5- يا أيها الناس إن كنتم في شك من بَعْثِنا لكم بعْد الموت ففي خلقكم الدليل على قدرتنا على البعث ، فقد خلقنا أصلكم من تراب ، ثم جعلنا منه نطفة حوَّلْناها بعد مدة إلى قطعة دم متجمدة ، ثم جعلناها قطعة من اللحم مُصَوَّرة فيها معالم الإنسان ، أو غير مصورة لِنُبيِّن لكم قدرتنا على الإبداع والتدرج في التكوين ، والتغيير من حال إلى حال ، ونسقِط من الأرحام ما نشاء ، ونقر فيها ما نشاء ، حتى تكمل مدة الحمل ، ثم نُخْرِجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً ، ثم نرعاكم لتبلغوا تمام العقل والقوة ، ومنكم بعد ذلك من يتوفاه الله ، ومنكم من يمد له عمره حتى يصير إلى الهرم والخوف فيتوقف علمه وإدراكه للأشياء ، ومن بَدَأَ خلقكم بهذه الصورة لا تعجزه إعادتكم . وأمر آخر يدلك على قدرة الله على البعث : أنك ترى الأرض قاحلة يابسة ، فإذا أنزلنا عليها الماء دبَّت فيها الحياة وتحركت وزادت وارتفع سطحها بما تخلله من الماء والهواء ، وأظهرت من أصناف النباتات ما يروق منظره ، ويُبهر حسنه ، ويُبْتَهجُ لمرآه .
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب } يعني : في شك { من البعث فإنا خلقناكم } يعني : أباكم آدم الذي هو أصل النسل { من تراب ثم من نطفة } يعني : ذريته ، والنطفة هي المني ، وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهي : الدم الغليظ المتجمد ، الطري وجمعها علق ، وذلك أن النطفة تصير دماً غليظاً ثم تصير لحماً { ثم من مضغة } وهي لحمة قليلة قدر ما يمضع { مخلقة وغير مخلقة } قال ابن عباس وقتادة : { مخلقة } أي : تامة وغير مخلقة غير تامة . أي : ناقصة الخلق . وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط . روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته . { لنبين لكم } كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة . وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة . { ونقر في الأرحام ما نشاء } فلا تمجه ولا تسقطه { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة . { ثم نخرجكم } من بطون أمهاتكم { طفلاً } أي : صغراً ، ولم يقل : أطفالاً ، لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد . وقيل : تشبيهاً بالمصدر مثل عدل وزور . { ثم لتبلغوا أشدكم } يعني : الكمال والقوة . { ومنكم من يتوفى } من قبل بلوغ الكبر ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أو الهرم والخرف { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي : يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئاً . ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } أي : يابسة لا نبات فيها ، { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر ، { اهتزت } تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ، { وربت } أي : ارتفعت وزادت ، وربأت بالهمزة ، وكذلك في حم السجدة . أي ارتفعت وعلت . قال المبرد : أراد اهتز وربا نباتها ، فحذف المضاف ، والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال : اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض . وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي : صنف حسن يبهج به من رآه ، أي : يسر ، فهذا دليل آخر على البعث .
ثم ساق - سبحانه - أهم القضايا التى جادل فيها المشركون بغير علم ، واتبعوا فى جدالهم خطوات الشيطان ، وهى قضية البعث ، وأقام الأدلة على صحتها ، وعلى أن البعث حق وواقع فقال - تعالى - : { ياأيها الناس . . . } .
قال أبو حيان فى البحر : لما ذكر - سبحانه - من يجادل فى قدرة الله بغير علم ، وكان جدالهم فى الحشر والمعاد ، ذكر دليلين واضحين على ذلك . أحدهما : فى نفس الإنسان وابتداء خلقه . وتطوره فى أطوار سبعة ، وهى : التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلا ، وبلوغ الأشد ، والتوفى أو الرد إلى أرذل العمر .
والدليل الثانى : فى الأرض التى يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا ، فإذا ورد الشرع بوقوعه ، وجب التصديق به ، وأنه واقع لا محالة .
والمراد بالناس هنا : المشركون وكل من كان على شاكلتهم فى إنكار أمر البعث واستبعاده ، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق ، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب .
والمعنى : يأيها الناس إن كنتم فى شك من أمر إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة ، فانظروا وتفكروا فى مبدأ خلقكم ، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك ، لأن الذى أوجدكم الإيجاد الأول . وخلقكم من التراب ، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى ، إذ الإعادة - كما يعرف كل عاقل - أيسر من ابتداء الفعل .
وقد قرب - سبحانه - هذا المعنى فى أذهانكم فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } وأتى - سبحانه - بأن المفيدة للشك فقال : { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث } مع أن كونهم فى ريب أمر محقق تنزيلاً للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيهاً لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل ، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور فى غير مواضعها .
ووجه الإتيان بفى الدالة على الظرفية ، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف .
قال الآلوسى : " وقوله { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } دليل جواب الشرط ، أو هو الجواب بتأويل ، أى : إن كنتم فى ريب من البعث ، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، فإنا خلقناكم من تراب ، وخلقهم من تراب فى ضمن خلق أبيهم آدم منه . . " .
وقال بعض العلماء ما ملخص : والتحقيق فى معنى قوله - تعالى { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } : أنه - سبحانه - خلق أباهم آدم منه ، ثم خلق من آدم زوجه حواء ، ثم خلق الناس منهما عن طريق التناسل .
فلما كان أصلهم الأول من تراب ، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب ؛ لأن الفروع تتبع الأصل . وعلى ذلك يكون خلقهم من تراب هو الطور الأول . . " .
ثم بين - سبحانه - الطور الثانى من أطوار خلق الإنسان فقال : { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وهذا اللفظ مأخوذ من النطف - بفتح النون مع التشديد وإسكان الطاء - بمعنى السيلان والتقاطر .
يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر الماء منها بقلة .
والنطفة تطلق فى اللغة : على الماء القليل ، والمراد بها هنا : الماء المختلط من الرجل والمرأة عند الجماع ، والمعبر عنه بالمنى .
وقوله { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } هو الطور الثالث . والعلقة جمعها علق ، وهى قطعة من الدم جامدة ، تتحول إليها النطفة .
وقوله : { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } هو الطور الرابع ، والمضغة قطعة صغيرة من اللحم تحول إليها العلقة .
وقوله - سبحانه - { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } صفة للمضغة .
والمراد بالمخلقة : التامة الخلقة ، السالمة من العيوب ، والمراد بغير المخلقة : ما ليست كذلك كأن تكون ناقصة الخلقة .
وقد اكتفى بهذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " والمخلقة " المستواة الملساء من النقصان والعيب : يقال : خلق السواك والعود ، إذا سواه وملسه ، من قولهم : صخرة خلقاء ، إذا كانت ملساء . كأن الله - تعالى - يخلق المضغ متفاوتة . منها . ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت ، تفاوت الناس فى خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم . . " .
وقيل : " مخلقة " أى : مستبينة الخلق ، ظاهرة التصوير . " وغير مخلقة " أى : لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها كالسقط الذى هو مضغة ولم تظهر صورته الإنسانية بعد .
وقيل : " مخلقة " أى : نفخ فيها الروح . " وغير مخلقة " أى : لم ينفخ فيها الروح .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب الكشاف واكتفى به أولى بالقبول ، لأنه هو المشهور من كلام العرب . فهم يقولون : حجر أخلق أى : أملس مصمت لا يؤثر فيه شىء ، وصخرة خلقاء ، أى : ليس بها تشويه أو كسر .
وقوله - تعالى - : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } متعلق بقوله : { خَلَقْنَاكُمْ } أى : خلقناكم على هذا النحو العجيب ، وفى تلك الأطوار البديعة . لنبين لكم كمال قدرتنا ، وبليغ حكمتنا . وأننا لا يعجزنا إعادة كل حى إلى الحياة بعد موته .
وحذف مفعول " نبين " للإشعار بأن أفعاله - تعالى - الدالة على كمال قدرته ، لا يحيط بها وصف ، ولا تمدها عبارة . . .
أى : لنبين لكم عن طريق المشاهدة ، ما يدل على كمال قدرتنا دلالة يعجز الوصف عن الإحاطة بها .
وقوله - تعالى - : { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الناس بعد تمام خلقهم ، وتوارد تلك الأطوار عليهم .
أى : ونقر ونثبت فى أرحام الأمهات ما نشاء إقراره وثبوته فيها من الأجنة والأحمال ، إلى أجل معلوم عندنا . وهو الوقت المحدد للولادة والوضع ، وما لم نشأ إقراره من الحمل لفظته الأرحام وأسقطته ، إذ كل شىء بمشيئتنا وإرادتنا .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } بيان للطور الخامس من أطوار خلق الإنسان .
أى : ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذى حددناه ، طفلاً صغيراً . أى : أطفالاً صغاراً ، وإنما جاء مفرداً باعتبار إرادة الجنس الشامل للواحد والمتعدد ، او باعتبار كل واحد منهم ، وهو حال من ضمير المخاطبين .
ومن الأساليب العربية المعهودة ، أن الاسم المفرد إذا كان اسم جنس . يكثر إطلاقه على الجمع ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أى : أئمة . وقوله - سبحانه - { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً . . } أى : أنفسا ، ومن هذا القبيل قول الشاعر :
وكان بنو فزارة شَرَّ عمِّ . . . فكنت لهم كشر بنى الأخينا
وقوله تعالى - { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } بيان للطور السادس ، والأشد : قوة الإنسان وشدته واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى الارتفاع والقوة ، يقال : شد النهار إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، أو جمع لا واحد له ، أو جمع شدة - كأنعم ونعمة - .
قال الآلوسى : " والجملة علة لنخرجكم ، وهى معطوفة على علة أخرى مناسبة لها .
كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا أشدكم ، أى كمالكم فى القوة والعقل والتمييز . . . وقيل : علة لمحذوف . والتقدير : ثم نمهلكم لتبلغوا أشدكم . . .
وتقديم التبيين " لنبين لكم " على ما بعده ، مع أن حصوله بالفعل بعد الكل ، للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات .
وإعادة اللام فى " لتبلغوا " مع تجريد " نقر ، ونخرج " عنها ، للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة " .
وقوله - سبحانه - : { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } بيان للطور السابع والأخير .
أى : منكم - أيها الناس - من يبلغ أشده فى هذه الحياة ، ومنكم من يموت قبل ذلك ، ومنكم من يعيش إلى أرذل العمر أى : أخسه وأدونه ، فيصير من بعد علمه بالأشياء وفهمه لها ، لا علم له ولا فهم ، شأنه فى ذلك شأن الأطفال .
قال - تعالى - : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } فالآية الكريمة تصور أطوار خلق الإنسان ومراحل حياته أكمل تصوير ، للتنبيه على مظاهر قدرة الله - تعالى - وعلى أن البعث حق وصدق .
وبعد إقامة هذا الدليل من نفس الإنسان وتطور خلقه على صحة البعث ، ساق - سبحانه - الدليل الثانى عن طريق مشاهدة الأرض وتنقلها من حال إلى حال ، فقال - تعالى - { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
وقوله : { هَامِدَةً } أى : يابسة ، يقال : همدت الأرض تهمد - بضم الميم - هموداً ، إذا يبست .
ومعنى : " اهتزت " : تحركت ، يقال : هز فلان الشىء فاهتز ، إذا حركه فتحرك .
ومعنى : " ربت " زادت بسبب تداخل الماء والنبات فيها ، يقال : ربا الشىء يربو ربوا ، إذا زاد ونما ، ومنه الربا والربوة .
أى : وترى - أيها العاقل - ببصرك الأرض يابسة لا نبات فيها ، فإذا ما أنزلنا عليها بقدرتنا الماء ، تحركت بسبب خروج النبات منها ، وانتفخت بسبب ما يتخللها من الماء والنبات ، وأنبتت بعد ذلك من كل صنف بهيج نضر حسن المنظر .
وشبيه بهذه الآية فى أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم ، بقدرة الله - تعالى - وإرادته ، قوله - عز وجل - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أم إن الناس في ريب من البعث ? وفي شك من زلزلة الساعة ? إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة ، ولينظروا في أنفسهم ، وفي الأرض من حولهم ، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين :
( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا ؛ ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . . )
إن البعث إعادة لحياة كانت ، فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة . وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب . فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ) .
ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم ، ومنطقهم ، وإدراكهم ، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة ؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة ، والقلب المفتوح ، والحس المدرك . ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه .
فما هؤلاء الناس ? ما هم ? من أين جاءوا ? وكيف كانوا ? وفي أي الأطوار مروا ?
( فإنا خلقناكم من تراب ) . . والإنسان ابن هذه الأرض . من ترابها نشأ ، ومن ترابها تكون ، ومن ترابها عاش . وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض . اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه ؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب . ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء . وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب .
ولكن أين التراب وأين الإنسان ? أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب ، الفاعل المستجيب ، المؤثر المتأثر ، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء ؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب . .
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد ، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث ، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب !
( ثم من نطفة . ثم من علقة . ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا . . . ) .
والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية ، مسافة هائلة ، تضمر في طياتها السر الأعظم . سر الحياة . السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر ، بعد ملايين الملايين من السنين ، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين . والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله ، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه ، مهما طمح الإنسان ، وتعلق بأهداب المحال !
ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة ، وتحول العلقة إلى مضغة ، وتحول المضغة إلى إنسان ! فما تلك النطفة ? إنها ماء الرجل . والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية . وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم ، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم .
وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي . . في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم - بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه - في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل : صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر ، وضخامة وضآلة ، وقبح ووسامة ، وآفة وصحة . . كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية : من ميول ونزعات ، وطباع واتجاهات ، وانحرافات واستعدادات . .
فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة ? وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب ، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر ، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان ? !
ومن العلقة إلى المضغة ، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا . ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم ؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام .
( لنبين لكم ) . . فهنا محطة بين المضغة والطفل ، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة : ( لنبين لكم ) . لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة . وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن .
ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين : ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى )فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع . ( ثم نخرجكم طفلا ) . . ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير !
إنها في الزمان - تعادل في العادة - تسعة أشهر . ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل . النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب ، ذو الأعضاء والجوارح ، والسمات والملامح ، والصفات والاستعدادات ، والميول والنزعات . .
إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات . .
ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور ، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام ، في خفية عن الأنظار !
( ثم لتبلغوا أشدكم ) . . فتستوفوا نموكم العضلي ، ونموكم العقلي ، ونموكم النفسي . . وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان ! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد ، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها ، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل ، وهي ماء مهين !
ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . .
فاما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي . وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال . فبعد العلم ، وبعد الرشد ، وبعد الوعي ، وبعد الاكتمال . . إذا هو يرتد طفلا . طفلا في عواطفه وانفعالاته . طفلا في وعيه ومعلوماته . طفلا في تقديره وتدبيره . طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه . طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا ، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا . طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة ، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول ، وجادل في الله وصفاته بالباطل !
ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات ، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان .
( وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) .
والهمود درجة بين الحياة والموت . وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء . فإذا نزل عليها الماء ( اهتزت وربت )وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات ( من كل زوج بهيج ) . وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود ?
وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته . وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة . وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك .
{ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } من إمكانه وكونه مقدورا ، وقرئ { من البعث } بالتحريك كالجلب . { فإنا خلقناكم } أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم . { من تراب } بخلق آدم منه ، أو الأغذية التي يتكون منها المني . { ثم من نطفة } مني من النطف وهو الصب { ثم من علقة } قطعة من الدم جامدة . { ثم من مضغة } قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ . { مخلقة وغير مخلقة } مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة . { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر . و{ نقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره . { إلى أجل مسمى } هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ " ونقره " بالنصب وكذا قوله : { ثم نخرجكم طفلا } عطفا على " نبين " كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعا ونصبا { ونقر } بالياء ونقر من قررت الماء إذا صببته ، و { طفلا } حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر . { ثم لتبلغوا أشدكم } كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور . { ومنكم من يتوفى } عند بلوغ الأشد أو قبله . وقرئ { يتوفى } أو يتوفاه الله تعالى . { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو الهرم والخوف ، وقرئ بسكون الميم . { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره . { وترى الأرض هامدة } ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا . { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت بالنبات . { وربت } وانتفخت ، وقرئ " وربأت " أي ارتفعت . { وأنبتت من كل زوج } من كل صنف { بهيج } حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة .
وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور ، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه ، و «الريب » الشك ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط مضمنه التوفيق ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعَث » بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى : { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، وقوله تعالى : { ثم من نطفة } يريد المنى الذي يكون من البشر ، و «النطفة » تقع على قليل الماء وكثيره ، وقال النقاش المراد { نطفة } آدم ، وقوله تعالى : { ثم من علقة } ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة ، والعلق ، الدم العبيط وقيل العلق ، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك ، وقوله تعالى : { ثم من مضغة } يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ ، وقوله تعالى : { مخلقة } معناه متممة البنية ، { وغير مخلقة } غير متممة أي التي تسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقةً » بالنصب «وغيرَ » بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما : هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد ، وقوله تعالى : { لنبين } قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين ، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرُّ » ، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور ، وقالت فرقة { لنبين } معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا ، وقرأت هذه الفرقة «ونقرَّ » بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجَكم » بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر » وفي «يخرجكم » والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول ، وقرأ ابن وثاب «ما نِشاء » بكسر النون ، و «الأجل المسمى » هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً ، وقوله تعالى : { طفلاً } اسم الجنس أي أطفالاً ، واختلف الناس في «الأشد » من ثمانية عشر إلى ثلاثين ، إلى اثنين وثلاثين ، إلى ستة وثلاثين ، إلى أربعين ، إلى خمسة وأربعين ، واللفظ تقال باشتراك ، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام{[8305]} ، و «الأشد » في هذه الآية يحتمل المعنيين ، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه{[8306]} واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات ، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون { أرذل العمر } في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أرذل العمر } خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر ، وقرأ الجمهور «العمر » مشبعة وقرأ نافع «العمر » مخففة الميم واختلف عنه ، وقوله تعالى : { لكيلا يعلم } أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى .
{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد ، و { هامدة } معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي ، قال الأعشى : [ الكامل ]
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً . . . وأرى ثيابك باليات همدا{[8307]}
واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء ، { وربت } معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع ، وقرأ جعفر بن القعقاع{[8308]} «وربأت » بالهمز ، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر{[8309]} وخالد بن إلياس{[8310]} وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو{[8311]} ، و «الزوج » النوع ، و «البهيج » فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره .
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة ، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم ، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه . وهو الخلق الأول . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب ، ثم كونه من ماء . ثم خلقه أطواراً عجيبة ، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه ، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه .
ودخول المشركين بادىء ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث ، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم .
وجُعل ريْبهم في البعث مفروضاً ب ( إن ) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبُه كما في قوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنّ كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] .
والظرفية المفادة ب ( في ) مجازية . شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف .
وجملة { فإنا خلقناكم من تراب } واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جواباً لهذا الشرط بل هي دليل الجواب ، والتقدير : فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرُّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت ، أو التقدير : فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب .
والذي خُلق من تراب هو أصل النوع ، وهو آدم عليه السلام وحواء ، ثم كونت في آدم وزوجه قوة التناسل ، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب ( ثم ) .
والنطفة : اسم لمنّي الرجل ، وهو بوزن فُعلة بمعنى مفعول ، أي منطوف ، والنَطْف : القطر والصب . والعلقة : القطعة من الدم الجامد اللين .
والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يُمضغ مثله ، وهي فعلة بمعنى مَفعولة بتأويل : مقدار ممضوغة . و ( ثم ) التي عطف بها { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة } عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي .
و ( مِن ) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد .
وكون الإنسان مخلوقاً من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مُدة الحيض جزءاً هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين ، وهذا الجُزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي ( المَبِيض ) بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بَيضات دقيقة هي حُبيبات دقيقة جداً وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت ، مودعة في كرة دقيقة كالغِلاف لها يقال لها ( الحُويصلة ) بضم الحاء بصيغة تصغير حَوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحُويصلة ، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يَحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى ( بوق فلوبيوس ) لشبهه بالبُوق ، وأضيف إلى ( فلوبيوس ) اسم مكتشفه وهو البزرخ بين المَبِيض والرحم ، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشِبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي .
وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل ، وبعد أربعين يوماً تصير البيضة عَلَقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 مليمتر ، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لَحم هي المسماة ( مُضغة ) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جداً كالخطوط ، ثم يزداد التشكل يوماً فيوماً إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفعَ للخروج وهو الولادة .
فقوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } صفة { مضغة } . وذلك تطور من تطورات المضغة . أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة ، أي غير ظاهر فيها شَكل الخِلقة ، ثم تكون مخلّقة ، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف ، ولذلك لم يُذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة ، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة . وإذْ قد جعلت المضغة من مبادىء الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لازِمان للمضغة ، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت .
والتخليق : صيغة تدل على تكرير الفعل ، أي خلقاً بعد خلق ، أي شكلاً بعد شكل .
وقُدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال ، وذُكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم . فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام .
ولذلك عقب بقوله تعالى { لنبين لكم } ، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلاً واضحاً على إمكان الإحياء بعد الموت .
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدرُ من فعل ونحوه تدل عليه جملة { فإنا خلقناكم من تراب } الخ ، وهو فعل : فاعلموا ، أو فنُعلمكم ، أو فانظروا .
وحذف مفعول { لِنُبيّن } لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة ، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا .
وجملة { ونقرّ } عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } . وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم ، مع تفاوت القرار . فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى : { إلى أجل مسمى } . والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد .
والأجل : الأمد المجعول لإتمام عمل ما ، والمراد هنا مدة الحمل .
والمسمّى : اسم مفعول من سَماه ، إذا جعل له اسماً ، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيهاً لضبط الأمور غيرِ المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب ، بتسمية الشخص بوجه شبه يُميزه عما شابهه . ومنه قول الفقهاء : المهر المسمّى ، أي المعيّن من نقد معدود أو عَرض موصوف ، وقول الموثقين : وسمّى لها من الصداق كذا وكذا .
ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبلَ وضعه . والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام ، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض ، وكلٌّ معين في علم الله تعالى . وتقدم في قوله تعالى : { إلى أجل مسمى فاكتبوه } في [ سورة البقرة : 282 ] .
وعطف جملة { ثم نخرجكم طفلاً } بحرف ( ثم ) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود . وقوله { طفلاً } حال من ضمير { نخرجكم ، } أي حال كونكم أطفالاً . وإنما أفرد { طفلاً } لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع .
وجملة { ثم لتبلغوا أشدكم } مرتبطة بجملة { ثم نخرجكم طفلاً } ارتباط العلّة بالمعلول ، واللام للتعليل . والمعلّل فعل { نخرجكم طفلاً } .
وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة عُلم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل . وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله { ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم لتبلغوا أشدكم } تأكيد لمثله في قوله { ثم نخرجكم طفلاً } . هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي .
وإنما جُعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } فجعل « الأشد » كأنه الغاية المقصودة من تطويره .
والأشُدّ : سن الفتوة واستجماع القوى . وقد تقدم في [ سورة يوسف : 22 ] { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً } ووقع في [ سورة المؤمن : 67 ] { ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً } فعطف طور الشيخوخة على طور الأشُد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير ، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة ، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال ، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد ، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفراً يُردون إلى أرذل العمر ، وهو طور الشيخوخة بقوله : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وجيء بقوله { ومنكم من يتوفى } على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءاً ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث . والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار . وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن ( 67 ) : { ومنكم من يتوفى من قبل } وقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } هو عديل قوله تعالى : { ومنكم من يتوفى } . وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب .
وجُعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصوداً عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية . قال تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } [ يس : 68 ] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم .
وقوله { من بعد علم } أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر .
و ( مِن ) الداخلة على ( بعد ) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة ( مِن ) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب ( من ) في قوله تعالى : { لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } في [ سورة النحل : 70 ] .
والآيتان بمعنى واحد فذكر ( مِن ) هنا تفنّن في سياق العبرتين .
و { شيئاً } واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوماً جديداً . ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك .
{ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } ، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام .
وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالةٍ مشاهدَة فلذلك افتتح بفعل الرؤية ، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غيرُ مشاهَد فقيل في شأنه { فإنا خلقناكم من تراب } الآية . ومحل الاستدلال من قوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } ، فهو مناسبُ قولِه في الاستدلال الأول { فإنا خلقناكم من تراب } ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازُها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت .
والهمود : قريب من الخمود ، فهمود الأرض جَفافها وزوال نبتها ، وهمود النار خمودها .
والاهتزاز : التحرك إلى أعلى ، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى .
وربت : حصل لها رُبوّ بضمّ الراء وضم الموحدة وهو ازدياد الشيء يقال : رَبَا يربو رُبوا ، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر . وقرأ أبو جعفر { وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة ، أي ارتفعت . ومنه قولهم : رَبَأ بنفسه عن كذا ، أي ارتفع مجازاً ، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو رُبوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم .
والزوج : الصنف من الأشياء . أطلق عليه اسم الزوج تشبيهاً له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى ، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجاً فيسمى كلّ واحد منهما زوجاً بهذا المعنى ، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين ، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكراً ولا أنثى ، فأطلق هنا على أنواع النبات .
والبهيج : الحسن المنظر السَارّ للناظر ، وقد سِيق هذا الوصف إدماجاً للامتنان في أثناء الاستدلال امتناناً بجمال صورة الأرض المنبتة ، لأن كونه بهيجاً لا دخل له في الاستدلال ، فهو امتنان محض كقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] وقوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر صنعه ليعتبروا في البعث فقال سبحانه: {يا أيها الناس} يعني: كفار مكة {إن كنتم في ريب من البعث} يعني: في شك من البعث بعد الموت، فانظروا إلى بدء خلقكم {فإنا خلقناكم من تراب} ولم تكونوا شيئا {ثم من نطفة ثم من علقة} مثل الدم {ثم من مضغة مخلقة} يعني: من النطقة مخلقة {وغير مخلقة}... {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء} فلا يكون سقطا {إلى أجل مسمى} يقول: خروجه من بطن أمه ليعتبروا في البعث، ولا يشكوا فيه أن الذي بدأ خلقكم، لقادر على أن يعيدكم بعد الموت. ثم قال سبحانه: {ثم نخرجكم} من بطون أمهاتكم {طفلا ثم لتبلغوا أشدكم} ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة {ومنكم من يتوفى} من قبل أن يبلغ أشده {ومنكم من يرد} بعد الشباب {إلى أرذل العمر} يعني: الهرم {لكيلا يعلم من بعد علم} كان يعلمه {شيئا} فذكر بدء الخلق، ثم ذكر الأرض الميتة كيف يحيها ليعتبروا في البعث، فإن البعث ليس بأشد من بدء الخلق، ومن الأرض حين يحييها من بعد موتها، فذلك قوله سبحانه: {وترى الأرض هامدة}، يعني: ميتة ليس [فيها] نبت... {فإذا أنزلنا عليها الماء} يعني: المطر {اهتزت} الأرض، يعني: تحركت بالنبات... ثم قال للأرض: {وربت} يعني: وأضعفت النبات {وأنبتت من كل زوج بهيج}، يعني: من كل صنف من النبات حسن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم، اتباعا منه للشيطان المريد وتنبيه له على موضع خطأ قيله وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال: يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكُم استعظاما منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب، ثم إنشائناكم من نطفة آدم، ثم تصريفناكم أحوالاً حالاً بعد حال، من نطفة إلى علقة، ثم من علقة إلى مُضغة، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذّر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"مخلّقةٍ وغَيْرِ مُخَلّقَةٍ"؛
فقال بعضهم: هي من صفة النطفة. قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة قالوا: فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيّا وأما غير مخلقة فما دفعته الأرحام من النّطَف وألقته قبل أن يكون خلقا... وقال آخرون: معنى قلك: تامة وغير تامة... وقال آخرون: معنى ذلك المضغة مصورة إنسانا وغير مصوّرة، فإذا صوّرت فهي مخَلقة وإذا لم تصوّر فهي غير مخَلقة...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقا تامّا، وغير مخلقة: السّقط قبل تمام خلقه لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويّا إلا التصوير وذلك هو المراد بقوله: مُخَلّقَةٍ وغَيرِ مُخَلّقَةٍ خلقا سويّا، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح.
وقوله: "لِنُبَيّنَ لَكُمْ "يقول تعالى ذكره: جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التامّ، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرّفكم ابتداءنا خلقكم.
وقوله: "وَنُقِرّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمّى" يقول تعالى ذكره: من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية، فإنا نقرّه في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها فلا تسقطه ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها، فيخرج...
وقوله: "ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً" يقول تعالى ذكره: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلاً صغارا ووحّد «الطفل»، وهو صفة للجميع، لأنه مصدر مثل عدل وزور.
وقوله: "ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ" يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم...
يقول تعالى ذكره: ومنكم أيها الناس من يُتَوفى قبل أن يبلغ أشدّه فيموت، ومنكم من يُنْسَأ في أجله فيعمر حتى يهرم فيردّ من بعد انتهاء شبابه وبلوغه غاية أشدّه إلى أرذل عمره، وذلك الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. ومعنى الكلام: ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشدّه لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ كان يعلمه شَيْئا.
وقوله: "وَتَرَى الأرْضَ هامِدَةً" يقول تعالى ذكره: وترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع. وأصل الهمود: الدروس والدثور... عن ابن جُرَيج، في قوله: وَتَرَى الأرْضَ هامدَةً قال: لا نبات فيها...
وقوله: "فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاء اهْتَزّتْ" يقول تعالى ذكره: فإذا نحن أنزلنا على هذه الأرض الهامدة التي لا نبات فيها المطرَ من السماء "اهْتَزّتْ" يقول: تحركت بالنبات، "وَرَبَتْ" يقول: وأضعفت النبات بمجيء الغيث...
وقوله: "وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" يقول جلّ ثناؤه: وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث مِنْ كُلّ نوع بهيج. يعني بالبهيج: البهج، وهو الحسن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تأويله، والله أعلم، أن كيف تشكون في البعث، وتنكرونه، وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا تراباً أو ماءً في العاقبة وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابا وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابا؟ أو أن يكون معناه: أن كيف أنكرتم البعث، وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد.
فلو لم يكن بعث كما تزعمون لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثا على ما أخبر أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث قوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثا، فعلى ذلك الأول.
أو يكون تأويله، والله أعلم، {فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة} إلى آخر الآية؛ ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة ما قدروا عليه، وما وجدوا للبشر فيه أثرا ولا معنى للبشرية فيه، فمن قدر على ابتداء إنشاء هذا العالم من التراب أو من النطفة من غير سبب، يوجد فيه، ولا أثر فهو قادر على إعادتهم، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من الابتداء. فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.
وقوله تعالى: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} قال بعضهم: {مخلقة} أي تامة {وغير مخلقة} أي غير تامة خلقا، وهو الأشبه لأن التشديد إنما يذكر لتكثير خلق الفعل، والتخفيف لتقليله. فكأنه قال: {مخلقة} أي قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء {وغير مخلقة} أي غير تامة خلقا بل ناقصة...
وقوله تعالى: {ثم لتبلغوا أشدكم}... وأصل الأشد هو اشتداد كل شيء، وتقوي كل شيء عنه من الجوارح والأعضاء، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره. ثم عند ذلك يبين لهم. ويكون قوله: {لنبين لكم} بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي تعرفون تقليبه إياكم من حال إلى حال على ما ذكر.
ثم يحتمل قوله: {لنبين لكم} وجوها:
أحدها: يبين قدرته وسلطانه أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية ومن حال النطفة إلى حال العلقة ثم إلى آخر ما ذكر يقدر على البعث والإحياء بعدما صاروا ترابا.
والثاني: يبين علمه في الظلمات الثلاث التي كان الولد فيها: أن كيف قَلَّبَهُ من حال إلى حال في تلك الظلمات ليعلموا أنه لا يخفى عليه شيء.
والثالث: يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه، وصار به بشرا، ما قدروا عليه، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته لا بتعليم غيره ولا بأقدار غيره.
فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء، ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء.
وقوله تعالى: {ومنكم من يتوفى} أي يتوفى قبل أن يبلغ أشده. دليله: قوله: {ومنكم من يتوفى} أي من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ، وهو الأشد {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} أي إلى وقت يستقذر منه، ويستخبث.
ليس كالصغير، لأن الصغير والطفل مما يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات، وهذا لا يرجى منه، ولا يؤمل منه العاقبة. كلما مر عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه. ولا كذلك الصغير، وهو ما قال: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعف وشيبة} [الروم: 54].
قال القتبي: {أرذل العمر} أي الخرف والهرم.
وقوله تعالى: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} أي لكيلا يعلم من بعدما كان يعلمه شيئا.
ثم ذكر قدرته وسلطانه، فقال: {وترى الأرض هامدة} قال بعضهم: ميتة. وقيل: خاشعة، وقيل: يابسة. وقيل: بالية.
وقوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} قال الزجاج: {وربت} من الزيادة والنماء. وكذلك قال أبو عوسجة: يقال: ربا يربو، أي زاد، وهو الربا، وربوات من الارتفاع، ربا يربو ربوة كقوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرارا ومعين} [المؤمنون: 50].
ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض، وهي لا تهتز، ولا تربو. وإنما يربو، ويهتز ما يخرج منها من النبات. لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات، وبها كان النماء، فأضيف إليها، أو إن كان من الارتفاع والربوة فهي ترتفع، وتنتفخ، وتهتز بالمطر.
وقوله تعالى: {وأنبتت من كل زوج بهيج} قيل: البهيج: الحسن. يخبر في هذا عن كل قدرته وسلطانه أن من قدر على إحياء الأرض بعدما كانت يابسة ميتة هو قادر على إحياء الموتى بعد الموت وبعدما صاروا ترابا.
وقوله تعالى: {من كل زوج بهيج} أي من كل جنس حسن بهيج، أي يسر، وهو فعيل بمعنى فاعل. يقال: امرأة ذات خلق باهج.
قال أبو عوسجة: الهَامِدُ البالي، يقال: همد الثوب إذا بلي، والهامد أيضا الخامد، خمدت النار تخمد خمودا.
وقال بعضهم: قوله: {وربت} أي ضاعفت النبات.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والريب أقبح الشك "فإنا خلقناكم من تراب "قال الحسن: المعنى خلقنا آدم من تراب الذي هو أصلكم وأنتم نسله. وقال قوم: أراد به جميع الخلق، لأنه إذا أراد خلقهم من نطفة، والنطفة يجعلها الله من الغذاء، والغذاء ينبت من التراب والماء، فكان أصلهم كلهم التراب،...
وانما قيل: أرذل العمر، لأن الإنسان لا يرجو بعده صحة وقوة، وإنما يترقب الموت والفناء، بخلاف حال الطفولية، والضعف الذي يرجو معها الكمال والتمام والقوة، فلذلك كان أرذل العمر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
التبس عليهم جواز بعثه الخَلْق واستبعدوه غاية الاستبعاد، فلم ينكر الحق عليهم إلا بإعراضهم عن تأمل البرهان، واحتجَّ عليهم في ذلك بما قطع حجتهم، فَمَنْ تَبعَ هُداه رَشدَ، ومَنْ أصَرَّ على غَيِّه تَرَدَّى في مهواة هلاكه. واحتجَّ عليهم في جواز البعث بما أقروا به في الابتداء أن الله خَلَقَهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى؛ فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها... إلى أَنْ نَقَلَهم من حال شبابهم إلى زمان شَيْبهم، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم. واحتجَّ أيضاً عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيي الأرض -في حال الربيع- بعد موتها، فتعود إلى ما كانت عليه في الربيع من الخضرة والحياة. والذي يَقْدِرُ على هذه الأشياء يقدر على خَلْق الحياة في الرِّمة البالية والعظام النخرة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
العلقة: قطعة الدم الجامدة. والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. والمخلقة: المسواة الملساء من النقصان والعيب. يقال: خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء، كأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً ولا تناسب بين الماء والتراب، وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً: قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا أدخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {لكيلا يعلم} أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً. فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.
اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين:
أحدهما: الاستدلال بخلقة الحيوان أولا وهو موافق لما أجمله في قوله: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة}...
ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة:
المرتبة الأولى: قوله: {فإنا خلقناكم من تراب} وفيه وجهان: أحدهما: إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب، لقوله: {كمثل آدم خلقه من تراب} وقوله: {منها خلقناكم}، والثاني: أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعا للتسلسل إلى النبات، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله: {إنا خلقناكم من تراب}
المرتبة الثانية: قوله: {ثم من نطفة} والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان، وهو ههنا ماء الفحل...
المرتبة الثالثة: قوله: {ثم من علقة} العلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.
المرتبة الرابعة: قوله: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء}..
ثم للمفسرين فيه أقوال: أحدها: أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم، كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين: أحدهما: تامة الصور والحواس والتخاطيط. وثانيهما: الناقصة في هذه الأمور، فبين أن بعد أن صيره مضغة منها ما خلقه إنسانا تاما بلا نقص، ومنها ما ليس كذلك... والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية: {فإنا خلقناكم} وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنسانا وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطا ولم يتكامل فيه الخلقة...
المرتبة الخامسة: قوله: {ثم نخرجكم طفلا} وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلا كقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير}.
المرتبة السادسة: قوله: {ثم لتبلغوا أشدكم} والأشد كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد، وكأنها شدة في غير شيء واحد، فبنيت لذلك على لفظ الجمع، والمراد والله أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أمورا لتبلغوا أشدكم، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط،...
المرتبة السابعة: قوله: {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} والمعنى أن منكم من يتوف على قوته وكماله، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم... فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث.
الوجه الثاني: الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: {وترى الأرض هامدة} وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} والاهتزاز الحركة على سرور، فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله: {اهتزت وربت} أي تحركت بالنبات وانتفخت.
أما قوله: {وأنبتت من كل زوج بهيج} فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها، والله تعالى هو المنبت لذلك، لكنه يضاف إليها توسعا، ومعنى {من كل زوج بهيج} من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس، والبهجة حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ومنكم من يرد إلى أرذل العمر "أي أخسه وأدونه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر). أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما حذر الناس من ذلك اليوم، وأخبر أن منهم من يكذب، وعرف بمآله، فأفهم ذلك أن منهم من يصدق به فيكون له ضد حاله، وكان كثير من المصدقين يعملون عمل المكذبين، أقبل عليهم سبحانه إقبالاً ثانياً رحمة لهم، منبهاً على أنه ينبغي أن لا يكون عندهم نوع من الشك في ذلك اليوم لما عليه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، فقال دالاً عليه بالأمرين: {يا أيها الناس} أي كافة، ويجوز أن يراد المنكر فقط، وعبر بالناس الذي هو من أسفل الأوصاف لذلك، وإشارة إلى أن المنكر والعامل عمله -وإن كان مصدقاً- هم أكثر الناس، وعبر بأداة الشك إشارة إلى أن الذي يقتضيه الحال جزمهم به فقال: {إن} وبين أنه ما عبر به إلا للتوبيخ، لا للشك في أمرهم، بجعل الشرط ماضياً، ودل ب "كان "وبالظرف على ما تمكن الريب منهم فقال: {كنتم في ريب} أي شك وتهمة وحاجة إلى البيان {من البعث} وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها سواء، استعظاماً لأن نقدر عليه {فإنا خلقناكم} بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء {من تراب} لم يسبق له اتصاف بالحياة {ثم من نطفة} حالها أبعد شيء عن حال التراب، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال
(من ماء دافق} [الطارق: 6] وأصلها الماء القليل -قاله البغوي. وأصل النطف الصب- قاله البيضاوي. {ثم من علقة} أي قطعة دم حمراء جامدة، ليس فيها أهلية للسيلان {ثم من مضغة} أي قطعة لحم صغيرة جداً تطورت إليها النطفة {مخلقة} بخلقة الآدمي التمام {وغير مخلقة} أي أنشأناكم من تراب يكون هذا شأنه، وهو أنا ننقله في هذه الأطوار إلى أن يصير مضغة، فتارة يخلقها ويكون منها آدمياً، وتارة لا يخلقها بل يخرجها من الرحم فاسدة، أو تحرقها حرارته، أو غير مخلقة تخليقاً تاماً بل ناقصاً مع وجود الروح كشق الذي كان شق آدمي، وسطيح الذي كان علواً بلا سفل ونحوهما {لنبين لكم} كمال قدرتنا، وتمام حكمتنا، وأن ذلك ليس كائناً عن الطبيعة، لأنه لو كان عنها لم يختلف، فدل اختلافه على أنه عن فاعل مختار، قادر قهار، وحذف المفعول إشارة إلى أنه يدخل فيه كل ما يمكن أن يحيط به العقول.
ولما كان التقدير: فنجهض منه ما لا نشاء إتمامه، عطف عليه قوله: {ونقر في الأرحام} أي من ذلك الذي خلقناه {ما نشاء} إتمامه {إلى أجل مسمى} قدرناه لإتمامه ما بين ستة أشهر إلى ما نريد من الزيادة على ذلك، بحسب قوة الأرحام وضعفها، وقوة المخلقات وضعفها وكثرة ما تغتذيه من الدماء وقلته، وزكائه وخبثه، إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا بارئها، جلت قدرته، وتعالت عظمته، وأما ما لم نشأ إتمامه فإن الأرحام تمجه بقدرتنا وتلقيه دون التمام أو تحرقه فيضمحل {ثم نخرجكم} بعد ذلك {طفلاً} أي في حال الطفولة من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر وجميع الحواس، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم، وعظم أجسامكم، وهو يقع على الجميع، وعبر به دونه للتساوي في ضعف الظاهر والباطن.
ولما ذكر أضعف الضعف ذكر أقوى القوة عاطفاً له عليه لما بينهما من المهلة بأداة التراخي فقال: {ثم} أي نمد أجلكم {لتبلغوا} بالانتقال في أسنان الأجسام فيما بين الرضاع، إلى حال اليفاع، إلى زمان الاحتلام، وقوة الشباب والتمام {أشدكم} أي نهاية كل شدة قدرناها لكل واحد منكم {ومنكم من يتوفى} قبل ما بعد ذلك من سن الشيخوخة {ومنكم من يرد} بالشيخوخة، وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه مع استبعاده لولا تكرر المشاهدة عند الناظر لتلك القوة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط {إلى أرذل العمر} وهو سن الهرم فينقص جميع قواه {لكيلا يعلم}.
ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة، أثبت "من" الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً، وأفهم إسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال: {من بعد علم} كان أوتيه {شيئاً} بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض، لتعلموا أن ذلك كله فعل الإله الواحد المختار، وأنه لو كان فعل الطبيعة لازداد بطول البقاء نمواً في جميع ذلك، وقد علم -بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق- قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، والكون على حال الرفات.
ولما تم هذا الدليل على الساعة محكم المقدمات واضح النتائج، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد فعبر عنه بما يليق به، أتبعه دليلاً آخر محسوساً، وعطفه على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله: تجدون أيها الناس ما ذكرناه في أنفسكم، فقال: {وترى} فعبر بالرؤية {الأرض} ولما كان في سياق البعث، عبر بما هو أقرب إلى الموت فقال: {هامدة} أي يابسة مطمئنة ساكنة سكون الميت ليس بها شيء من نبت، ولعله أفرد الضمير توجيهاً إلى كل من يصلح أن يخاطب بذلك {فإذا} أي فننزل عليها ماء من مكان لا يوجد فيه ثم ينزل منه إلا بقدرة عظيمة وقهر باهر، فإذا {أنزلنا} بما لنا من العظمة {عليها الماء اهتزت} أي تحركت بنجوم النبات اهتزاز الحي، وتأهلت لإخراجه؛ قال الرازي: والاهتزاز: شدة الحركة في الجهات المختلفة. {وربت} أي انتفخت، وذلك أول ما يظهر منها للعين وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء {وأنبتت} بتقديرنا {من كل زوج} أي صنف عادلناه بصنف آخر جعلناه تمام نفعه به {بهيج} أي مؤنق من أشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها، ومنافعها ومقاديرها رائقة المناظر، لائقة في العيون والبصائر...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي: شك واشتباه، وعدم علم بوقوعه، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب. أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده. والدليل الثاني، إحياء الأرض بعد موتها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن البعث إعادة لحياة كانت، فهو في تقدير البشر -أيسر من إنشاء الحياة. وإن لم يكن- بالقياس إلى قدرة الله -شيء أيسر ولا شيء أصعب. فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون). ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم، ومنطقهم، وإدراكهم، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم، وهو يقع لهم كل لحظة، ويمر بهم في كل برهة؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة، والقلب المفتوح، والحس المدرك. ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه. (فإنا خلقناكم من تراب).. والإنسان ابن هذه الأرض. من ترابها نشأ، ومن ترابها تكون، ومن ترابها عاش. وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض. اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب. ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء. وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب. والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية، مسافة هائلة، تضمر في طياتها السر الأعظم. سر الحياة. السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر، بعد ملايين الملايين من السنين ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة، وتحول العلقة إلى مضغة، وتحول المضغة إلى إنسان!...
وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{أرذل العمر}، أي العمر المرذول الذي يكون عبئا على صاحبه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حياة الإنسان والطبيعة دليل على البعث تحدثت الآية السابقة عن الجدال بغير علمٍ، ومنشأه فقدان الوعي بالدار الآخرة وعدم التركيز على الجانب الفكري في العقيدة، لذا جاءت هذه الآيات لتؤكد على الدار الآخرة كحقيقةٍ إيمانيةٍ، وعلى الأسلوب العلمي في الاستدلال عليها، ليصبح الجدال من موقع العلم، منفتحاً على المسؤولية يوم القيامة. {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أن البعث ليس أمراً بعيداً عن الوقوع، ففي حياة كل واحدٍ منكم حالة بعث من التراب إلى الحياة، ولكن الفرق أن البعث فيكم يتحرك بطريقةٍ تدريجيةٍ، بينما البعث في الآخرة يأتي بشكل كامل ودون مقدّمات.
{وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي تنطلق من صلب الموت، حيث يتحوّل التراب الميت إلى قوّةٍ خضراء تزهو بالحياة {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من أنواع النبات التي تزهو في نضارتها فتبهج القلوب والأبصار.