95- وإن الجهاد مع هذا الاحتراس فضله عظيم جداً ، فلا يستوي الذين يقعدون عن الجهاد في منازلهم والذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ، فقد جعل اللَّه للمجاهدين درجة رفيعة فوق الذين قعدوا إلا إذا كان القاعدون من ذوى الأعذار التي تمنعهم من الخروج للقتال ، فإن عذرهم يرفع عنهم الملامة ومع أن المجاهدين لهم فضل ودرجة خاصة بهم ، فقد وعد اللَّه الفريقين المنزلة الحسنى والعاقبة الطيبة .
قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد العزيز بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن سعد الزهري ، حدثني صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه انه قال : رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد ، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ) قال : فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان رجلاً أعمى ، فأنزل الله تعالى عليه ، وفخذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله .
قوله تعالى : { غير أولي الضرر } . فهذه الآية في الجهاد والحث عليه ، فقال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن الجهاد { غير أولي الضرر } ، قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء ، أي : إلا أولي الضرر ، وقرا الآخرون برفع الراء ، على نعت القاعدين ، يريد : لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر ، أي : غير أولي الزمانة ، والضعف في البدن ، والبصر .
قوله تعالى : { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ، أي ليس المؤمنون القاعدون عن الجهاد من غير عذر ، والمؤمنون والمجاهدون سواء غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، لأن العذر أقعدهم .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحيم بن منيب ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ، فدنا من المدينة قال : إن في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد ، إلا كانوا معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال : نعم . وهم بالمدينة حبسهم العذر .
وروى القاسم عن ابن عباس قال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن بدر ، والخارجون إلى بدر .
قوله تعالى : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } . أي : فضيلة . وقيل : أراد بالقاعدين هاهنا أولي الضرر ، فضل الله المجاهدين عليهم درجةً لأن المجاهد باشر الجهاد مع النية ، وأولو الضرر كانت لهم نية ، ولكنهم لم يباشروا ، فنزلوا عنهم بدرجة .
قوله تعالى : { وكلاً وعد الله الحسنى } يعني الجنة ، بإيمانهم . وقال مقاتل : يعني المجاهد والقاعد المعذور .
قوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } ، يعني : على القاعدين من غير عذر .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بأن يعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ونهاهم عند جهادهم عن التعجل فى القتل . أتبع ذلك ببيان فضل المجاهدين المخلصين فقال - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي . . . . غَفُوراً رَّحِيماً } .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 95 ) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 96 )
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون } . شروع فى الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه ، وليرغبوا عما يوجب خللا فيه . والمراد بالقاعدين : الذين أذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم . وروى البخارى عن ابن عباس : هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل . وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك . وروى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف . وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فى تلك الغزوة .
وقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } جملة معترضة جئ بها لبيان أنهم غير مقصودين بعدم المساواة مع المجاهدين فى الأجر .
والضرر : مصد ضرِر مثل مرض . وهذه الزنة تجئ - غالبا - فى العاهات ونحوها ، مثل عمى وحصر وعرج ورِمد .
والمراد بقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } أى : غير أصحاب العلل والأمراض التى تحول بينهم وبين الجهاد فى سبيل الله من عمى أو عرج أو ضعف أو غير ذلك من الأعذار .
وقد روى المفسريون فى سبب نزول قوله - تعالى - { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } روايات منها ما أخرجه البخارى عن البراء قال : لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } . دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها جاء ابن أم مكتوب فشكا ضرارته . فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } .
وقال القرطبى : روى الأئمة - واللفظ لأبى داود عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سرى عنه فقال : " أكتب " فكتبت فى كتف - أى فى عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله } . . . . الآية .
فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة فوقعت فخذه على خفذى . ووجدت من ثقلها فى المرة الثاينة كما وجدت فى المرة الأولى ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا زيد . فقرأت : { لا يستوى الأقاعدون من المؤمنين } . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } الاية كلها .
قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها . والذى نفسى بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع فى كتف .
والمعنى : لا يستوى عند الله - تعالى - الذين قعدوا عن الجهاد لإِعلاء كلمة الحق دون أن يكون عندهم من الأعذار ما يمنعهم من ذلك ، لا يستوى هؤلاء مع الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . أما الذين قعدوا عن الجهاد لأعذار تمنعهم عن مباشرته ، فإن نيتهم الصادقة سترفع منزلتهم عند الله - تعالى - ، وستجعلهم فى مصاف المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أو قريبين منهم .
ويشهد لذلك ما رواه البخارى وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو يسر إلى تبوك : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ، وهم بالمدينة قال : نعم حبسهم العذر " .
قال ابن كثير : وفى هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد . . . سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر . . . ومن أقام على عذر كمن راحا
وقوله : { لاَّ يَسْتَوِي } نفى لاستواء المجاهدين والقاعدين ، والمقصود بهذا النفى التعريض بالمفضول لتفريطه وزهده فى الخير ، وحض على الاقتداء بمن هو أفضل منه ، إذ من المعروف أن القاعد عن الجهاد لا يساوى المجاهد فى الفضل والثواب . فتعين أن يكون المراد بهذا التعبير التعريض بالقاعدين ليتأسوا بالمجاهدين ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله :
فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء ؟ قلت : معناه الإِذكار بما بينهما من التفاوت العظيم ، والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته . فيهتز للجهاد ويرغب فيه ، وفى ارتفاع طبقته ، ونحوه : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أريد به التحريك من الجهل إلى التعلم . ولينهض الشخص بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم .
وقوله { مِنَ المؤمنين } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القاعدين .
وفائدة قوله : { مِنَ المؤمنين } الإِيذان من أول الأمر بأن قعودهم عن الجهاد لم يمنعهم عن الوصف بالإِيمان ، لأن قعودهم عن الجهاد لم يكن عن نفاق أو عن ضعف فى دينهم ، وإنما كان عن تراخ أو اشتغال ببعض الأمور الدنيوية .
قال الجمل وقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم { غَيْرُ } بالرفع : وقرأ الباقون بالنصب . وقرأ الأعمش بالجر .
أظهرما أنه على البدل من { القاعدون } . وإنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفى والبدل معه أرجح .
والثاني : أنه رفع على أنه صفة لقوله { القاعدون } لأنهم لما لم يكونوا أناساً بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها .
وأما النصب فعلى : الاستثناء من { القاعدون } وهو الأظهر ، لأنه المحدث عنه . وأما الجر فعلى أنه صفة للمؤمنين .
وقوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } بيان لمزية المجاهدين على غيرهم .
والمراد بالقاعدين هنا - الذين قعدوا عن الجهاد لسبب مانع من مباشرته أى : فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم من أجل إعزاز دينه ، فضلهم درجة على القاعدين بأعذار ، لأن المجاهدين قد عرضوا أنفسهم للمخاطر والأهوال ، وبذلوا أرواحهم وأمولهم فى سبيل إعلاء كلمة الله .
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوى أى أن المراد بها هو الفضل ، ووفرة الأجر وزيادة الثواب . والتنوين فيها للتعظيم .
قال ابن جرير : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولى الضرر درجة واحدة ، يعنى فضيلة واحدة . وذلك بفضل جهادهم بأنفسهم فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان .
وقوله { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } جملة معترضة جئ بها تاركا لما عسى أن يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول .
أى : وكل واحد من فريقى المجاهدين والقاعدين من أهل الضرر وعده الله المثوبة الحسنى وهى الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، وإنما التفاوت فى زيادة العمل المتقضى لمزيد الثواب .
وقوله { كُلاًّ } مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإِفادة القصر تأكيدا للوعد وتنوينه عوض عن المضاف إليه . وقوله { الحسنى } مفعول ثان .
ثم بين - سبحانه - أنه قد فضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات عظيمة فقال { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } .
أى : وفضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين دون أن يكون هناك عذر يمنعهم عن الجهاد ، فضل الله المجاهدين على هؤلاء القاعدين بالأجر العظيم والثواب الجزيل ، والمنزلة الرفيعة .
وقوله { أَجْراً عَظِيماً } منصوب على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع ، لأن الأجر هو ذلك التفضيل . أو على نزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم . أو على أنه مفعول ثان بتضمين فضل معنى أعطى أى أعطاهم أجرا تفضلا منه .
( لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) . .
ولا يتركها هكذا مبهمة ، بل يوضحها ويقررها ، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين :
( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) . .
وهذه الدرجة يمثلها رسول الله [ ص ] في مقامهم في الجنة .
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ ص ] قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . .
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبى عبيدة ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " من رمى بسهم فله أجره درجة " . . فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال :
" أما إنها ليست بعتبة أمك . ما بين الدرجتين مائة عام " .
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله [ ص ] ، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها ؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون . حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول الله [ ص ] يصدقونه بما يقول . ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب !
ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين - غير اولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى :
فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال ؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان ؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس . . وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين . إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة ؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب ؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير ؛ والخير مرجو فيها ، والأمل قائم في أن تستجيب .
فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى ؛ مؤكدا لها ، متوسعا في عرضها ؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم :
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيمًا .
وهذا التوكيد . . وهذه الوعود . . وهذا التمجيد للمجاهدين . . والتفضيل على القاعدين . . والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم . ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير . .
الحقيقة الأولى : هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها . وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ، ولطبيعة الجماعات البشرية ، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس ، مع خلوص النفس لله ، وفي سبيل الله . وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة ، ولا إلى نفض اليد منها ، وازدرائها ؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها . . ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح ، باعتبار أن هذا كله جزء من " واقعها " ! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . بكل ألوان الهتاف والحداء . . كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .
والحقيقة الثانية : هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام . لما يعلمه الله - سبحانه - من طبيعة الطريق ؛ وطبيعة البشر ؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين .
إن " الجهاد " ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة . إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة ! وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر اللإمبراطوريات ؛ فاندس في تصوراتأهله - اقتباسا مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن !
هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصلية لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون .
لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله ؛ في مثل هذا الأسلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله [ ص ] وفي مثل هذا الأسلوب . .
لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله [ ص ] تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " .
ولئن كان [ ص ] رد في حالات فردية بعض المجاهدين ، لظروف عائلية لهم خاصة ، كالذي جاء في الصحيح أن رجلا قال للنبي [ ص ] أجاهد . قال : " لك أبوان ؟ " قال : نعم . قال ، " ففيهما جاهد " . . لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة ؛ وفرد واحد لا ينقض المجاهدين الكثيرين . ولعله [ ص ] على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ، ما جعله يوجهه هذا التوجيه . .
فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف . وقد تغيرت هذه الظروف !
وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين !
إن الله - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه . لأنه طريق غير طريقهم ، ومنهج غير منهجهم . ليس بالأمس فقط . ولكن اليوم وغدا . وفي كل أرض ، وفي كل جيل !
وإن الله - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح ، ولا يمكن أن يكون منصفا . ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر . ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل . ولا بد أن يجنح الشر : إلى العدوان ؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !
هذه جبلة ! وليست ملابسة وقتية . . .
هذه فطرة ! وليست حالة طارئة . . .
ومن ثم لا بد من الجهاد . . لابد منه في كل صورة . . ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير . ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود . ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح . ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . . وإلا كان الأمر انتحارا . أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين !
ولا بد من بذل الأموال والأنفس . كما طلب الله من المؤمنين . وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . . فأما أن يقدر لهم الغلب ؛ أو يقدر لهم الاستشهاد ؛ فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته . . أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . . والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل . . والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون . .
هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ، وفي منهجها الواقعي ، وفي خط سيرها المرسوم ، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ، التي لا علاقة لها بتغير الظروف .
وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف . ومن هذه النقط . . الجهاد . . الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث . . الجهاد في سبيل الله وحده . وتحت رايته وحدها . . وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه " شهداء " ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم . .
في قوله : { لا يستوي } إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و { القاعدون } عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غيرُ أولي الضرر » برفع الراء من غير ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ » بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : { غير المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [ الرمل ]
وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ{[4219]}
قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر » فإنهم يساوون المجاهدين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مردود ، لأن { أولي الضرر } لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة ؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك { غير أولي الضرر } قال الفلقان بن عاصم{[4220]} كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب { لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون } إلى آخر الآية . قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه ، قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول : أتوب الى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب { غير أولي الضرر } وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . قاله ابن عباس وغيره . وقوله تعالى { بأموالهم وأنفسهم } هي الغاية في كمال الجهاد . ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر . قال بعض العلماء : هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها{[4221]} .
واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ، وإن متعلقه بها لبين . وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة » ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر »{[4222]} قال ابن جريج . والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات » هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و { الحسنى } الجنة ، وهي التي وُعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره .