدَّ إلاَّ إلى مَفْعُولين : أحدُهُما : كاف الخِطَابِ ، والآخر المَفْعُول المقدَّر ، وتقديره : بما أرَاكَهُ الله ، ولمَّا بَطَل القِسْمَان ، بقي الثَّالِث ، وهو أنَّ المُرَاد مِنْه : " رأيت " بمعنى : الاعْتِقَاد .

فصل في معنى الآية

معنى الآيَةِ : بما أعْلَمَكَ اللَّه ، وسُمِّي ذلك العِلْم بالرُّؤيَة ؛ لأن العِلْم اليَقِينِيِّ المُبَرَّأ عن الرَّيْب يكون جَارِياً مُجْرَى الرُّؤية في القُوَّة والظُّهُور ، وكان عُمَر يقُول : لا يَقُولَنَّ أحدُكُم قَضيتُ بما أرَانِي [ اللَّه ]{[9635]} ، فإن اللَّه - تعالى - لم يَجْعَلْ ذلك إلا لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ، وأما الوَاحِد منَّا فرأيُهُ يَكُون ظَنًّا ، ولا يكون عِلْماً .

وإذا ثَبَت ذَلِكَ قال المحققون{[9636]} : دَلَّت هذه الآيَةِ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - ما كان يَحْكُم إلا بِالوَحْي والنَّصِّ ، وإذا كان كَذَلِك ، فيتفَرَّعُ عليه مَسْألتانِ :

الأولَى : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَجُز لَهُ الاجْتِهَاد .

والثانية : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إذا لم يَجُز له أنْ يحكم إلا بالنَّصِّ ، وجَبَ أن تكُونَ أمَّتُهُ كَذَلِكَ ؛ لقوله - تعالى - { وَاتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] وإذا كان كَذَلِك ، حَرُمَ العَمَلُ بالقِيَاسِ .

والجَوَابُ : أنه لما قَامَت الدَّلاَلَة على أنَّ القِيَاس حُجَّة ، كان العَمل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ في الحَقِيقَةِ ؛ لأنَّه يَصِير التَّقْدير : أنه - تعالى - قال : مَتَى غَلَب على ظَنِّك أن حكم الصُّورَة المَسْكُوت عنها ، مثل حُكْم الصُّورَة المَنصُوص عَلَيْها ، بسبب أمرٍ جامعٍ [ فاعْلم : أنَّه تكليفي في حَقِّك أن تَعْمَل ]{[9637]} بِمُوجِبِ ذلكِ الظَّنِّ ، وإذا كان كَذَلِك ، كان العَمَل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ .

قوله : " للخائنين " متعلِّق ب " خَصِيماً " واللامُ : للتَّعْلِيل ، على بَابِها ، وقيل : هي بِمَعْنى : " عن " ، ولَيْسَ بشيء ؛ لصِحَّة المَعْنَى بدون ذَلِك ، ومفعولُ " خصيماً " : محذوفٌ ، تقدِيرُه : " خَصِيماً البُرَآء " ، وخَصِيمٌ : يجوز أن يَكُون مِثَال مبالغةٍ ، كضريبٍ ، وأن يكون بمعنى : مُفاعل ، نحو : خَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخاصِم ومُخالِط ومُجالِس .

قال الوَاحِدِي{[9638]} : خَصْمُك الذي يُخَاصِمُك ، وجمعه : الخُصَمَاء ، وأصْلُه من الخصْم : وهُو ناحية الشَّيْءِ ، والخصْم : طَرْف الزَّاوِيَة ، وطَرَف الأشْفَار ، وقيل للخَصْمَين : خَصْمَان ؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما في نَاحِيَةٍ من الحُجَّة والدَّعْوى ، وخُصُوم السَّحَابة : جَوَانِبها .

فصل : في سبب نزول الآية

روى الكلبي ، عن أبي صَالح ، عن ابن عبَّاسٍ ، قال : نزلت هذه الآية في رَجُلٍ من الأنْصَار ، يقال له : طعمة بن أبَيْرِق من بني ظَفر بن الحارث ، سرقَ دِرْعاً من جَارٍ له يُقَال له : قتادة بن النُّعْمَان ، وكانت الدِّرْع في جراب له فيه دَقِيقٌ ، فجعل الدَّقِيق يَنْتَثِر من خِرْق في الجِرَاب ، حتى انْتَهَى إلى الدَّار ، ثم خَبَّأها عند رَجُلٍ من اليَهُود ، يُقال له : زَيْد ابن السَّمِين ، فالتُمِسَتِ الدِّرْع عند طعمة ، فحَلَف بالله ما أخَذَها وما لَهُ بها من علم ، فقال أصْحَابُ الدِّرْع : لقد رَأينا أثر الدقيق حتى دخل دَارَه ، فلما حَلَف ، تركوه واتَّبَعُوا أثر الدقيق إلى مَنَزِل اليَهُودِيِّ ؛ فأخذوه منه ، فقال اليَهُودِيُّ : دفعها إليّ طعمة بن أبَيْرِق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طُعْمَة إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألُوه أن يُجادل عن صَاحِبِهم ، وقالوا له : إنك إن لم تَفْعَل ، افْتَضَحَ صَاحِبُنا ، فهمَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعاقِب اليَهُودِي{[9639]} .

ويُروى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عَنْهُما في رواية أخْرى : أن طعمة سَرَق الدِّرْع في جِرَابٍ فيه نخالة ، فخرق الجِرَاب حَتَّى كان يَتَنَاثر منه النُّخَالة طُول الطَّرِيق ، فجاء به إلى دَارِ زيْد السَّمِين وتركه على بابه ، وحَمَل الدِّرْع إلى بَيْتِه ، فلما أصْبَح صاحِبُ الدِّرْع ، جاء على أثَر النُّخَالة إلى دار زَيْدٍ السَّمين ، فأخذه وحمله إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يَقْطع يد زَيْد اليَهُودِي .

وقال مقاتل : إن زيداً السَّمين أوْدَع درعاً عند طعمة فَجَحَدَها طعمة ، فأنْزَل الله تعالى قوله : { إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ }{[9640]} بالأمْر ، والنَّهْي ، والفَصْل ، { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } : بما علّمَكَ الله وأوْحَى إليْك ، { وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ } : طعمة ، " خصيماً " : مُعيناً مُدَافِعاً عنه .

وهذه القِصَّة تَدُلُّ على أن طعمة وقوْمَه كانوا مُنَافِقِين ؛ لأنهم طلبوا البَاطِل ، ويؤكِّدُه قوله - تعالى - : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } [ النساء : 113 ] . ثم رُوي : أن طعمة هَرَب إلى مَكَّة وارتَدَّ ، وثَقَب حَائِطَاً ؛ ليَسْرِق ، فسقط الحَائِط عَلَيْه فمات .

فصل

قال الطَّاعِنُون في عِصْمة الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - : دلَّت هذه الآيةُ على صُدُور الذَّنْب من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - فإنَّه لَوْلاَ أن الرسُول - [ عليه الصلاة والسلام ]{[9641]} أراد أن يُخَاصِم لأجْل الخَائِن{[9642]} ويذب عنه{[9643]} ، وإلاّ لما وَرَدَ النَّهْي عَنْه .

والجوابُ : أنه لمَّا ثَبَتَ في الرِّواية : أنَّ قوم طعمة لما التمسُوا من الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أن يَذُبَّ عن طعمة ، وأنْ يُلْحِق السَّرقة باليَهُودِيِّ توقف وانتظر الوَحْي ، فنزلت الآيَة ، وكان الغَرَضُ من هذا النَّهْي : تَنْبيه النبيّ - عليه الصلاة والسلام - على أنَّ طعمة كَذَّابٌ ، وأن اليَهُودِيَّ بريءٌ من ذَلِك الجُرْمِ .

فإن قيل : الدَّليل على أنَّ الجُرْم قد وَقَعَ من النَّبِي - عليه الصلاة والسلام - قوله بعد ذلك : { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } والأمر بالاسْتِغْفَار ، يدل على صُدُور الذَّنْبِ .

فالجواب : من وجوه :

الأوَّل : لعله مَالَ طَبْعُهُ ، إلى نُصْرة طعمة ؛ بِسَبَبِ أنه كَانَ في الظَّاهِر من المُسْلِمِين ؛ فأمر بالاسْتِغْفَار لهذا القَدْر ، وحَسَنَاتُ الأبْرَار سَيِّئَات المُقَرَّبين .

الثَّاني : أن القَوْم لما شَهِدُوا بِبَراءَة طعمة ، وعلى اليَهُودِيِّ بالسَّرِقَة ، ولم يَظْهَر للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ما يُوجِب القَدْح في شَهَادَتِهم ، هَمَّ بأن يَقْضِي بالسَّرِقة عَلَى اليهودي ، ثمَّ لما أطْلَعَهُ اللَّه على كَذِب أولَئكَ الشُّهُود ، عَرَف أنَّ ذلك القَضَاء لو وَقَعَ ، لكان خَطَأ في نَفْسِه ، وإن كَانَ مَعْذُوراً عند اللَّه [ - تعالى - ]{[9644]} [ فيه ]{[9645]} .

الثالث : قوله : " واستغفر الله " يُحْتَمل أن يكُون المُرادُ : واستغفر الله لأولئك الَّذين يَذُبُّون عن طعمة ، ويُرِيدُون أن يُظْهِرُوا بَرَاءَته{[9646]} .

الرابع : قيل : الاسْتِغْفَار في حَقِّ الأنْبِياء بعد النُّبُوَّة على أحَدِ الوُجُوه الثَّلاثة : إما لِذَنْب تَقَدَّم قبل النُّبُوَّة ، أو لِذُنُوب أمَّته وقَرَابتِه ، أو لِمُبَاح جاء الشَّرْع بتحريمِهِ ، فيتركه بالاسْتِغْفَار ، والاسْتِغْفَار يَكُون مَعْناه : السَّمع{[9647]} والطَّاعة لحُكْمِ الشَّرْع .


[9626]:سقط في ب.
[9627]:في أ: الخطأ.
[9628]:سقط في ب.
[9629]:في أ: لنرضى.
[9630]:في أ: منهم.
[9631]:ينظر: تفسير الرازي 11/27.
[9632]:سقط في ب.
[9633]:سقط في أ.
[9634]:في أ: التعددية.
[9635]:سقط في أ.
[9636]:ينظر: تفسير الرازي 11/27.
[9637]:سقط في أ.
[9638]:ينظر: تفسير الرازي 11/27.
[9639]:ذكره البغوي في تفسيره 1/477.
[9640]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(9/185) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/385) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.
[9641]:سقط في أ.
[9642]:في ب: الخائنين.
[9643]:في ب: عنهم.
[9644]:سقط في أ.
[9645]:سقط في ب.
[9646]:في ب: إيمانه.
[9647]:في ب: الشرع.