قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } . قال قتادة والسدي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى كما قال الله تعالى : ( وبلغت القلوب الحناجر ) وقيل نزلت في حرب أحد . وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر ، لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسر قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم ( أم حسبتم ) أي : أحسبتم ، " والميم " صلة ، قاله الفراء ، وقال الزجاج : بل حسبتم ، ومعنى الآية : أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة .
قوله تعالى : { ولما يأتكم } . أي ولم يأتكم " وما " صلة .
قوله تعالى : { مثل الذين خلوا } . شبه الذين مضوا .
قوله تعالى : { من قبلكم } . من النبيين ، والمؤمنين .
قوله تعالى : { مستهم البأساء } . الفقر والشدة والبلاء .
قوله تعالى : { والضراء } . المرض والزمانة .
قوله تعالى : { وزلزلوا } . أي حركوا بأنواع البلايا ، والرزايا وخوفوا .
قوله تعالى : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } . ما زال البلاء بهم حتى استبطؤوا النصر . قوله تعالى : { ألا إن نصر الله قريب } . قرأ نافع ( حتى يقول الرسول ) بالرفع ، معناه " حتى قال الرسول " ، وإذا كان الفعل الذي يلي " حتى " في معنى الماضي ، ولفظه لفظ المستقبل فلك فيه الوجهان ، الرفع والنصب ، فالنصب على ظاهر الكلام ، لأن حتى تنصب الفعل المستقبل ، والرفع لأن معناه الماضي ، وحتى لا تعمل في الماضي .
قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون } . نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخاً كبيراً ذا مال فقال : يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ فأنزل الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون } .
وبعد أن ذكر - سبحانه - حال الناس ، واختلاف سفهائهم على أنبيائهم ، واهتداء عقلائهم إلى الحق ، عقب ذلك بدعوة المؤمنين إلى الاقتداء بمن سبقهم في الصبر والثبات . فقال - تعالى - :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة . . . }
قال القرطبي : قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والحر والبرد وسوء العيش وأنواع الشدائد ، وكانوا كما قال - تعالى - : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } وقيل نزلت في حرب أحد ، ونظيرها - في آل عمران { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ . . } وقالت فرقة : نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله ، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل اله ذلك تطيبا لقلوبهم .
وما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمنع عمومها ، وأنها تدعو المؤمنين في كل زمان ومكان إلى التذرع بالصبر والثبات تأسيا بمن سبقهم من المتقين حتى يفوزوا برضوان الله - تعالى - ونصره .
و { أَمْ } هنا يرى بعضهم أنها للاستفهام الإِنكاري ، ويرى بعض آخر أنها أم المتصلة ، ويرى فريق ثالث أنها أم المنقطعة .
قال الجمل : وحسب هنا من أخوات ظن تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، وأن وما بعدها سادة مسد المفعولين عند سيبويه ، ومسد الأول عند الأخفش والثاني محذوف ، ومضارعها فيه وجهان : الفتح وهو القياس والكسر .
و { وَلَمَّا } تدل على النفي مع توقع حصول المنفي بها ، كما في قول النابغة :
أزف الترحل غير أن ركابنا . . . لما تزل برحالنا وكن قد
فنفى بلما ثم قال : وكأن قد ، أي وكأنه قد زالت .
و { البأسآء } ما يصيب الناس في الأموال كالفقر . والضراء : ما يصيبهم في الأنفس كالمرض مشتقان من البؤس والضر .
و { وَزُلْزِلُواْ } من الزلزلة وهي شدة التحريك وتكون في الأشخاص وفي الأحوال . فيقال :
زلزلت الأرض ، أي تحركت واضطربت ، ومعنى زلزلوا : خوفوا وأزعجوا واضطربوا .
والمعنى على أن { أَمْ } للاستفهام الإِنكاري : أظننتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإِيمان دون أن يصيبكم ما أصاب الذين سبقوكم من شداد في الأنفس والأموال ، ومن مخاوف أزعجتهم وأفزعتهم حتى بلغ الأمر برسولهم وبالمؤمنين معه أن يقولوا وهم في أقصى ما تحتمله النفوس البشرية من آلام : متى نصر الله ؟ ! !
لا - أيها المؤمنون - إني أنهاكم أن تظنوا هذا الظن ، وآمركم أن تتيقنوا من أن الظفر بدخول الجنة يستلزم منكم التأسي بمن سبقكم من المتقين في الصبر والثبات .
والمعنى على أن { أَمْ } هنا هي المتصلة - أي المشعرة بمحذوف دل عليه الكلام - : قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب واهتدوا إلى الحق فآذاهم الناس أذى شديدا فصبروا على ذلك أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون ثباتهم على الشدائد ؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دون أن يصيبكم ما أصابهم ؟
والمعنى على أن { أَمْ } هنا منقطعة - أي تدل على الإِضراب والاستفهام معا - : لقد أوذيتم أيها المؤمنون في سبيل دينكم أذى عظيماً ، فعليكم أن تصبروا وأن تثبتوا كما فعل الذين من قلبكم ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دون ابتلاء وصبر .
. أي : بل أحسبتم . . إن كان هذا هو حسبانكم فهو حسبان باطل لا ينبغي لكم .
وقوله - تعالى - { مَّسَّتْهُمُ البأسآء . . } استئناف وقع جواباً عما ينساق إليه الذهن ، كأنه قيل : كيف مثل أولئك الذين خلوا ومضوا ؟ فكان الجواب مستهم البأساء . . . الخ .
ومستهم أي : حلت بهم . وعبر بمستهم للإِشعار بأن تلك الشدائد قد أصابتهم بالآلام التي اتصلت بحواسهم وأجسادهم ولكنها لم تضعف إيمانهم إذ حقيقية المس اتصال الجسم بجسم آخر .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { وَزُلْزِلُواْ } أي : أزعجوا إزعاجاً شديداً شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع " حتى يقول الرسول " أي : إلى الغاية اليت قال الرسول ومن معه فيها { متى نَصْرُ الله } أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك . ومعناه طلب النصر وتمنيه ، واستطالة زمان الشدة . وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم ؛ لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمع وراءها " .
والمراد بالرسول - كما يقول الآلوسي - الجنس لا واحد بعينه . وقيل : شعياء ، وقيل : أشعياء ، وقيل اليسع . وعلى التعيين يكون المراد من الذين خلوا قوماً بأعيانهم وهم أتباع هؤلاء الرسل " .
وقوله - تعالى - : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } استئناف على تقدير القول . أي فقيل لهم حينما التمسوا من الله النصر بعد تلك الشدائد والأهوال التي نزلت بهم : ألا إن نصر الله قريب تطيباً لأنفسهم ، وبعثا للآمال في قلوبهم .
وفي هذه الجملة الكريمة ألوان من المؤكدات والمبشرات بالنصر القريب ، ويشهد لذلك التعبير بالجملة الاسمية بدل الفعلية فلم يقل - مثلا - ستنصرون والتعبير بالجملة الاسمية يدل على التوكيد . ويشهد لذلك أيضا تصدير الجملة بأداة الاستفتاح الدالة على تحقيق مضمونها وتقريره ، ووقوع إن المؤكدة بعد أداة الاستفتاح ، وإضافة النصر إلأى الله القادر على كل شيء والذي وعد عباده المؤمنين بالنصر فقال ، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الإشهاد " .
هذا ، والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت للمؤمنين أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " وأنهم لكي يصلوا إلى الجنة عليهم أن يتأسوا بالسابقين في جهادهم وصبرهم على الأذى ، فقد اقتضت سنة الله أن يجعل هذه الحياة نزالا موصولا بين الأخيار والأشرار ، ونزاعا مستمرا بين الأطهار والفجار ، وكثيرا ما يضيق البغاة على المؤمنين ، وينزلون بهم ما ينزلون من صفوف الاضطهاد إلا أن الله - تعالى - قد تكفل بأن يجعل العاقبة للمتقين .
ولقد حكى لنا التاريخ أن المؤمنين السابقين قد صبروا أجمل الصبر وأسماه في سبيل إعلاء كلمة الله .
روى البخاري عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال : " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه . والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلى الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " .
وبذلك نرى أن السورة الكريمة من قوله - تعالى - { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } إلى هنا ، قد بينت لنا أقسام الناس في هذه الحياة ، ودعت المؤمنين إلى أن يتمسكوا بجميع تعاليم الإِسلام ، وأن يزهدوا في زينة الحياة التي شغلت المشركين عن كل شيء سواها ، وأن يشكروا الله على هدايته إياهم إلى الحق الذي اختلف غيرهم فيه ، وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل الآلام لكي يحقق الله لهم الآمال .
وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة . . تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات . . يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة ، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة ، وليكونوا لها أهلا : أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر ؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم ، لم تزعزعهم شدة ، ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة . . استحقوا نصر الله ، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله ، مأمونون على ما ائتمنوا عليه ، صالحون لصيانته والذود عنه . واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل ، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء . فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة ، وارفع ما تكون عن عالم الطين :
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب ) . .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته ، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ، والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم : ( متى نصر الله ؟ )ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف ، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب ، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب : ( متى نصر الله ؟ )
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله ، ويجيء النصر من الله :
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى ( نصر الله ) ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق : إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا ، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ؛ ولهذا قال : { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ } وهي : الأمراض ؛ والأسقام ، والآلام ، والمصائب والنوائب .
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومُرّة الهَمْداني ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ، والسّدي ، ومقاتل بن حَيّان : { الْبَأْسَاءُ } الفقر . قال ابن عباس : { وَالضَّرَّاءُ } السّقم .
{ وَزُلْزِلُوا } خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا ، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا ، كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال : قلنا : يا رسول الله ، ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال : " إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه ، لا يَصْرفه{[3749]} ذلك عن دينه ، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه " . ثم قال : " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تستعجلون " .
وقال الله تعالى : { الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1 - 3 ] .
وقد حصل من هذا{[3750]} جانب عظيم للصحابة ، رضي الله عنهم ، في يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا } الآيات [ الأحزاب : 10 - 12 ] .
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان : هل قاتلتموه ؟ قال : نعم . قال : فكيف كان{[3751]} الحرب بينكم ؟ قال : سِجَالا يدال علينا ونُدَال عليه . قال : كذلك الرسل تُبْتَلى ، ثم تكون لها العاقبة{[3752]} {[3753]} .
وقوله : { مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : سنتهم . كما قال تعالى : { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } [ الزخرف : 8 ] .
وقوله : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } أي : يستفتحون على أعدائهم ، ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج ، عند ضيق الحال والشدة . قال الله تعالى : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } كما قال : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ] .
وكما تكون الشدة ينزل من النصر{[3754]} مثلُها ؛ ولهذا قال تعالى : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وفي حديث أبي رَزين : " عَجب ربّك{[3755]} من قُنُوط عباده ، وقُرْب غيثه{[3756]} فينظر إليهم قَنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أنّ فرجهم{[3757]} قريب " الحديث{[3758]} .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }
وأما قوله : أمْ حَسِبْتُمْ كأنه استفهم ب«أم » في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام لمسبوق كلام هو به متصل ، ولو لم يكن قبله كلام يكون به متصلاً ، وكان ابتداء لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام ، لأن قائلاً لو كان قال مبتدئا كلاما لاَخر : أم عندك أخوك ؟ لكان قائلاً ما لا معنى له ولكن لو قال : أنت رجل مدلّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟ كان مصيبا . وقد بينا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته .
فمعنى الكلام : أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة ، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار ، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدّة الحاجة والفاقة والضرّاء ، وهي العلل والأوصاب ولم تزلزلوا زلزالهم ، يعني : ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطىء القوم نصر الله إياهم ، فيقولون : متى الله ناصرنا . ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب ، وأنه معليهم على عدوّهم ، ومظهرهم عليه ، فنجز لهم ما وعدهم ، وأعلى كلمتهم ، وأطفأ نار حرب الذين كفروا .
وهذه الآية فيما يزعم أهل التأويل نزلت يوم الخندق ، حين لقي المؤمنون ما لقوا من شدة الجهد ، من خوف الأحزاب ، وشدة أذى البرد ، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذٍ ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْها » إلى قوله : وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وَتظُنّونَ باللّهِ الظّنُونا هُنالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَلاً شَدِيدا . ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنةَ وَلمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَستّهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال : نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم : ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله وَلمّا يأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسّتْهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال : نزلت في يوم الأحزاب ، أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاء وحصر ، فكانوا كما قال الله جل وعز : وَبَلغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ .
وأما قوله : وَلمّا يَأتِكُمْ فإن عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى : ولم يأتكم ، ويزعمون أن ما صلة وحشو ، وقد بينت القول في «ما » التي يسميها أهل العربية صلة «ما » ، حكمها في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
وأما معنى قوله : مَثَلُ الّذِين خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فإنه يعني : شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم . وقد دللت في غير هذا الموضع على أن المثل الشبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلَمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتهُمْ البْأسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن عبد الملك بن جريج ، قال قوله : حتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِين آمَنُوا قال : هو خيرهم وأعلمهم بالله .
وفي قوله : حتى يَقُولَ الرّسُولُ وجهان من القراءة : الرفع ، والنصب . ومن رفع فإنه يقول : لما كان يحسن في موضعه «فعل » أبطل عمل «حتى » فيها ، لأن «حتى » غير عاملة في «فَعَلَ » ، وإنما تعمل في «يفعل » ، وإذا تقدمها «فعل » وكان الذي بعدها «يفعل » ، وهو مما قد فعل وفرغ منه ، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول ، فالفصيح من كلام العرب حينئذٍ الرفع في «يفعل » وإبطال عمل «حتى » عنه ، وذلك نحو قول القائل : قمت إلى فلان حتى أضربه ، والرفع هو الكلام الصحيح في «أضربه » ، إذا أراد : قمت إليه حتى ضربته ، إذا كان الضرب قد كان وفُرغ منه ، وكان القيام غير متطاول المدة . فأما إذا كان ما قبل «حتى » من الفعل على لفظ «فعل » متطاول المدة ، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقض ، فالصحيح من الكلام نصب «يفعل » وإعمال «حتى » ، وذلك نحو قول القائل : ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك ، وجعل ينظر إليك حتى يثبتك فالصحيح من الكلام الذي لا يصحّ غير النصب ب«حتى » ، كما قال الشاعر :
مَطَوْتُ بِهِمْ حتى تَكِلّ مَطِيّهُمْ *** وحتّى الجِيَادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ
فنصب تكل والفعل الذي بعد حتى ماض ، لأن الذي قبلها من المطو متطاول ، والصحيح من القراءة إذا كان ذلك كذلك : «وزلزلوا حتى يقولَ الرسول » ، نصب يقول ، إذ كانت الزلزلة فعلاً متطاولاً ، مثل المطو بالإبل . وإنما الزلزلة في هذا الموضع : الخوف من العدوّ ، لا زلزلة الأرض ، فلذلك كانت متطاولة وكان النصب في «يقول » وإن كان بمعنى «فعل » أفصح وأصحّ من الرفع فيه .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( 214 )
وقوله تعالى : { أم حسبتم } الآية ، { أم } قد تجيء لابتداء كلام بعد كلام وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ألف استفهام ، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجىء بمثابة ألف الاستفهام( {[1996]} ) يبتدأ بها ، و { حسبتم } تطلب مفعولين ، فقال النحاة { أن تدخلوا } تسد مسد المفعولين لأن الجملة التي بعد { أن } مستوفاة المعنى ، ويصح أن يكون المفعول الثاني محذوفاً ، تقديره أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً ، و { لما } ، ولا يظهر أن يتقدر المفعول الثاني في قوله { ولمّا يأتكم } بتقدير أحسبتم دخولكم الجنة خلواً من أن يصيبكم ما أصاب من قبلكم ، لأن { خلوا } حال ، والحال هنا إنما تأتي بعد توفية المفعولين ، والمفعولان هما الابتداء والخبر قبل دخول حسب ، و { البأساء } : في المال ، و { الضراء } : في البدن : و { خلوا } معناه انقرضوا ، أي صاروا في خلاء من الأرض .
وهذه الآية نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة ، هذا قول قتادة والسدي وأكثر المفسرين .
وقالت فرقة : نزلت الآية تسلية للمهاجرين الذين أصيبت أموالهم بعدهم في بلادهم وفتنوا هم قبل ذلك ، و { مثل } معناه شبه ، فالتقدير شبه آتى الذين { خلوا }( {[1997]} ) ، والزلزلة شدة التحريك ، تكون في الأشخاص وفي الأحوال ، ومذهب سيبويه أن «زلزل » رباعي ك «دحرج » .
وقال الزجّاج : «هو تضعيف في زل » فيجيء التضعيف على هذا في الفاء ، وقرأ الأعمش «وزلزلوا ويقول الرسول » بالواو بدل حتى ، وفي مصحف ابن مسعود «وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول » ، وقرا نافع «يقولُ » بالرفع ، وقرأ الباقون «يقولَ » بالنصب ، ف { حتى } غاية مجردة تنصب الفعل بتقدير إلى أن ، وعلى قراءة نافع كأنها اقترن بها تسبيب فهي حرف ابتداء ترفع الفعل( {[1998]} ) ، وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك ولا ارتياب( {[1999]} ) ، و { الرسول } اسم الجنس( {[2000]} ) ، وذكره الله تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول ، وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله فيقول الرسول { ألا إن نصر الله قريب } ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم ، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر( {[2001]} ) ، ويحتمل أن يكون { ألا إن نصر الله قريب } إخباراً من الله تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكر القول .
إضراب انتقالي عن الكلام السابق فاحتاج إلى وجه مناسبة به ، فقال الطيبي أخذاً من كلام « الكشاف » : إن قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } [ البقرة : 213 ] كلام ذُكرت فيه الأمم السالفة وذُكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لَقُوا منهم من الشدائد ، ومُدْمِجٌ لتشجيع الرسول والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين كما قال : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } [ هود : 120 ] فمن هذا الوجه كان الرسول وأصحابه مُرادين من ذلك الكلام ، يدل عليه قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } [ البقرة : 213 ] وهو المضرب عنه ببل التي تضمنّها أَمْ أي دَعْ ذلك ، أحَسِبُوا أن يدخلوا الجنة اهـ .
وبيانه أن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداءُ في المحامد ، فكان في قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } ، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أُوقِظوا أنْ لا يُزْهَوْا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضَوْا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة ، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدي المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك ، فيكون قوله : { أم حسبتم } إضراباً عن قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } وليكون ذلك تصبيراً لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العُمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل ، ويكون أيضاً تمهيداً لقوله : { كتب عليكم القتال } [ البقرة : 216 ] الآية ، وقد روي عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجَهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة .
و أم في الإضراب كبل إلا أن أَمْ تؤذن بالاستفهام وهو هنا تقرير بذلك وإنكاره إن كان حاصلاً أي بل أحسبتم أن تدخلوا دون بلْوَى وهو حسبان باطل لا ينبغي اعتقاده .
وحَسِب بكسر السين في الماضي : فعل من أفعال القلوب أخواتِ ظن ، وفي مضارعه وجهان كسر السين وهو أجود وفتحها وهو أقيس وقد قرىء بهما في المشهور ، ومصدره الحِسبان بكسر الحاء وأصله من الحساب بمعنى العد فاستعمل في الظن تشبيهاً لجولان النفس في استخراج علم ما يقع بجولان اليد في الأشياء لتعيين عددها ومثله في ذلك فعل عَدَّ بمعنى ظن .
والخطاب للمسلمين وهو إقبال عليهم بالخطاب بعد أن كان الكلام على غيرهم فليس فيه التفات ، وجعل صاحب التفاتا بناء على تقدم قوله { فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] وأنه يقتضي أن يقال أم حسبوا أي الذين آمنوا ، والأظهرُ أنه لما وقع الانتقال من غرض إلى غرض بالإضراب الانتقالي الحاصل بأم ، صار الكلام افتتاحاً محضاً وبذلك يُتأكد اعتبار الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ، فالالتفات هنا غير منظور إليه على التحقيق .
ودخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى ، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شيء منه ، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتتهُ ولم يصبر عليها ، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه موجب لغفران الذنوب ، أو المراد من ذلك أن تنالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين ، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفاً على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى ، وتطرقُ هاته الحالة سنة من سنن الله تعالى في أَتْباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل ، فلذلك هُيِّءَ المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفاً بهم ليكون حصوله أهون عليهم .
وقد لقي المسلمون في صدر الإسلام من أذى المشركين البأساءَ والضراءَ وأخرجوا من ديارهم وتحملوا مضض الغربة ، فلما وردوا المدينة لقُوا من أذى اليهود في أنفسهم وأذى المشركين في قرابتهم وأموالهم بمكة ما كدر عليهم صفو حفاوة الأنصار بهم ، كما أن الأنصار لقُوا من ذلك شدة المضايقة في ديارهم بل وفي أموالهم فقد كان الأنصار يعرضون على المهاجرين أن يتنازلوا لهم عن حظ من أموالهم .
و { لمَّا } أخت لم في الدلالة على نفي الفعل ولكنها مركبة من لَم ومَا النافية فأفادت توكيد النفي ، لأنها ركبت من حرفي نفي ، ومن هذا كان النفي بها مشعراً بأن السامع كان يترقب حصول الفعل المنفي بها فيكون النفي بها نفياً لحصول قريب ، وهو يشعر بأن حصول المنفي بها يكون بعد مدة ، وهذا استعمال دل عليه الاستقراء واحتجوا له بقول النابغة :
أَزِفَ الترحُّلُ غيرَ أن ركابنا *** لَمَّا تَزُلْ برحالنا وكأنْ قدِ
فنفى بلما ثم قال : وكأن قد ، أي وكأنه قد زالت .
والواو للحال أي أحسبتم دخول الجنة في حالة انتفاء ما يُترقب حصوله لكم من مس البأساء والضراء فإنكم لا تدخلون الجنة ذلك الدخول السالم من المحنة إلا إذا تحملتم ما هو من ذلك القبيل .
والإتيان مجاز في الحصول ، لأن الشيء الحاصل بعد العدم يجعل كأنه أتى من مكان بعيد .
والمثَل : المشابه في الهيئة والحالة كما تقدم في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذين استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] .
و { الذين خلَوْا } هم الأمم الذين مضوا وانقرضوا وأصل { خَلَوْا } خلاَ منهم المكان فبولغ في إسناد الفعل فأسند إليهم ما هو من صفات مكانهم .
و { من قبلكم } متعلق بخَلَوْا لمجرد البيان وقصد إظهار الملابسة بين الفريقين .
والمس حقيقته : اتصال الجسم بجسم آخر وهو مجاز في إصابة الشيء وحلوله ، فمنه مس الشيطان أي حلول ضُر الجنة بالعقل ، ومسُّ سَقر : ما يصيب من نارها ، ومسَّه الفقر والضر : إذا حل به ، وأكثر ما يطلق في إصابة الشر قال تعالى : { وإذا مس الإنسان ضر دعا } [ الزمر : 8 ] { وإذا مس الإنسان الضر دعانا } [ يونس : 12 ] { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] { ولا تمسوها بسوء } [ الأعراف : 73 ] فالمعنى هنا : حلت بهم البأساء والضراء . وقد تقدم القول في البأساء والضراء عند قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء } [ البقرة : 177 ] .
وقوله : { وزلزلوا } أي أزعجوا أو اضطربوا ، وإنما الذي اضطرب نظام معيشتهم ، قال تعالى : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } [ الأحزاب : 11 ] ، والزلزلة تحرك الجسم من مكانه بشدة ، ومنه زلزال الأرض ، فوزن زلزل فُعفِل ، والتضعيف فيه دال على تكرر الفعل كما قال تعالى : { فكبكبوا فيها } [ الشعراء : 94 ] وقالوا لَمْلَم بالمكان إذا نَزل به نزولَ إقامة .
و { حتى } غاية للمس والزلزالِ ، أي بلغ بهم الأمر إلى غاية يقول عندها الرسول والذين معه متى نصر الله .
ولما كانت الآية مخبرة عن مسَ حل بمن تقدم من الأمم ومنذرة بحلول مثله بالمخاطَبين وقت نزول الآية ، جاز في فعل يَقُول أن يعتبر قولَ رسول أمة سابقة أي زلزلوا حتى يقول رسول المزلْزَلين فـ { آل } للعهد ، أو حتى يقول كلُّ رسول لأمة سبقت فتكون أل للاستغراق ، فيكون الفعل محكياً به تلك الحالة العجيبة فيرفَع بعد حتى ؛ لأن الفعل المراد به الحال يكون مرفوعاً ، وبرفعِ الفعل قرأ نافع وأبو جعفر ، وجاز فيه أن يعتبر قول رسول المخاطَبين عليه السلام فأَلْ فيه للعهد والمعنى : وزلزلوا وتزلزلون مثلهم حتى يقول الرسول فيكون الفعل منصوباً ؛ لأن القول لمَّا يقَعْ وقتئذ ، وبذلك قرأ بقية العشرة ، فقراءة الرفع أنسب بظاهر السياق وقراءة النصب أنسب بالغرض المسوق له الكلام ، وبكلتا القراءتين يحصل كلا الغرضين .
ومتى استفهام مستعمل في استبطاء زمان النصر .
وقوله : { ألا إن نصر الله قريب } كلام مستأنف بقرينة افتتاحه بأَلاَ ، وهو بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر بعد أن حصل لهم من قوارع صدر الآية ما ملأ القلوب رُعباً ، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها ، وإكرامٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بألا يحتاج إلى قول ما قالته الرسل قبله من استبطاء نصر الله بأن يجيء نصر الله لهاته الأمة قبل استبطائه ، وهذا يشير إلى فتح مكة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أمْ حَسِبْتُمْ" كأنه استفهم ب«أم» في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام لمسبوق كلام هو به متصل، ولو لم يكن قبله كلام يكون به متصلاً، وكان ابتداء لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام، لأن قائلاً لو كان قال مبتدئا كلاما لآخر: أم عندك أخوك؟ لكان قائلاً ما لا معنى له ولكن لو قال: أنت رجل مدلّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ كان مصيبا. وقد بينا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.
فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدّة الحاجة والفاقة والضرّاء، وهي العلل والأوصاب ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا. ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب، وأنه معليهم على عدوّهم، ومظهرهم عليه، فنجز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
وهذه الآية فيما يزعم أهل التأويل نزلت يوم الخندق، حين لقي المؤمنون ما لقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذٍ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْها» إلى قوله: "وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وَتظُنّونَ باللّهِ الظّنُونا هُنالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَلاً شَدِيدا". "وَلمّا يَأتِكُمْ": ولم يأتكم.
"مَثَلُ الّذِين خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ": شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم. وقد دللت في غير هذا الموضع على أن المثل الشبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا كما ابتلي من قبلكم؛ أي لا تظنوا ذلك جملة، وإن كان فيها من يدخل، والله أعلم، كقوله تعالى: (أحسب الناس) [العنكبوت: 2] [إلى آخر الآية].
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} من غير أن تبتلوا، ويصيبكم الشدائد {ولما يأتيكم} خبر {الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء}.
وقوله: {وزلزلوا}؛ قيل: حركوا، وقيل: جهدوا.
وقوله: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} [يعني: قال الرسول] {متى نصر الله}؟؛ قيل فيه بوجهين:
قيل: {يقول الرسول} والمؤمنون جميعا {متى نصر الله} ثم يقول الله لهم: {ألا إن نصر الله قريب}،
[وقيل: يقول المؤمنون {متى نصر الله}؟ يقول الرسول: {ألا إن نصر الله قريب}]. ويحتمل هذا في كل رسول بعثه الله إلى أمته؛ يقول هذا، وأمته يقولون أيضا. ويحتمل أن كان هذا في [رسول دون رسول] على ما قاله بعض أهل التأويل: إنه فلان. وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع، ولا حاجة لنا إلى معرفته.
[وفي قوله: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} [التوبة: 16]، وفي قوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم}
[آل عمران: 142] وجه آخر، وهو أنهم، والله أعلم،؟ ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة، ولا يبتلون بشيء من المحن والفتن وأنواع الشدائد، فأخبر عز وجل أن في الإيمان المحن والشدائد، لا بد منها، كقوله [عليه السلام]:"حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" [مسلم: 2822]، والله أعلم. كقوله: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت 1 و 2]؛ ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد، لأنه معرفة حق وقول صدق، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل في احتمال المؤن، والإيمان مخالفة الهوى والطبع؛ وذلك في أنواع المحن، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ}: الفقر والضرّ والشدّة والبلاء {وَالضَّرَّآءُ}: المرض والزمانة. {وَزُلْزِلُواْ}: حُرّكوا بأنواع البلايا والرزايا وخُوِّفوا. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}: ما تلك البلايا حتى استبطأوا الرزق، قال الله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فان قيل: ما معنى قول الرسول والمؤمنين:"متى نصر الله" ؟ قلنا: قال قوم: معناه الدعاء لله بالنصر، ولا يجوز أن يكون معناه الاستبطاء لنصر الله على كل حال، لأن الرسول يعلم: أن الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة. وقال قوم: معناه الاستبطاء لنصر الله. وذلك خطأ، لا يجوز مثله على الأنبياء (ع) إلا أن يكون على الاستبطاء لنصره لما توجبه الحكمة من تأخره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ} منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات -تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له- قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ: {أم حسبتم} {وَلَمَّا} فيها معنى التوقع، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات.
والمعنى أن إتيان ذلك متوقع منتظر {مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ} حالهم التي هي مثل في الشدة. و {مَسَّتْهُمْ} بيان للمثل وهو استئناف، كأن قائلاً قال: كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: {مستهم البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ} وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع {حتى يَقُولَ الرسول} إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها {متى نَصْرُ الله} أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب الصبر وتمنيه، واستطالة زمان الشدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم، لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} على إرادة القول، يعني فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر.
الأول: أنه تعالى قال في الآية السالفة: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}: والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} الآية
الثاني: أنه في الآية السالفة بيّن أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى، فكذا أنتم يا أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن.
والمقصود من هذه الآية ما ذكرنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين والمنافقين واليهود، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى، فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك، والمصيبة إذا عمت طابت،
فتقدير الآية هكذا: كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم، وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق، فإن نصر الله قريب، لأنه آت، وكل ما هو آت قريب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أفهم ما صرح به الكلام السابق من الاختلاف وقوع العداوات وكان في العداوات خطر الأموال والأنفس وكان ذلك أشق ما يكون وكانت العادة قاضية بأن المدعوين إلى ذلك إن لم يصمموا على الآيات كانوا بين مستثقلين لأمر الرسل يرون أنهم يفرقون ما اتفق من الكلمة ورضي به الناس لأنفسهم ويشتتون أمرهم مستثقلين لطول انتظار الانتصار كان حالهم حال من يطلب الراحات في ذرى الجنات بلا مشقات وذلك محال ومحض ضلال، فإن الثبات على الصراط المستقيم لا يكون إلا باحتمال شدائد التكاليف فكان كأنه قيل في جواب ذلك عدولاً عن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم المقول له {سل بني إسرائيل} [البقرة: 212] إلى خطاب الأتباع تشريفاً له عن ذلك ورفعاً لهممهم بالمواجهة بالخطاب والتأسية بمن مضى من أولي الألباب تنشيطاً لهم وتقوية لعزائمهم: أحسبتم أنا لا نرسل الرسل لتمييز الخبيث من الطيب
{أم حسبتم} بعد إرسالهم أن الأمر هين بأن تنالوا السعادة بلا اجتهاد في العبادة.
قال الحرالي: هو مما منه الحسبان وهو ما تقع غلبته فيما هو من نوع المفطور عليه المستقر عادته، والظن الغلبة فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم؛ فكأن ضعف علم العالم ظن وضعف عقل العاقل حسبان...
وهذا الذي قدرته هو معنى {أن تدخلوا الجنة} أي التي هي نعيم دائم {و} الحال أنه {لما يأتكم مثل} أي وصف {الذين خلوا} ولما كان القرب في الزمان أشد في التأسية أثبت الجار فقال: {من قبلكم} أي يقص عليكم لتعلموا به أو يصيبكم ما أصابهم من الأحوال الغريبة والقضايا العجيبة التي هي في غرابتها كالأمثال.
وقال الحرالي: وأم عطف على أمور يفهمها مبدأ الخطاب كأنه يقول: أحسبتم أن تفارق أحوالكم أحوال الأمم الماضية في حكمة الله وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلاً إلى ما يستجره معنى الخطاب إجمالاً وتفصيلاً في واقع الدنيا من شدائدها وحرها وبردها وضيق عيشها وأنواع أذاها وحال البرزخ وحال النشر والحشر إلى ما وراء ذلك إلى غاية دخول الجنة فكان عند انتهاء ذلك بادئة خطاب {أم حسبتم} تجاوزاً لما بين أول البعث وغاية دخول الجنة...
ونبهت لما التي فيها معنى التوقع لأنها في النفي نظيرة قد في الإثبات على أنه كان ينبغي لهم أن يكون دخولهم في الدين على بصيرة من حصول الشدائد لكثرة المخالف والمعاند فيكونوا متوقعين في كل وقت مكابدة القوارع وحلول الصوادع والصوارع ليكون ذلك أجد في أمرهم وأجدر لهم بالثبات والارتقاء إلى أعلى الدرجات.
ولما كان كأنه قيل: ما ذلك المثل؟ أجيب بيانا بقوله: {مستهم البأساء} أي المصائب في الأموال {والضراء} أي في الأنفس -نقله أبو عبيد الهروي عن الأزهري، والأحسن عندي عكسه، لأن البأس كثير الاستعمال في الحرب والضر كثير الاستعمال في الفقر؛ أي جزاء لهم كما قال الحرالي على ما غيروا مما يجلب كلاًّ منهما ولكل عمل جزاء {وزلزلوا} لأمور باطنة من خفايا القلوب...
والمعنى أنهم أزعجوا بأنواع البلايا والرزايا والأهوال والأفزاع إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة التي تكاد تهد الأرض وتدك الجبال {حتى يقول} رفعه نافع على حكاية الحال في وقتها بمعنى أن الغاية والمغيا قد وجدا ومضيا فهما ماضيان وكأنك تحكي ذلك حين وقوعه مثل من يقول عن مريض يشاهده: مرض حتى لا يرجونه، فإن النصب بتقدير أن وهي علم الاستقبال فهي لا تنصب إلا مضارعاً بمعناه؛ ونصبه الجماعة على حكاية الحال أيضاً لكن بتقدير أن الزلزال مشاهد والقول منتظر حقق ذلك المتبين حتى يقول: {الرسول} وهو أثبت الناس {والذين آمنوا معه} وهم الأثبت بعده لطول تمادي الزمان فيما مسهم.
وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم وإشارة إلى تكرير ذلك من مقالهم.
قال الحرالي: فذكر قول الرسول الواقع في رتبة الذين آمنوا معه لا قوله فيما يخصه في ذاته وحده ومن هو منه أو متبعه، لأن للنبي ترتباً فيما يظهر من قول وفعل مع رتب أمته، فكان قول الرسول المنبئ عن حالهم {متى نصر الله} فكأنهم في مثل ترقب المتلدد الحائر الذي كأنه وإن وعد بما هو الحق يوقع له التأخير صورة الذي انبهم عليه الأمر لما يرى من اجتثاث أسباب الفرج، ففي إشعاره إعلام بأن الله سبحانه وتعالى إنما يفرج عن أنبيائه ومن معهم بعد انقطاع أسبابهم ممن سواه ليمتحن قلوبهم للتقوى فتتقدس سرائرهم من الركون لشيء من الخلق وتتعلق ضمائرهم بالله تعالى وحده حتى يقول صلى الله عليه وسلم:"لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" إعلاماً بأن الله سبحانه وتعالى ناصره دون حجاب ولا وسيلة شيء من خلقه، كذلك سنته مع رسله {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [غافر: 51] وعلى ذلك جرت خوارق العادات للأولياء وأهل الكرامات لا يكاد يقع لهم إلا عن ضرورة قطع الأسباب.
وفي قراءة النصب إعراب بأن غاية الزلزال القول، وفي الرفع إعراب عن غاية الزلزال وأنه أمر مبهم، له وقع في البواطن والظواهر، أحد تلك الظواهر وقوع هذا القول، ففي الرفع إنباء باشتداد الأمر بتأثيره في ظاهر القول وما وراءه... وهو في النصب واضح فإن حتى مسلطة على الفعل، وأما في الرفع فهي مقطوعة عن الفعل لأنها لم تعمل فيه لمضيه لتذهب النفس في الغاية كل مذهب ثم استؤنف شيء من بيانها بالفعل.
ولما كان معنى الكلام طلب النصر واستبطاء الأمر أجابهم تعالى إجابة المنادي في حال اشتداد الضر بقوله: {ألا} قال الحرالي: استفتاحاً وتنبيهاً وجمعاً للقلوب للسماع {إن} تأكيداً وتثبيتاً {نصر الله} الذي لا سبب له إلا العناية من ملك الملوك بعد قطع كل سبب من دونه {قريب} لاستغنائه عن عدة ومدة، ففي جملته بشرى بإسقاط كلفة النصر بالأسباب والعدد والآلات المتعبة، والاستغناء بتعلق القلوب بالله، ولذلك إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها، لأن نصرتها بتقوى القلوب لا بمدافعة الأجسام، فلذلك تفتح خاتمة هذه الأمة "قسطنطينية الروم بالتسبيح والتكبير "قال صلى الله عليه وسلم: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" فانعطف ذلك على ما أراده الله تبارك وتعالى بأنبيائه وأصفيائه من اليسر الذي كماله لهذه الأمة فأراد بهم اليسر في كل حال...
وفي بعض الآثار: "إنما تقاتلون الناس بأعمالكم"، والحاصل أنه لا يكفي مجرد ادعائهم الدخول في السلم بل لا بد من إقامة البينة بالصبر على ما يمتحنهم كما امتحن الأمم الخالية والقرون الماضية، فانظر هذا التدريب في مصاعد التأديب، وتأمل كيف ألقي إلى العرب وإن كان الخطاب لمن آمن ذكر القيامة في قوله: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} [البقرة: 212] والجنة في قوله: {أن تدخلوا الجنة} [البقرة: 214] وهم ينكرونهما إلقاء ما كأنه محقق لا نزاع فيه تأنيساً لهم بذكرهما، وانظر ما في ذلك من بدائع الحكم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الآية متصلة بما قبلها فقد أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وبين سبب التنازع والخصام، وأرشد إلى ما فطر عليه البشر من حاجة بعضهم إلى التعاون مع بعض عند ما كثروا واجتمعوا وكثرت مطالبهم وتعددت رغائبهم، ومن إفضاء ذلك إلى التنازع والتعادي، ومن حاجتهم إلى نظام جامع وشرع يحدد الحقوق ويهدي القلوب، لا مجال فيه للنزاع والاختلاف، لوجوب أخذه بالتسليم لما معه أو لما فيه من البينات على أنه من عند الله، وذكر إحسان الله تعالى إليهم إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم في الاختلاف. ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء، واتخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرقة، ثم هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحق برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب، وتحكيمه في كل خلاف، وقبول حكمه في كل نزاع، والاعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته، وما علم علما صحيحا من سنة من جاء به، ومن صدقوه واتبعوه قبل الخلاف. بين الله تعالى هذه الأطوار في البشر فأنار لنا الطريق التي اهتدت فيها الأمم بعد ضلال. ثم ضلت بعد هداية، لنكون على بصيرة فيما نعمله للخروج من الخلاف بعد وقوعه، ولكن الذي يحاول الخروج من الخلاف يكون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم، وهكذا أهل الضلالة يبغون على أهل الهداية وإن كان هؤلاء يريدون خيرهم، سواء [أكان] ما يحاولون هدايتهم فيه هو الضلال في طريق الفطرة والعقل، أم الضلال في تأويل الكتاب والتصرف في الشرع، ولذلك قفى على ذلك البيان كله بتمثيل حال الأولين الذين سلكوا سبيل الهداية في أنفسهم وتصدوا لهداية الناس وإرشادهم إلى السلم والوفاق فقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم} الخ الخطاب موجه إلى الذين هداهم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمه الخلاف إلى نور الكتاب الذي أنزل لإزالته في زمن النزول وفي كل زمن يأتي بعده. وتوجيهه أولا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم ويحسبون أنهم بمجرد الانتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنة، جاهلين سنة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقتهم، وهي تحمل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحق، وهداية الخلق. وعجيب من أمة ينطق كتابها بالآيات البينات على أن سنة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل، ويحثها دائما على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة، ثم هم يحولون هذه السنة عنهم، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم، بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية قائلين إنه يقيس المسلمين على الكافرين !!
{أم} ههنا هي الواقعة في طريق الاستفهام وهي تشعر بمحذوف دل عليه الكلام في وصف الذين خلوا من قبلنا وما نالوا من البأساء والضراء، كأنه يقول قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا. أفتصبرون مثلهم على المكاره، وتثبتون ثباتهم على الشدائد؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله تعالى من غير أن تفتنوا في سبيل الحق فتصبروا على ألم الفتنة وتؤذوا في الله فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله تعالى في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟
[لقد] قرر الأستاذ معنى الآية على هذا الوجه وقال إنه معنى ظاهر من الآية يسبق إلى ذهن كل قارئ، وإن لم يستطع كل أحد التعبير عنه وإذا جعلت {أم} بمعنى الإضراب والاستفهام معا كما قال المفسر (الجلال) بطل هذا المعنى الذي يملك النفس ويؤثر في الوجدان. أمثال هؤلاء يخاطبهم الله تعالى بقوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل كمثل الذين خلوا من قبلكم}، أي وإلى الآن لم يصبكم ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحق من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فالمراد بالمثل الوصف العظيم والحالة التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل. أي لم تكن لكم هذه الحال الشديدة إلى الآن. وهذا النفي المستغرق مما يوجه الأذهان إلى طلب العلم بما أصاب أولئك الأقوام، ولذلك وصله بالبيان فقال: {مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله}
[و] البأساء الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه كأخذ المال والإخراج من الديار وتهديد الأمن ومقاومة الدعوة، وفسره الجلال بالمرض وهو بعضه، وأما الزلزال فهو الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه عنه، وهذا الحرف فيه لفظ زل مكررا ومعناه زلق وانحرف، فزلزله بمعنى هزه ودعه ليزله عما هو عليه، أي أنهم وصلوا إلى درجة حدوث الاضطراب والإشراف على الزلل في مجموعتهم كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب {وزلزلوا زلزالا شديدا} (الأحزاب: 11) والآية التي نفسرها تصرح بأن بعض السابقين كانوا أشد زلزالا من هذا الذي وقع للمسلمين في يوم الأحزاب. ولعل الغاية التي وصلوا إليها ولم يصل إليها سلفنا هي قوله تعالى:
{حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} أي حتى وصلوا إلى غاية من الشدائد والأهوال لم يروا فيها منفذا لسبب الفرز لأن قوة أعداء الحق أحاطت بهم من كل جانب ودنت حتى أخذت بأكظامهم، فاعتقدوا أن وقت العناية الإلهية والنصر الذي وعد الله به من ينصر الحق قد حان وقته أو أبطأ فاستعجلوه بقولهم: متى نصر الله؟ فأجابهم تعالى: {ألا إن نصر الله قريب} بأن نصرهم وكف عنهم شر أهل البغي وأيد دعوتهم وجعل {كلمتهم العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وكان الله قويا عزيزا} ومثل هذه بل أشد قوله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء} (يوسف: 110).
وحاصل معنى الآية لوم المؤمنين على ذلك الحسبان وبيان أن ما كانوا فيه من الشدة والألم في وقعة الأحزاب أو وقعة أحد إن صح أن الآية نزلت في ذلك الوقت أو في عامة أحوالهم قبل فتح مكة إذ كانوا يألمون من منازعة المشركين واليهود والمنافقين ويقاسون من جحودهم وكيدهم ما يقاسون كل ذلك قليل في جنب ما قاسى غيرهم ممن سبقهم بالإيمان والهدى إذ كان استعداد البشر أضعف وقسوتهم أشد وعنادهم أقوى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها. ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه. فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي: الفقر {وَالضَّرَّاءُ} أي: الأمراض في أبدانهم {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به. ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}. فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن. فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة.. تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات.. يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلا: أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم، لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة.. استحقوا نصر الله، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه. واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء. فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وارفع ما تكون عن عالم الطين:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب}.. هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته -سبحانه- في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته. وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم..
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة.. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه. من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله. إن سؤالهم: {متى نصر الله؟} ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: {متى نصر الله؟} وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة.. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: {ألا إن نصر الله قريب}.. إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء. الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى {نصر الله}، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من [غير] عند الله. ولا نصر إلا من عند الله. بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداءُ في المحامد، فكان في قوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة} الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أُوقِظوا أنْ لا يُزْهَوْا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضَوْا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدي المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك، فيكون قوله: {أم حسبتم} إضراباً عن قوله: {فهدى الله الذين آمنوا} وليكون ذلك تصبيراً لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العُمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل، ويكون أيضاً تمهيداً لقوله: {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216] الآية،
ودخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شيء منه، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتتهُ ولم يصبر عليها، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه موجب لغفران الذنوب، أو المراد من ذلك أن تنالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفاً على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى، وتطرقُ هاته الحالة سنة من سنن الله تعالى في أَتْباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل، فلذلك هُيِّءَ المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفاً بهم ليكون حصوله أهون عليهم.
والواو للحال أي أحسبتم دخول الجنة في حالة انتفاء ما يُترقب حصوله لكم من مس البأساء والضراء فإنكم لا تدخلون الجنة ذلك الدخول السالم من المحنة إلا إذا تحملتم ما هو من ذلك القبيل.
والإتيان مجاز في الحصول، لأن الشيء الحاصل بعد العدم يجعل كأنه أتى من مكان بعيد.
و {الذين خلَوْا} هم الأمم الذين مضوا وانقرضوا وأصل {خَلَوْا} خلاَ منهم المكان فبولغ في إسناد الفعل فأسند إليهم ما هو من صفات مكانهم. و {من قبلكم} متعلق بخَلَوْا لمجرد البيان وقصد إظهار الملابسة بين الفريقين.
والمس حقيقته: اتصال الجسم بجسم آخر وهو مجاز في إصابة الشيء وحلوله، فمنه مس الشيطان أي حلول ضُر الجنة بالعقل، ومسُّ سَقر: ما يصيب من نارها، ومسَّه الفقر والضر: إذا حل به، وأكثر ما يطلق في إصابة الشر قال تعالى: {وإذا مس الإنسان ضر دعا} [الزمر: 8] {وإذا مس الإنسان الضر دعانا} [يونس: 12]
{وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} [فصلت: 51] {ولا تمسوها بسوء} [الأعراف: 73] فالمعنى هنا: حلت بهم البأساء والضراء.
ولما كانت الآية مخبرة عن مسَ حل بمن تقدم من الأمم ومنذرة بحلول مثله بالمخاطَبين وقت نزول الآية، جاز في فعل يَقُول أن يعتبر قولَ رسول أمة سابقة أي زلزلوا حتى يقول رسول للمزلْزَلين فـ {آل} للعهد، أو حتى يقول كلُّ رسول لأمة سبقت فتكون أل للاستغراق، فيكون الفعل محكياً به تلك الحالة العجيبة فيرفَع بعد حتى؛ لأن الفعل المراد به الحال يكون مرفوعاً، وبرفعِ الفعل قرأ نافع وأبو جعفر، وجاز فيه أن يعتبر قول رسول المخاطَبين عليه السلام فأَلْ فيه للعهد والمعنى: وزلزلوا وتزلزلون مثلهم حتى يقول الرسول فيكون الفعل منصوباً؛ لأن القول لمَّا يقَعْ وقتئذ، وبذلك قرأ بقية العشرة، فقراءة الرفع أنسب بظاهر السياق وقراءة النصب أنسب بالغرض المسوق له الكلام، وبكلتا القراءتين يحصل كلا الغرضين.
وقوله: {ألا إن نصر الله قريب} كلام مستأنف بقرينة افتتاحه بأَلاَ، وهو بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر بعد أن حصل لهم من قوارع صدر الآية ما ملأ القلوب رُعباً، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها، وإكرامٌ للرسول صلى الله عليه وسلم بألا يحتاج إلى قول ما قالته الرسل قبله من استبطاء نصر الله بأن يجيء نصر الله لهاته الأمة قبل استبطائه، وهذا يشير إلى فتح مكة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن الناس جميعا قد فطروا على فطرة واحدة، وأن من هذا الاتحاد كان الافتراق والاختلاف، ولقد ألهم الله كل نفس فجورها وتقواها، وخلق الناس مستعدين للخير وللشر، وللطاعة وللعصيان، فكان منهم من غلبت عليه شقوته فاتجه نحو الشر، ومنهم من عمته رحمة الله فاهتدى إلى الخير، فكان من الناس الأخيار والأشرار، وكان هذا من مقتضى الاستعداد للأمرين بمقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها وكانوا فيها على سواء.
و لا شك أن العاقبة للخير؛ لأن الله هو الذي أمر به، فإذا كان الناس فيهم الفجار والأبرار، وأن في كل نفس امرئ استعدادا للفجور والتقوى، فالله سبحانه قد دعا للخير، وحث عليه، وهو غالب على أمره، وهو لابد ناصر للخير، هازم للشر، والعاقبة للمتقين،
ولكن النصر يكون على مقتضى تدبير محكم، وصبر على البلاء، وعدم استنامة إلى الرخاء. فلا ينتصر الخير على الشر إلا بشدائد ومكاره تنزل بالأخيار ويتغلبون عليها بعد مغالبتها، ومغالبة الأشرار معها، ولذلك أردف الله سبحانه وتعالى الآية الدالة على اتفاق الناس واختلافهم، بالآيات الدالة على الشدائد النازلة بالأخيار وأتباع النبيين، فقال سبحانه: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة}.. إلخ. في هذه الآيات إذن يبين الله سبحانه وتعالى ما ينزل بالأخيار في سبيل الاستمساك بالحق والدفاع عنه، وكيف يغالبون المحن التي تنزل بهم، والأعداء الذين يحيطون بدولتهم، ولقد وصف سبحانه وتعالى أولا البلاء في الداخل والخارج، ثم وصف علاجه في الداخل بالبر والإنفاق ثم وصف علاجه في الخارج بالمقاومة وحمل السيف عند الاضطرار.
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا} في هذه الجملة السامية بين الله سبحانه وتعالى أن طريق الجنة محفوف بالشدائد، كما قال صلى الله عليه وسلم:"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" وأن نعيم الجنة مرتقى عظيم، لا يرتفع إليه إلا المجاهدون، وأنها كلما عظمت الشدة وطالت المدة كان الخير أعظم، ومعه رضوان الله وهو أكبر، وأن البلاء منوع مختلف، فهو بالبأساء وهي الشدائد والمكاره التي تكون خارج الجسم، كحرب ضروس، أو خطر داهم، والبلاء قد يكون بالضراء، وهي الآلام والشدائد التي تحل بالجسم، كجراح شديدة، أو أمراض ممضة، أو آلام نفسية مزعجة، وإن هذه الآلام قد تزعجهم وتشتد عليهم، وتصير كالزلزال تهز نفوسهم هزا عنيفا، كما يهز الزلزال أديم الأرض، وإذا كان زلزال الأرض يهزها حتى يلقي ما عليها من قصور مشيدة، فزلزال المؤمنين لا يقلب أنفسهم، ولا ينكس ما في صدورهم، بل يصقلها وينفض عنها ما عساه يعلق بها من درن. وكأن تقدير القول: لقد نزلت بكم الشدائد من أذى شديد في مكة وأنتم مستضعفون، ومن حرب وبلاء وهزيمة أحيانا وأنتم بالمدينة، ونزعت العرب كلها عن قوس واحدة في غزوة الأحزاب، لتقتلع مدينة الله من أرضه، فعليكم أن تصبروا..
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214} (البقرة). و المعنى في الجملة أن أهل الحق دائما معنون بظلم الظالمين، وتضييق الأشرار عليهم، ودس الأشرار ونفاق المنافقين، ودعاة التردد والهزيمة، وهم لهذا في بأساء وضراء، ولقد نزل ذلك بالذين خلوا من قبل، فحياة الأنبياء كانت كلها امتحانا واختبارا، وأن على أصحاب محمد أن يعلموا أنه نازل بهم ما نزل بالسابقين من بأساء وضراء وشدائد تزلزل النفوس وتضطرب لها القلوب بين الجنوب، وأن ذلك طريق الجنة. ولقد قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن عمل الجنة حزن بربوة، ألا إن عمل النار سهل بسهوة". و إن تلك الشدائد كانت تبلغ أقصاها، حتى إذا وصلت القلوب إلى حال تقارب اليأس من الفرج، إذ تغمرها الشدائد غمرا، حتى تكون في شبه ظلماء لولا نور القلوب، جاء نصر الله، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} أي أن الشدائد كانت تنزل بالماضين من أنصار الحق والدعاة إليه، ويطول زمنها، ويتطاول فيها أهل الباطل، حتى تصير النفوس في حال تريد النصر القريب. و ليس معنى ذلك أن الهلع يستولي عليهم، أو أن اليأس يملك قلوبهم، فإن المؤمن لا ييئس من روح الله، إنما معناه أنهم تنزل الشديدة فيحتملونها ويألفونها ثم تنزل الأخرى التي تكون أشد قسوة، فيروضون نفوسهم على احتمالها مستعذبين العذاب في سبيل الحق، وهكذا تترادف عليهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن حتى تصل إلى أقصى ما تحتمله النفوس الآدمية، و تبلغ حد الطاقة البشرية، عندئذ يطلب الرسول والذين آمنوا معه النصر.
وقدم الرسول في هذا المقام للدلالة على أمرين:
أولهما: أن الشدة قد بلغت منتهاها بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم سارع بطلب النصر من رب العالمين،
والثاني: أن رأفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأتباعه تجعله يسارع بطلب نصر الله... إشفاقا عليهم. و مهما يكن من سبب لنزول هذه الآية الكريمة فإنها تدل على أن أهل الحق في مغالبة دائمة، وأنهم لا ينتقلون من شدة إلا إلى أعلى منها حتى يفوزوا، فإن الشيطان من يوم أن وسوس لآدم وحواء وأخرجهما من الجنة، وأبناؤهما في بلاء: تستغوي الشهوات جموعهم، فيندفعون فيها مجترعين من عسلها الوبيء، ثم يلغون في الشر ويكلبون على أهل الخير، فإذا تقدم دعاة الخير يدعونهم بعد أن يتبين الرشد من الغي ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، عادوهم وناوءوهم وأصابوهم، واعتقدوا أن ما يدعون إليه فيه ذهاب طغيانهم، وقمع شهواتهم، والحد من أهوائهم، وحاولوا افتراسهم كالوحوش الأوابد عندما تحس بما يمنعها من الافتراس، ويكبحها عن الأذى. و إذا كان أهل الحق يصابون بالضراء وهي الأذى الذي يكون في داخل جماعتهم كما قررنا، والبأساء وهي الأذى الذي يأتي من خارجهم، فقد وجب عليهم أن يدرعوا، ويعملوا صابرين على دفع الأذى في الداخل والخارج، ودفع الأذى في الداخل بالتعاون والتكافل الاجتماعي، ودفع الأذى الخارجي بأخذ الأهبة للقتال، والتعاون أيضا، فإن التكافل الاجتماعي هو العدة لدفع أذى الداخل والخارج معا.
أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول: ليس الأمر كذلك، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان، فلو كان الإيمان بالقول لكان الأمر سهلا، لكن الذي يُصعّب الإيمان هو العمل، أي حمل النفس على منهج الإيمان. إن الحق يقول: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء}
فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا، وصارت لهم أهواء يحرّفون بها المنهج. أما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للابتلاء، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب. هنا تقول الآية: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} أي لا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولابد أن تُفتنوا وأن تُمحصوا ببأساء وضراء، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة، فلا تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الاختبار، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء، بل على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء. أنتم ستأخذون مكانة عالية في الأمم ولذلك لابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم، فإن كنتم ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فلابد أن يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم.
وعندما نتأمل قوله الحق: {وزلزلوا}... نكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية، هذه الخاصية هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة، فكلمة (زلزلوا) أصلها زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان هما (زل، زل). و (زل): أي سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثانية لها المعنى نفسه أيضاً، أي وقع من مكانه، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر: وقوع أول، ووقوع ثانٍ، والوقوع الثاني ليس امتداداً للوقوع الأول؛ ولكنه في اتجاه معاكس، فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة، إن الزّلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة، وجهة الشمال مرة أخرى. ومثل ذلك (الخلخلة) أي حركة في اتجاهين معاكسين (خل) الأولى جهة اليمين، و (خل) الثانية جهة اليسار، وبهذا تستمر الخلخلة. وهكذا (الزلزلة) تحمل داخلها تغير الاتجاه الذي يُسمى في الحركة بالقصور الذاتي. و (زلزلوا) يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى، الملهية، المتكررة، وهي لا تتكرر على نمط واحد، إنما يتعدد تكرارها، فمرة يأخذها الإيمان، ثم تأخذها المصائب والأحداث، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه: {متى نصر الله}؟ ويأتي بعده القول: {ألا إن نصر الله قريب} فهل يتساءلون أولاً، ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم {ألا إن نصر الله قريب} أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين {متى نصر الله} وبين {ألا إن نصر الله قريب}؟. إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل {متى نصر الله} يعني استبطاء مجيء النصر أولا، ثم التبشير من بعد ذلك في قوله الحق: {ألا نصر الله قريب}.
ولم يكن ذلك للشك والارتياب فيه. وهذا الاستبطاء، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة، فقد اختلطت الأفكار: أناس يقولون: {متى نصر الله} فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائلا: {ألا إن نصر الله قريب}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الجنّة لا تنال بالاسترخاء أو بالتمنيات: هذه الآية من آيات الدعوة الموجهة إلى العاملين في سبيل اللّه، الذين قد تضغط عليهم تحدّيات الكفر والانحراف، فيتراجعون، أو ينهزمون، أو يضعفون أمامها، أو يسقطون تحت عوامل اليأس. وربما كان جوّ الآية يوحي بأنَّ شيئاً من هذا القبيل قد حدث لبعض المسلمين الأولين في صدر الدعوة، أو في ما بعد ذلك في الأجواء التي كان يخوض فيها الإسلام معركته المسلحة مع الشرك، فربما يكون قد صدر من بعض المسلمين ضعف أو تذمر، وربما كانوا يفكرون بإمكانية الحصول على الجنّة من خلال الأعمال الخفيفة التي تدخل في نطاق العبادات أو ما أشبهها، مما لا يكلّف الإنسان تضحية كبيرة في النفس والمال... فكانت هذه الآية توجيهاً حاسماً يضع القضية في نطاقها الطبيعي من حركة العقيدة في الحياة، فإنَّ الجنّة لا تُنال بالتمنيات، ولا تُعطى بحالات الاسترخاء الإيماني الذي يعيش أحلام الجنّة من دون أن يعمل لها، وإنَّ الانتصارات في ساحة التحدّي لا بُدَّ من أن تنطلق من السنن الطبيعية لحركة الصراع الإنساني في قضايا النصر والهزيمة، ومن الشروط الموضوعية للنتائج الإيجابية في هذه الأمور، ليتعرّفوا أنَّ مجرّد الانتماء إلى الإسلام الذي هو دين اللّه لا يكفي في تحقيق النصر لهم ما لم يأخذوا بأسباب النصر التي يفتح اللّه من خلالها ألطافه، فلا يمكن أن يكونوا استثناءً من سنن اللّه الثابتة في الكون. ولكن الجنّة تُنال بالمواقف الصعبة التي يواجه فيها المؤمن القوي الطاغية. وقد جاءت هذه الآية لتعبر للمسلمين عن هذه الفكرة، من خلال المثل التاريخي للرسالات السابقة التي عاش فيها المؤمنون الأولون مع أنبيائهم التحدّيات الصعبة، التي جعلتهم يواجهون حالة الزلزال النفسي والروحي، وربما الزلزال الفكري، من خلال صعوبة ما واجهوه من مشاكل وتحدّيات؛ فقد {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ} مسّت أنفسهم وأموالهم ومصالحهم العامة والخاصة، وحاولت مجتمعات الكفر لديهم أن تضعفهم وتقهرهم، فاستخدمت كلّ الأساليب التعسفية في مجال القهر الجسدي والروحي والفكري حتى تهز قناعاتهم، وتحطم مواقفهم، وترجعهم إلى الحالة التي كانوا عليها قبل الإيمان...
وكان الزلزال، فقد بدأ الرسول والذين آمنوا معه يتساءلون: {مَتَى نَصْرُ اللّه} فقد وعدنا اللّه بالنصر على قوى الكفر. ولم يكن هذا التساؤل منطلقاً من حالة شك في وعد اللّه، بل الظاهر أنه منطلق من حالة استعجال له وترقب لتنفيذه، وتساؤل عن موعده بعد أن أصبح الموقف شبه يائس من الوجهة الواقعية. فالكفر في موقع القوّة المتنامية المتصاعدة، والإيمان في موقع الضعف المستمر المتزايد، والأوضاع المحيطة بالواقع، لا تبعث على التفاؤل الكبير، فلم يبقَ لهم إلاَّ الغيب المودع عند اللّه. ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ الزلزال يتحرّك من طبيعة الظروف التي تتحفز لتثير في النفس الشعور السلبي الخائف الفزع، لا من ضعف الإيمان. ولذلك لم يعاتبهم اللّه على ذلك، ولم ينقص من قدرهم. بل ربما نستوحي من الآية أنها تؤكد على القيمة الإيمانية لموقفهم الجهادي الصعب الذي جعلهم في موقع الزلزال الداخلي، ولذا وعدهم اللّه بالنصر القريب كدلالة على سلامة عملهم وتقييم جهادهم...
{أَمْ حَسِبْتُمْ} هل ظننتم أيُّها المسلمون، الذين تتحرّكون في دروب الدعوة، وتعيشون أمام ساحات التحدّي والاستفهام استنكاري أو تعجبي {أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ} التي تتمنونها كهدف لكلّ نشاطاتكم وحركتكم في الحياة، لتكون النهاية السعيدة للمصير الذي ينتظره الجميع؟!
ولكن هل تنال الجنّة بالتمنيات، والأحلام الطائرة في الهواء، الغارقة في الضباب، أو بالاسترخاء الذاتي الذي يبتعد فيه الإنسان عن أي جهد فكري أو جسدي، مما يتحرّك فيه النّاس لتحقيق الأهداف الكبرى في الحياة، أو بالأعمال العبادية التقليدية التي لا تحمل أية حرارة روحية، وأي ابتهال نفسي، وأي انفتاح على اللّه في الأفق الممتد في اللانهاية من أجل القرب منه في رحاب القدس والرضوان، ولا تكلّف أي جهد أو أية خسارة من مزاج الإنسان وطريقته في الحياة؟!...
إنَّ الآية تختزن الرفض لذلك، والاستنكار أو التعجب من هذا اللون من التفكير، أو الفهم لمسألة الجنّة في علاقتها بحركة الإنسان في الدنيا، لأنَّ الجنّة كما جاء في الحديث محفوفة بالمكاره والصّبر، ما يجعلها نتيجة للحركة المتنوعة الخطوات، المتعدّدة الأبعاد، القاسية في آلامها، الشديدة في أحزانها، الضاغطة في زلزالها، الهائلة في مخاوفها، بحيث يعيش الإنسان في توتر دائم من خلال التحديات الصعبة في ساحة الصراع بما يعانيه من خطورة الجهاد النفسي والعسكري ونحوه، بحيث يكون إنسان الجهاد والتحدّي والصراع الذي يفتح الحياة على آفاق النصر، فلا مجال لكم أيها المسلمون أن تتحدّثوا عن دخول الجنّة قبل أن تعرفوا الثمن الكبير لها...
{وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} من أتباع الرسالات الذين واجهوا الكافرين بكلّ قوّة، وحاربوا المستكبرين بكلّ ثبات، فكانت النتيجة الصعبة أنهم {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ}، وواجهتهم المشاكل الصعبة، والآلام الحادّة، والأوضاع القاسية في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وأحوالهم العامة والخاصة، ومواقعهم الصغيرة والكبيرة... {وَزُلْزِلُواْ} ففقدوا الثبات في مواقفهم وأوضاعهم، بحيث عاشوا الزلزال النفسي الذي ينطلق من حالة نفسية صعبة تثير القلق في الداخل لا شعورياً، وتصنع الزلزال الشعوري من دون اختيار... وبدأ اليأس يدبّ في النفوس، والخوف يزحف إلى القلوب وحتى في مستوى القاعدة والقمة: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ} أمام هذا الزلزال النفسي الذي لم يتحوّل إلى زلزال فكري، لأنَّ الرسالة في وعي الرسول، والإيمان في وجدان المؤمنين، لا يزالان منفتحين على اللّه؛ ولكن طول الأمد وقسوة البلاء أطلقا الصرخة التي تستعجل النتائج وتترقب النصر: {مَتَى نَصْرُ اللّه}؟ في سؤال ابتهالي يتطلّع فيه الرسول والمؤمنون إلى اللّه في عالم الغيب الذي لا يدركون تفاصيله،
ويأتي الجواب في إحساسهم أو في وحي اللّه: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ} ولكن هناك شروطاً موضوعية، وسنناً تاريخية، وقوانين اجتماعية مما أودعه اللّه في نظام حركة المجتمعات الإنسانية... لا بُدَّ من توفرها في فعلية النصر الذي بدأت ملامحه تقترب من الواقع كلّه...
وهكذا ينبغي لكم أيها المسلمون أن تواجهوا الموقف على مستوى الصبر في الواقع الصعب والأمل بنصر اللّه في المستقبل القريب...
وقد نحتاج إلى أن نقف بعض الوقفات أمام مفهوم النصر القريب الذي تتحدّث عنه الآية، هل هو النصر الكامل الذي يستقطب كلّ جوانب الموقف، أو هو النصر الذي تسمح به الظروف الموضوعية المتوفرة في الساحة، ولو كان ذلك في مستوى المرحلة؟! قد لا نستطيع استيحاء المعنى الدقيق لذلك من الآية نفسها، لأننا لا نعرف طبيعة النصر الذي كان ينشده الرسول والمؤمنون، هل هو نصر الغلبة ليتمثّل في هزيمة الكافرين أمام المؤمنين في موقع الصراع بين قوّة الكفر وقوّة الإيمان؛ أو هو النصر بإنزال العذاب على الكافرين ليتمثّل في زوالهم عن الساحة بواسطة العذاب المتنزل عليهم من اللّه؟! وربما كان المعنى الثاني هو الأقرب، لأنَّ ذلك هو شأن الأمم التي كانت تكفر باللّه، وتتحدّى رسله، وتسخر برسالاته، وتتنكّر لها، فيرسل اللّه عليها العذاب في نهاية الأمر، كما فعله في قوم صالح وهود ولوط وشعيب (ع) وغيرهم، وبذلك يكون النصر قائماً على أساس الانتقام من القوم الكافرين.
وهناك عدّة شواهد على إطلاق كلمة النصر على حالة العذاب الذي ينزله اللّه على الكافرين انتصاراً لمن كذب من الأنبياء. وفي ضوء ذلك، يكون المراد من قرب النصر، القرب الزماني الذي طال انتظاره عليهم.
وربما يكون النصر المراد نصر الغلبة، لما قد توحيه من وجود قوّة متحفزة للصراع، في ما توحيه كلمة: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ}، وفي هذه الحال، يمكن أن يكون القرب في النصر خاضعاً للجانب المرحلي في نطاق النصر الجزئي، الذي قد يتمثّل في زيادة قوّة المؤمنين من خلال الفئات التي تدخل في الإيمان، أو في هزيمة بعض المواقع القوية للكافرين أمام المؤمنين، أو في غير ذلك من الموارد.
وليس من الضروري أن يكون النصر حاسماً كلياً، لأنَّ الظاهر أنَّ الموقف كان جامداً في مواقعه الأولى في جانب المؤمنين، حتى انتهى إلى حالة الاستغاثة اليائسة أو القريبة من اليأس، بحيث كانت القضية هي أن يتحرّك الموقف إلى ساحل الأمل.
أمّا حدود ذلك، فهي الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية في حركة الواقع في ما يتوفر من أدوات النصر من المكان والزمان والأشخاص والأوضاع العامة القادمة من الواقع الإنساني العام... وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما ننتظره من النصر في مواقعنا المتحركة للعمل الإسلامي، فقد نشعر في بعض المراحل بالجمود المسيطر على الساحة من خلال الضغوط التي تتوالى عليها، ومن خلال الضعف الذي تخضع له الطاقات الفاعلة، مما قد يوحي باليأس أو بما يشبه اليأس...
ويتطلّع العاملون إلى المستقبل يستشرفون فيه بعض بوادر الأمل، ويبتهل المبتهلون إلى اللّه يطلبون منه أن يحقّق لهم النصر، ثُمَّ تلوح في الأفق بارقة أمل تجرح حاجز الظلام، وذلك بانطلاق بعض الخطوات المتقدّمة إلى الأمام، وبانتقال بعض الفئات من جانب الكفر إلى جانب الإيمان، أو بالحصول على مواقع جديدة في نطاق الزمان والمكان والظروف الخاصة والعامة...
ويجد بعض العاملين أنَّ الموقف لا يزال بعيداً عن النصر وإن حصل على بعض جوانبه ويجد البعض الآخر أنَّ الموقف موقف نصر، ولكنَّه النصر المتحرّك الذي يأخذ من كلّ مرحلةٍ قوّة جديدة للمرحلة الأخرى. ويرى هذا البعض أنَّ قضية النصر في الدعوة تختلف عن قضية النصر في الموارد الأخرى، لأنَّ قضية الدعوة تتناول داخل الإنسان في فكره وشعوره، كما تتناول الجانب الخارجي من حياته؛ ولذا فإنها قضية متحرّكة في أكثر من اتجاه تبعاً للحركة المتنوّعة التي تتمثّل في كيان الإنسان، مما يقتضينا السير في هذا المجال خطوة خطوة، على النهج الذي سار عليه الأنبياء في دعوتهم وجهادهم...
وفي ضوء ذلك، تتحوّل المواقف المتقدّمة إلى انتصارات، ويتمثّل قرب النصر في قرب انفتاح الطريق على خطوات النصر ولو كان الطريق طويلاً. أمّا قضية النصر في الموارد الأخرى، فإنها قد تمثّل الحسم في ما تتمثّل فيه المواقع الذاتية في أرض نستولي عليها، أو في موقف نتحكم فيه، أو في شخص نهزمه، أو في غير ذلك من الأمور التي تتجمد في حدود الزمان والمكان.
ولعلّ هذا التفكير هو الأقرب في ما تحتاجه حركة العمل الإسلامي الآن، فإنَّ التخطيط الدقيق يفرض علينا انتظار الهدف البعيد من خلال الوسائل العملية الحاضرة الموجودة في أيدينا الآن والتي نحاول تحريكها من أجل صنع أدوات جديدة للمستقبل في شعور عميق بالانتصارات المتلاحقة في كلّ مرحلة من مراحل الطريق، وفي وعي كبير للحاجة إلى التوقف بعض الوقت في بعض المراحل من أجل استجماع قوّة مشتتة، أو تقوية طاقة ضعيفة، أو انتظار طاقة قادمة، من دون أي شعور سلبي بالهزيمة النفسية، حتى في حالة الوقوع تحت ضغط الهزيمة في مرحلة معينة.
إنَّ الإيحاء الدائم بأنَّ أيّة خطوة متقدّمة تمثّل نصراً جديداً في حجم تلك الخطوة، يملأ العاملين بالمشاعر الإيجابية القوية المتعاملة مع المستقبل دائماً. وذلك هو سبيل الدعوة المتطلعة دائماً إلى اللّه في شعور عميق بالإيمان، بأنَّ {الأَرْضَ للّه يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]. وذلك ما نستوحيه من النداء الإلهي:
{أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ} بعيداً عمّا قد يستفيده البعض من القرب الزماني للنصر على مستوى الهدف الكبير، ومنسجماً مع طبيعة العمل من القرب الزماني للنصر على مستوى المرحلة المتحركة في اتجاه هذا الهدف على أسس واقعية موضوعية حاسمة.
وقد يكون من الضروري أن نتوقف طويلاً أمام هذه الآية، لنعرف أنها تريد أن تهزّ حركتنا في اتجاه الصبر الإيماني الإيجابي والصمود القوي أمام صعوبة التحدّي، لتعرّفنا بأنَّ علينا أن نصبر كما صبروا، ونتحرّك كما تحرّكوا، ونتطلّع إلى اللّه في وعي بأنه سيمنحنا النصر إن عاجلاً أو آجلاً من خلال مواقعنا القادمة إلى خطّ النصر، وأنه وليّ النصر أوّلاً وأخيراً، فنحصل على الجنّة كما حصلوا عليها في أجواء لطفه ورضوانه.
وعلى هدي ذلك، يمكننا أن نثير الآية في حياتنا، عندما نتطلّع إلى المسلمين الأولين في صدر الدعوة الإسلامية عندما {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ} في أكثر من موقف، لا سيما في ما حدّثنا عنه القرآن في سورة الأحزاب: {هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب: 1112] ولكنَّهم انتصروا على كلّ نقاط الضعف {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] في نهاية المطاف.
إنَّ علينا أن نشعر دائماً بالحقيقة الإسلامية التالية: وهي أنَّ الإيمان والإسلام يمثّلان خطاً واحداً يحكم الحياة في بداياتها ونهاياتها على أساس خصوصيات المراحل الواقعة على منازل الطريق، وأنَّ المؤمنين الآن يمثّلون الامتداد للمؤمنين في الماضي، بما يواجهونه من تحدّيات وعقبات ومتاعب، وما يتحملونه من البأساء والضراء، وما يتجهون إليه من أهداف، فهم يتألمون في المواقع التي تألّم فيها الأوّلون، ويجاهدون في المجالات التي جاهدوا فيها، ويتحملون قسوة الضغوط بالمستوى الذي تحمّله أولئك، ليظل التاريخ في حركة دائمة يدفع فيها الماضي القضية إلى الحاضر، ويقودها الحاضر بكلّ أمانة نحو المستقبل، في جهاد وإيمان، وصبر، ونداء دائم يقاوم كلّ نوازع الزلزال النفسي في داخل المسيرة: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] ليجيء الجواب الحاسم من قِبَل اللّه، فيزرع الأمل في النفوس، ويحيي القوّة في المواقف: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ رمز التكامل للبشريّة أن يُحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة البلاء والشّدائد حتّى يكونوا كالفولاذ الخالص وتتفتّح قابليّاتهم الداخليّة وملكاتهم النفسانيّة ويشتد إيمانهم بالله تعالى، ويتميّز كذلك المؤمنون والصّابرون عن الأشخاص الانتهازيّين.