قوله تعالى : { يخادعون الله } أي يخالفون الله ، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخدع من الله في قوله ( وهو خادعهم ) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة . وقيل : أصل الخدع : الفساد ، معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر . وقوله : ( وهو خادعهم ) أي : يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة . فإن قيل ما معنى قوله ( يخادعون الله ) والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة قيل : قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً ، وطارقت النعل . وقال الحسن : معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ) أي : أولياء الله ، وقيل : ذكر الله هاهنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى ( فأن لله خمسه وللرسول ) وقيل معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم .
قوله تعالى : { والذين آمنوا } . أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم : آمنا وهم غير مؤمنين .
قوله تعالى : { وما يخدعون } . قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو : وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد ، وقرأ الباقون : وما يخدعون على الأصل .
قوله تعالى : { إلا أنفسهم } . لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى .
قوله تعالى : { وما يشعرون } . أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .
ثم بين - سبحانه - الدوافع التي دفعتهم إلى أن يقولوا { آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فقال : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } .
والخدع في أصل اللغة : الإِخفاء والإِبهام ، يقال خدعه - كمنعه - خدعا ، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم ؛ وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإِقبال عليه ثم خرج من باب آخر . وخداعهم لله - تعالى - معناه إظهارهم الإِيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويفوزوا بسهم من الغنائم ، وسمى فعلهم هذا خداعاً لله - تعالى - لأن صورته صورة الخداع ، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة ، ولا يجوز حملها على الحقيقة ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه صنع المنافقين ؛ بل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ }
أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم في العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر .
وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف ، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة ، إذ أن قول المنافقين " آمنا " وما هم بمؤمنين ، يثير في نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحالة المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب ، فكان الجواب : إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين ، جهلا منهم بصفات خالقهم .
وقال القرآن : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } . ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل الحكمة في ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة لرسوله ، لأنه هو الذي بعثه إليهم ، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وقال - تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم بين - سبحانه - غفلتهم وغباءهم فقال : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } .
الأنفس : جمع نفس بمعنى ذات الشيء وحقيقته . وتطلق على الجوهر اللطيف الذي يكون به الحس والحركة والإدراك .
ويشعرون : مضارع شعر بالشيء - كنصر وكرم - يقال : شعر بالشيء أي : فطن له ، ومنه الشاعر لفطنته ، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقائقها .
والشعور : العلم الحاصل بالحواس ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسه . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون ، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين ، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم ولكنهم لا يشعرون بذلك . لأن ظلام الغي خالط قلوبهم ، فجعلهم عديمي الشعور ، فاقدى الحس .
وأتى بجملة " وما يخدعون إلا أنفسهم " بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر ، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك ، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه . ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم ، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها ، ولم يستعملوها فيما خلقت له ، فكانوا كالفاقدين لها .
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون :
( يخادعون الله والذين آمنوا ) . .
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ، ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟ !
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون ) . .
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !
وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } يقول : وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] .
ومن القراء من قرأ : " وَمَا يُخَادِعُونَ{[1257]} إِلا أَنفُسَهُمْ " ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟
قيل : لا تمتنع{[1258]} العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ، لينجو مما هو له خائف ، مخادعا ، فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر{[1259]} بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء{[1260]} والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر ، مستبطن ، وذلك من فعلِه - وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها ، ويُسقيها كأس{[1261]} سرورها ، وهو موردها حياض عطبها ، ومُجرّعها بها كأس عذابها ، ومُزيرُها{[1262]} من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به ، فذلك خديعته نفسه ، ظنًا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم{[1263]} عليها ربهم بكفرهم ، وشكهم وتكذيبهم ، غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون{[1264]} .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا عليّ بن المبارك ، فيما كتب إليّ ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جُرَيْج ، في قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } قال : يظهرون " لا إله إلا الله " يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك{[1265]} .
وقال سعيد ، عن قتادة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير : خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها .
{ يخادعون الله والذين آمنوا } الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه ، وعما هو بصدده من قولهم : خدع الضب . إذ توارى في جحره ، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة ، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق ، والمخادعة تكون بين اثنين .
وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } . وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر ، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار ، استدراجا وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم ، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين . ويحتمل أن يراد ب{ يخادعون } يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين . ويحتمل أن يراد ب{ يخادعون } يخدعون لأنه بيان ليقول ، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه ، إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة ، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه ، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك ، ويعضده قراءة من قرأ { يخدعون } . وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة ، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء ، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد .
{ وما يخادعون إلا أنفسهم } قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو . والمعنى : أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم . أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك . وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية .
وقرأ الباقون { وما يتخدعون } ، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ { يخدعون } من خدع و{ يخدعون } بمعنى يختدعون و{ يخدعون } و{ يخادعون } على البناء للمفعول ، ونصب أنفسهم بنزع الخافض ، والنفس ذات الشيء وحقيقته ، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به ، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقة ، وللدم لأن قوامها به ، وللماء لفرط حاجتها إليه ، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه . والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم .
{ وما يشعرون } لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم . جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس . والشعور : الإحساس ، ومشاعر الإنسان حواسه ، وأصله الشعر ومنه الشعار .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { يخادعون الله } .
فقال الحسن بن أبي الحسن : «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف الأمر إلى الله تجوزاً( {[211]} ) لتعلق رسوله به ، ومخادعتهم في تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه » .
وقال جماعة من المتأولين : «بل يخادعون الله والمؤمنين ، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا ، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك » .
واختلف القراء في يخادعون الثاني .
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «يخادعون » .
وقرأ عصام وابن عامر وحمزة والكسائي : «وما يخدعون » .
وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة : «يُخدعون » بضم الياء( {[212]} ) .
وقرأ قتادة ومورق العجلي( {[213]} ) : «يُخَدِّعون » بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها . فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك كما قال الشاعر( {[214]} ) : [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .
ألاَ لاَ يجْهلنْ أحدٌ عليْنا . . . فَنَجْهل فوق جهْل الجاهلينا
فجعل انتصاره جهلاً ، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل( {[215]} ) .
وتتجه أيضاً هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول في الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين . وقد قال الشاعر( {[216]} ) : [ الكميت ] [ الطويل ] .
تذكر من أَنَّى ومن أين شربه . . . يؤامرُ نفسيه كذي الهجمة الأبل
وأنشد ابن الأعرابي( {[217]} ) : [ المنسرح ]
لم تدر ما لا ولست قائلها . . . عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامرْ نفسيك ممترياً في . . . ها وفي أختها ولم تكد
وقال الآخر( {[218]} ) :
يؤامر نفسيهِ وفي العيشِ فُسْحَةٌ . . . أيستوتغ الذوبانَ أمْ لا يطورُها
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي : [ الطويل ]
وكنتَ كذات الضنء لم تدر إذْ بَغَتْ . . . تؤامرُ نفسيْها أتسرِقُ أن تزني( {[219]} )
ووجه قراءة عاصم ومن ذكر ، أن ذلكَ الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي عليها ، تقول : «خادعت الرجل » بمعنى أعملت التحيل عليه ، فخدعته بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، والمصدر «خِدع » بكسر الخاء وخديعة ، حكى ذلك أبو زيد . فمعنى الآية وما ينفذون السوء إلا على أنفسهم فيها . ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين : إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل كما قال تعالى : { واختار موسى قومه }( {[220]} ) [ الأعراف : 155 ] أي من قومه ، وإما أن يكون «يخدعون » أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم( {[221]} ) ، ونحوه قول الله تعالى : { ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }( {[222]} ) [ البقرة : 187 ] ولا تقول رفثت إلى المرأة ، ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك ، ومنه قوله تعالى : { هل لك إلى أن تزكى }( {[223]} ) [ النازعات : 18 ] وإنما يقال هل لك في كذا ، ولكن لما كان المعنى أجذ بك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن ، وهو باب سني من فصاحة الكلام ، ومنه قول الفرزدق : [ الرجز ] :
كيف تراني قالباً مجني . . . قد قتل الله زياداً عنّي( {[224]} )
لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف . ومنه قول الآخر( {[225]} ) : [ نحيف العامري ] : [ الوافر ]
إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ . . . لعمر اللَّهِ أعجبني رضاها
لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي( {[226]} ) .
وأما الكسائي فقال في هذا البيت : «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها »( {[227]} ) .
ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع ، إذ هو مصير إلى عذاب الله .
قال الخليل : «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة ، كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل( {[228]} ) إلى الاثنين ، ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة ، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل .
وقوله تعالى : { وما يشعرون } معناه وما يعلمون علم تفطن وتهد ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس ، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان ، وهو مأخوذ من الشعر ، والشاعر المتفطن لغريب المعاني .
وقولهم : «ليت شعري » معناه ليت فطنتي تدرك ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ المنخل الهذلي ] .
عقوا بسهمٍ فلم يشعرْ به أحدٌ . . . ثم استفاؤوا قالوا حبّذا الوضح( {[229]} )
واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له( {[230]} ) ؟ فقالت طائفة : «وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار » .
وقال آخرون : «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم آمنا » .
جملة : { يخادعون } بدل اشتمال من جملة : { يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة . والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع ، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله ، تقول العرب : خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء .
والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضاً لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق :
استمطروا من قريش كل منخدع *** إن الكريمَ إذا خادعته انخدعا
وفي حديث " المؤمن غر كريم " أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله : " والسعيد من وعظ بغيره " مع قوله : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " ، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى « المؤمن غر كريم » فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة :
تلك الفتاة التي علقتها عرضاً *** إِنَّ الحليم وذا الإسلام يختلب
فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها .
ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر ، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع ، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلاً في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة { يخادعون } أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به .
فأما التأويل في { يخادعون } فعلى وجوه :
أحدها : أن مفعول خَادع لا يلزم أن يكون مقصوداً للمخادِع بالكسر إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيلَ أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلاناً وفلاناً تعني الوكيل وموكِّلَه ، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدِّين كان خداعهم راجعاً لشارع ذلك الدين ، وأمَّا تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات أَلسُنهم وكبواتِ أفعالهم وهفواتِهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبدَ الله بن أبي ابن سلول ، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله ، ونظيره قوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } في سورة النساء ( 142 ) ، كما رجع إليه خداعُهم للمؤمنين ، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها ، كل بما يلائمه .
الثاني : ما ذكره صاحب « الكشاف » أن { يخادعون } استعارة تمثيلية تشبيهاً للهيئة الحَاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله ، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإِبْقاء عليهم ، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم ، بهيئة فعل المتخادعَين .
الثالث : أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قَصْدُ المبالغة . قال ابن عطية عن الخليل : يقال خَادع مِنْ واحد لأن في المخادعة مُهْلةً كما يقال عَالجت المريضَ لمكان المهلة ، قال ابن عطية كأنه يرد فَاعَل إلى اثنين ولا بُدَّ من حيثُ إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعَلَ ا هـ . وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لِمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلَيْن على وجه التبَعية ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه : ( يخْدَعون الله ) . وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه ، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله .
وأما التأويل في فَاعِل { يخادعون } المقدَّر وهو المفعول أيضاً فبأن يُجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومُرسله وإما مجازٌ بالحذف للمضافِ ، فلا يكون مرادهم خداعَ الله حقيقة ، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعاً منهم ومخادعاً لهم ، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاءٌ لهم على خداعهم فذلك غير لائق .
وقوله : { يخادعون الله } قرأه نافع وابن كثير وأبو عَمرو وخلَف ( يخادعون ) بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب ( يخْدَعون ) بفتح التحتية وسكون الخاء .
وجملة { وما يخادعون إلا أنفسهم } حال من الضمير في { يُخادعون } الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا ، فيتعين أن الخداع في قوله { وما يخادعون } عينُ الخِداع المتقدم في قوله : { يخادعون الله } فَيَرِد إشكال صحة قصر الخِداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين .
وقد أجاب صاحب « الكشاف » بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضُّر فإنها قد استعملت أولاً في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظُ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانياً وأريد منها لازِم معنى الاستعارة وهو الضُر لأن الذي يعامَل بالمكر والاستخفاف يتصدى للانتقام من معامِلِه فقد يجد قدرة من نفسه أو غِرَّةً من صاحبه فيضره ضراً فصار حصول الضر للمعامِل أمراً عرفياً لازماً لمعامَله ، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازاً أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولاً استعارة ثم نُزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازاً في لازم المعنى المستعار له ، فالمعنى وما يَضُرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم ، ويجىء تأويل معنى جَعل أنفسهم شقاً ثانياً للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وِجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تَسوء عواقبه أنها فعلُ نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيُّل بُني على خَطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النَّفْس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها ، قال عمرو بن معديكرب :
فجاشَت عليَّ أوَّلَ مرة *** فرُدَّتْ على مكروهها فاستقرتِ
وذكر ابن عطية أن أبا عليّ الفارسي أنشد لبعض الأعراب :
لم تَدر ما ( لا ) ولستَ قائلَها *** عُمْرَك ما عِشْتَ آخر الأبد
ولم تُؤامر نفسيْك مُمتريـا *** فيها وفي أختها ولم تكــد
يريد بأختها كلمة ( نعم ) وهي أخت ( لا ) والمراد أنها أخت في اللسان . وقلت ومنه قول عروة بن أذينة :
وإذا وجدتُ لها وَسَاوِسَ سَلْوَة *** شَفَع الفؤاد إلى الضمير فَسَلَّها
فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين .
واعلم أن قوله : { وما يخادعون إلا أنفسهم } أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف . والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل .
وقوله : { وما يشعرون } عطف على جملة { وما يخادعون } والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية ، ومنه سمي الشاعر شاعراً لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة ، ولا يحسن لذلك كل أحد ، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي ، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن ، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن إحساسهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما الذي يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة .
على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } [ البقرة : 12 ] لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفى واختير في قوله { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } [ البقرة : 13 ] نفي العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب « الكشاف » قال : فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .