ثم ذكر الله قصة أصحاب الكهف فقال : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } أي صاروا إليه ، واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف : فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل ، وعظمت فيهم الخطايا ، وطغت فيه الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه ، وكان ينزل قرى الروم ، ولا يترك في قرية نزلها أحداً إلا فتنة حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت أو قتله ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف ، وهي أفسوس فلما نزلها كبر على أهل الإيمان ، فاستخفوا منه ، وهربوا في كل وجه ، وكان دقيانوس حين قدمها أمر أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له ، واتخذ شرطاً من الكفار من أهلها ، يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة ، فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً ، فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء ، وكانوا من أشراف الروم ، وكانوا ثمانية نفر ، بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربنا رب السماوات والأرض ، لن ندعو من دونه إلهاً ، لقد قلنا إذاً شططاً إن عبدنا غيره ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة ، وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك ، فبينما هم على مثل ذلك ، وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم ، يبكون ويتضرعون إلى الله ، فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه ، ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك ! فلما سمع بذلك بعث إليهم ، فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة لسادات من أهل مدينتكم ؟ اختاروا : إما أن تذبحوا لآلهتنا ، وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا ، وهو أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمة ، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً ، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير ، فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً ، فاصنع بنا ما بدا لك ، وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال مكسلمينا ، فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوساً كان عليهم من لبوس عظمائهم ثم قال : سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباناً حديثة أسنانكم ، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده . وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريباً منهم لبعض أموره ، فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم وأن يعذبهم فأتمروا بينهم أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ، ويتزودوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بخلوس ، فيمكثون فيه ويعبدون الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها ، ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف ، فلبثوا فيه . قال كعب الأحبار : مروا بكلب فتبعهم فطردوه ففعل ذلك مراراً فقال لهم الكلب : يا قوم ما تريدون مني ؟ لا تخشون جانبي ، أنا أحب أحباب الله ، فناموا حتى أحرسكم . وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ، وتبعه كلبه ، فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد . قال ابن إسحاق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له : تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً ، وكان من أحملهم وأجلدهم ، وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ، ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ، ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثم قدم دقيانوس المدينة فأمر عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، وأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ، ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة ، ثم إن تمليخا قال لهم : يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع ، فطعموا ، وذلك غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً ، فبينما هم على ذلك ضرب الله على آذانهم النوم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم . فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعضهم : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأحمل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة قد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا ، فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ، ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فسألهم عنهم ، فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني ، ووعدهم بالقتل ، فقالوا له : أما نحن فلم نعصك ، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا ، فأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا وارتقوا إلى جبل يدعى بخلوس ؟ فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم ، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم وأراد الله أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيهم ما غشيهم ، يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال . ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس واسم آخر روتاس ، ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ، ويجعلا التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ، ففعلا وبنيا عليه فبقي دقيانوس ما بقي ، ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك . وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي عظيم وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان ، وكان أحدهم وزير الملك ، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه فقالوا في أنفسهم : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم ، لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة ، فجلس فيه ، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ، ثم خرج الآخر فاجتمعوا إلى مكان ، فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم ؟ وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافةً على نفسه . ثم قالوا : ليخرج كل فتى فيخلو بصاحبه ثم يفشي كل واحد سره إلى صاحبه ، ففعلوا فإذا هم جميعاً على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض : فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ، وفقدهم قومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان بن فلان ووضعوا اللوح في خزانة الملك ، وقالوا : ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك ، وجاء قرن بعد قرن . وقال وهب بن منبه : جاء حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها ، فأتى حماما ً قريباً من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ، ويعمل فيه ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا وصدقوه ، وكان شرط على صاحب الحمام أن الليل لي لا يحول بيني وبينه ولا بين الصلاة أحد ، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعيره الحواري ، وقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه ؟ فاستحيا وذهب فرجع مرة أخرى ، فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ولم يلتفت إلى ذلك حتى دخلا فماتا في الحمام ، وأتى الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب ، فقال : من كان يصاحبه ؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل إيمانهم فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه ، وقالوا : نلبث هاهنا إلى الليل ثم نصبح إن شاء الله تعالى ، فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم ، فدخلوا الكهف ، فلما أراد رجل منهم دخوله أرعب فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل منهم : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتون جوعاً وعطشاً . ففعل . قال وهب : فعبر زمان بعد زمان بعدما سد عليهم باب الكهف ، ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي فيه من المطر لكان حسنا ً ، فلم يزل يعالجه حتى فتح ورد الله عليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا . وقال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له : بيدروس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانياً وستين سنة فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزاباً ، منهم من يؤمن بالله ، ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها ، فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ، ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا ، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، فجعل بيدروس يرسل إلى من يظن فيه خيراً وأنهم أئمة في الخلق ، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ، ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه ، فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ، ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليه ، ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه ، وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف ، وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة ، حتى نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف وحجبهم الله عن الناس بالرعب ، فلما فتحا باب الكهف أذن الله ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض ، فكأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم ، ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقاتهم : أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار ؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد تخيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون ، حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم نياماً ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وكل ذلك في أنفسهم يسير ، فقال لهم تمليخا : التمستم في المدينة فلم توجدوا ، وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم ، فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل ، فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله . ثم قالوا لتمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال علينا بها ، وما الذي يذكر عند دقيانوس ، وتلطف ولا تشعرن بك أحداً ، وابتغ لنا طعاما ً فائتنا به ، وزدنا على الطعام الذي جئنا به ، فقد أصبحنا جياعاً ، ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم والتي ضربت بطابع دقيانوس ، فكانت كخفاف الربع ، فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً فصد عن الطريق تخوفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة ، فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان الإيمان ظاهراً فيها ، فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وجعل ينظر يميناً وشمالاً ، ثم ترك ذلك الباب فتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ، ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ، ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ما هذا ؟ أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة ، لعلي نائم ؟ ثم يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى ابن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدر المدينة ، يقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على ظهر الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل ، وأما الغداة فاسمعهم وكل إنسان يذكر اسم عيسى ولا يخاف أحداً ، ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا ، فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : اسمها أفسوس ، فقال في نفسه : لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي ، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شر فأهلك ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أيسر بي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : بعني بهذه الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل يتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً ، وجعل يرتعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه فلا يعرفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : افضلوا علي قد أخذتم ورقي ، فأمسكوها وأما طعامكم فلا حاجة لي به ، فقالوا له : من أنت يا فتى ، وما شأنك ؟ والله لقد جئت كنزاً من كنوز الأولين ، وأنت تريد أن تخفيه عنا ، فانطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه . نخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لم تفعل نأت بك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم قال في نفسه : قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه ، فقالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت ، فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفرق حتى ما وجد ما يخبر إليهم شيئاً ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة صغيرهم وكبيرهم حتى سمع به من فيها فسألوه : ما الخبر ؟ ، فقيل : هذا رجل عنده كنز ، فاجتمع إليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ، ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه قط ، فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم ، فلما اجتمع إليه أهل المدينة فرق فسكت فلم يتكلم ، وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه ونسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمراها ، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر طنطيوس ، فلما انطلق به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ، وجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء فقال في نفسه : اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم علي صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني به عند هذا الجبار ، وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ولو أنهم يعلمون فيأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا تواثقنا لنكونن معاً ، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً ، فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبداً ، وكنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبداً ، يحدث به نفسه تمليخا ، فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم ، حتى انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس و طنطيوس فلما رأى تمليخا أنه لا يذهب به إلى دقيانوس أفاق وذهب عنه البكاء ، فأخذ أريوس وطنطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ، ثم قال له أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ فقال تمليخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم ، فقال أحدهم : فمن أنت ؟ فقال تمليخا : أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة ، فقالوا : ومن أبوك ومن يعرفك فيها ، فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق ، فلم يدر تمليخا ما يقول لهم ، غير أنه نكس رأسه وأطرق بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي ينفلت منكم ، فقال له أحدها ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذا الورق وضربها أكثر من ثلثمائة سنة ، وإنما أنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شمط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها ، وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته . فلما قال ذلك قال لهم تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، فالوا : سل لا نكتمك شيئاً ، قال لهم : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ، ولم يكن إلا ملك هلك منذ زمان ودهر طويل وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال تمليخا : إني إذاً لحيران وما يصدقني أحد من الناس بما أقول ، لقد كنا فتية على دين واحد وهو الإسلام وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لهم طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي ، فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا ، قال : يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه ، فانطلق معه أريوس و طنطيوس وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم ، ولما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس ، فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلب الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى لهم ، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض ، وأوصى بعضهم بعضاً ، وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار ينتظر متى نأتيه ، فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهري الكهف لم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف . وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم ، وقص عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمان كله بأمر الله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجلاً من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما : أن مكسلمينا ، و مخشلمينا ، وتمليخا ، ومرطونس ، و كشطونس ، ويبرونس ، وديموس ، وبطيوس ، وحالوش كانوا فتية هربوا من مهلكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه وعجبوا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية إلى الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيهم مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم ، فخر أريوس وأصحابه سجوداً ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس من إكراههم على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت وإخفاء إيمانهم عنه وهربهم إلى الكهف ، ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل إلينا لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكك ، وجعلها آية للعالمين لتكون لهم نوراً وضياءً وتصديقاً للبعث ، فأعجل إلى فتية بعثهم الله عز وجل ، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ، فلما أتى الملك الخبر رجع إليه عقله وذهب همه فقال : أحمدك الله رب السماوات والأرض ، وأعبدك ، وأسبح لك ، تطولت علي ورحمتنى فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي للعبد الصالح بيدروس الملك ، فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف ، فلما رأى الفتية بيدروس فرحوا به وخروا سجداً على وجوههم ، وقام بيدروس فاعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ثم قال الفتية لبيدروس : نستودعك الله إيمانك وخواتيم أعمالك والسلام عليك ورحمة الله ، حفظك الله وحفظ ملكك ، ونعيذك بالله من شر الإنس والجن . فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله تعالى أنفسهم ، وقام الملك إليهم فجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام ، فقالوا له : إننا لم نخلق من ذهب ولا من فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه ، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم فأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجداً يصلى فيه وجعل لهم عيداً عظيماً وأمر أن يؤتى كل سنة . وقيل : إن تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة ، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام ، وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد ، وكان الملك قد سمع أن فتية فقدوا في الزمن الأول وأن أسماءهم مكتوبة على اللوح بالخزانة ، فدعا باللوح وقد نظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم ، وذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا هم أصحابي ، فلما سمع الملك ذلك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشرهم ، فقبض الله أرواحهم وأعمى عليهم أثرهم فلم يهتدوا إليهم ، وذلك قوله عز وجل : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف ) أي : صاروا إلى الكهف ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا أي : اتخذه منزلاً إلى الكهف ، وهو غار في جبل بنجلوس واسم الكهف : خيرم . { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } . ومعنى الرحمة : الهداية في الدين . وقيل : الرزق ، { وهيئ لنا } يسر لنا { من أمرنا رشداً } أي : ما يلتمس من رضاك وما فيه رشدنا ، وقال ابن عباس : رشداً أي : مخرجاً من الغار في سلامة
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه عندما حطوا رحالهم فى الكهف فقال : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا : { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } .
و " إذ " هنا ظرف منصوب بفعل تقديره : اذكر .
و { أوى } فعل ماض - من باب ضرب - تقول : أوى فلان إلى مسكنه يأوى ، إذا نزله بنفسه . واستقر فيه .
و { الفتية } : جمع قلة لفتى . وهو وصف للإِنسان عندما يكون فى مطلع شبابه .
وقوله : { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } : من التهيئة بمعنى : تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة .
والمراد بالأمر هنا : ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم ، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة .
والرشد : الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه . وهو ضد الغى . يقال : رشد فلان يرشد رشدا ورشادا ، إذا أصاب الحق .
أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - للناس ليعتبروا ، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم ، تاركين كل شئ خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف ، واتخذوه مأوى لهم ، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين : يا ربنا آتنا من لدنك رحمة ، تهدى بها قلوبنا ، وتصلح بها شأننا ، وتردُّ بها الفتن عنا ، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذى نحن عليه - وهو : فرارنا بديننا . وثباتنا على إيماننا - ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك .
وقال - سبحانه - : { إِذْ أَوَى الفتية . . } بالإِظهار - مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة ، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم ، وعلى أنهم شباب فى مقتبل أعمارهم ، ومع ذلك ضحوا بكل شئ فى سبيل عقيدتهم .
والتعبير بالفعل { أوى } يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف . ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته ، وآثروه على مساكنهم المريحة ، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين .
والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً . . } يدل على أنهم بمجرد استقرارهم فى الكهف ابتهلوا إلى الله - تعالى - بهذا الدعاء الجامع لكل خير .
والتنوين فى قوله : { رحمة } : للتهويل والتنويع . أى : آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك . رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا . فهى تشمل الأمان فى المنزل ، والسعة فى الرزق ؛ والمغفرة للذنب .
قال القرطبى ما ملخصه : هذه الآية صريحة فى الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان . . خوف الفتنة ، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . . .
وقوله : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } يخبر تعالى عن أولئك الفتية ، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فَهَرَبوا منه فَلَجَؤُوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم : { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي : هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي : وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا ، أي : اجعل عاقبتنا رشدًا{[17996]} كما جاء في الحديث : " وما قضيت لنا من قضاء ، فاجعل عاقبته رشدًا " ، وفي المسند من حديث بُسْر بن أبي أرطاة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : " اللهم ، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبّنَآ آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبا حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل ، هربا بدينهم إلى الله ، فقالوا إذ أووه : رَبّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً رغبة منهم إلى ربهم ، في أن يرزقهم من عنده رحمة . وقوله : وَهَيّىءْ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَدا يقول : وقالوا : يسّر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك ، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا ، رَشَدا يقول : سَدادا إلى العمل بالذي تحبّ .
وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى ، وكان لهم ملك عابد وَثَن ، دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم ، أو يقتلهم ، فاستخفَوا منه في الكهف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو في قوله : أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِيمِ كانت الفِتية على دين عيسى على الإسلام ، وكان ملكهم كافرا ، وقد أخرج لهم صنما ، فأبَوا ، وقالوا : رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهه إلها لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال : فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله ، فقال أحدهم : إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه ، فانطلقوا بنا نكن فيه ، فدخلوه ، وفُقدوا في ذلك الزمان فطُلبوا ، فقيل : دخلوا هذا الكهف ، فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشدّ من أن نردم عليهم هذا الكهف ، فبنوه عليهم ثم ردموه . ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى ، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم ، فقال بعضهم لبعض : كَمْ لَبِثْتُمْ ؟ ف قالُوا لَبِثنْا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ . . . حتى بلغ فابْعَثُوا أحدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ وكان ورِق ذلك الزمان كبارا ، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب فلما ذهب ليخرج ، رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع ، ثم مضى حتى دخل المدينة ، فأنكر ما رأى ، ثم أخرج درهما ، فنظروا إليه فأنكروه ، وأنكروا الدرهم ، وقالوا : من أين لك هذا ؟ هذا من ورق غير هذا الزمان ، واجتمعوا عليه يسألونه ، فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم ، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون ، فنظروا في ذلك اللوح ، وسأله الملك ، فأخبره بأمره ، ونظروا في الكتاب متى فقد ، فاستبشروا به وبأصحابه ، وقيل له : انطلق بنا فأرنا أصحابك ، فانطلق وانطلقوا معه ، ليريهم ، فدخل قبل القوم ، فضرب على آذانهم ، فقال الذين غلبوا على أمرهم : لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : مَرِج أمر أهل الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك ، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم ، متمسكون بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ، ملك من الروم يقال له : دَقْيَنوس ، كان قد عبد الأصنام ، وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم . كان ينزل في قُرى الروم ، فلا يترك في قرية ينزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلا قتله ، حتى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتى نزل دقينوس مدينة الفِتية أصحاب الكهف فلما نزلها دقينوس كبر ذلك على أهل الإيمان ، فاستخْفَوا منه وهربوا في كلّ وجه . وكان دقينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيُجمعوا له ، واتخذ شُرَطا من الكفّار من أهلها ، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها ، فيستخرجونهم إلى دقينوس ، فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم بين القتل ، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ويُفْظَع بالقتل فيَفتِتن ، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله ، جعلوا يُسْلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ، ثم يربط ما قطع من أجسادهم ، فيعلّق على سور المدينة من نواحيها كلها ، وعلى كلّ باب من أبوابها ، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان ، فمنهم من كفر فُترك ، ومنهم من صُلب على دينه فقُتل فلما رأى ذلك الفِتية أصحاب الكهف ، حزنوا حزنا شديدا ، حتى تغيرت ألوانهم ، وَنحِلت أجسامهم ، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة ، والتحميد ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، والبكاء ، والتضرّع إلى الله ، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم .
فحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لقد حُدّثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورِق . قال ابن عباس : فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم ، يبكون إلى الله ، ويستغيثونه ، وكانوا ثمانية نفر مَكْسِلمينا ، وكان أكبرهم ، وهو الذي كلّم الملك عنهم ، ومَحْسيميلنينا ، ويَمليخا ، ومَرْطوس ، وكشوطوش ، وبيرونس ، ودينموس ، ويطونس قالوس فلما أجمع دقينوس أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، بكوا إلى الله وتضرّعوا إليه ، وجعلوا يقولون : اللهمّ ربّ السموات والأرض ، لن ندعو من دونك إلها لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك ، ومِنُعوا عبادتك إلا سرّا ، مستخفِينَ بذلك ، حتى يعبدوك علانية . فبينما هم على ذلك ، عرفهم عُرفاؤهم من الكفار ، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام ، والذبح للطواغيت ، وذكروا أمرهم ، وكانوا قد خَلَوا في مُصَلّى لهم يعبدون الله فيه ، ويتضرّعون إليه ، ويتوقّعون أن يُذْكَروا لدقينوس ، فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مُصَلاّهم ، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرّعون ، ويبكون ، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته فلما رآهم أولئك الكفرة من عُرفائهم قالوا لهم : ما خَلّفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه ثم خرجوا من عندهم ، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس ، وقالوا : تجمع الناس للذبح لاَلهتك ، وهؤلاء فِتية من أهل بيتك ، يسخَرون منك ، ويستهزئون بك ، ويعصُون أمرك ، ويتركون آلهتك ، يَعمِدون إلى مُصَلَى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم يصلون فيه ، ويتضرّعون إلى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى ، فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظَهرانْي سلطانك ومُلكك ، وهم ثمانية نفر : رئيسهم مكسلمينا ، وهم أبناء عظماء المدينة ؟ فلما قالوا ذلك لدقينوس ، بعث إليهم ، فأتى بهم من المصلّى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لاَلهتنا التي تُعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم ، ولمن حضر منّا من الناس ؟ اختاروا مني : إما أن تذبحوا لاَلهتنا كما ذبح الناس ، وإما أن أقتلكم فقال مكسلمينا : إن لنا إلها نبعده ملأ السموات والأرض عَظَمتُه ، لن ندعو من دونه إلها أبدا ، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبدا ، ولكنا نعبد الله ربنا ، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا ، إياه نعبد ، وإياه نسأل النجاة والخير ، فأما الطواغيت وعبادتها ، فلن نقرّ بها أبدا ، ولسنا بكائنين عُبّادا للشياطين ، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عُبادا لها ، بعد إذ هدانا الله له رهبتَك ، أو فَرَقا من عبودتك ، اصنع بنا ما بدا لك ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقينوس مثل ما قال . قال : فلما قالوا ذلك له ، أمر بهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم ، ثم قال : أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي ، وأهل بلادي ، وسأفرُغ لكم ، فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجّل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانُكم ، ولا أحبّ أن أهلككم حتى أستأنَي بكم ، وأنا جاعل لكم أجلاً تَذكرون فيه ، وتراجعون عقولكم . ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة ، فُنزعت عنهم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده . وانطلق دقينوس مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره .
فلما رأى الفِتية دقينوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم ، فأتمروا بينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بيت أبيه ، فيتصدّقوا منها ، ويتزوّدوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له : بنجلوس فيمكثوا فيه ، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس أتوه فقاموا بين يديه ، فيصنع بهم ما شاء . فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كلّ فتى منهم ، فأخذ من بيت أبيه نفقة ، فتصدّق منها ، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، واتبعهم كلّب لهم ، حتى أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل ، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ، ابتغاء وجه الله تعالى ، والحياة التي لا تنقطع ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يُقال له يمليخا ، فكان على طعامهم ، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا من أهلها وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم ، فكان يمليخا يصنع ذلك ، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثم يأخذ وَرِقَه ، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ، ويتسمّع ويتجسّس لهم الخبر ، هل ذكر هو وأصحابه بشيء من ملإ المدينة ، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم ، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس ، فلبثوا بذلك ما لبثوا .
ثم قدم دقينوس الجبّار المدينة التي منها خرج إلى مدينته ، وهي مدينة أَفْسوس فأمر عظماء أهلها ، فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، فتخبأوا من كلّ مخبأ وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذُكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت فلما أخبرهم بذلك ، فزعوا فزعا شديدا ، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله ، ويتضرّعون إليه ، ويتعوّذون به من الفتنة ثم إن يمليخا قال لهم : يا إخوتاه ، ارفعوا رؤوسكم ، فاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به ، وتوكلوا على ربكم فرفعوا رؤوسهم ، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوّفا على أنفسهم ، فطعموا منه ، وذلك مع غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم ، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر .
فبيناهم على ذلك ، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون ، مصدّقون بالوعد ، ونفقتهم موضوعة عندهم فلما كان الغد فقدهم دقينوس ، فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لعظماء أهل المدينة : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا . لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أوّل شأنهم ، لجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي ، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، ولو فعلوا لتركتهم ، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم . فقال له عظماء أهل المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مرَدة عُصاة ، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنتَ أجّلتهم أجلاً ، وأخّرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم ، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينزعوا ولم يندموا على ما فعلوا ، وكانوا منذ انطلقت يبذّرون أموالهم بالمدينة فلما علموا بقدومك فرّوا فلم يُروا بعد . فإن أحببت أن تُؤْتَى بهم ، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم ، واشدُد عليهم يدُلوك عليهم ، فإنهم مختبئون منك .
فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار ، غضب غضبا شديدا ، ثم أرسل إلى آبائهم ، فأتى بهم فسألهم عنهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري ، وتركوا آلهتي ائتوني بهم ، وأنبئوني بمكانهم فقال له آباؤهم : أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك . قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم ، فلم تقتلنا في قوم مَرَدة ، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا ، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس ، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هَربا منك ؟ فلما قالوا ذلك خلّى سبيلهم ، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفِتية ، فألقى الله عزّ وجلّ في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسدّ عليهم كرامة من الله ، أراد أن يكرمهم ، ويكرم أجساد الفتية ، فلا يجول ، ولا يطوف بها شيء ، وأراد أن يحييهم ، ويجعلهم آية لأمة تُستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور . فأمر دقينوس بالكهف أن يسدّ عليهم ، وقال : دعوا هؤلاء الفتية المَرَدة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا ، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ففعل بهم ذلك عدوّ الله ، وهو يظنّ أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد تَوّفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، قد غَشّاه الله ما غشاهم ، يُقلّبون ذات اليمين وذات الشمال .
ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس يكتمان إيمانهما : اسم أحدهما بيدروس ، واسم الاَخر : روناس ، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف ، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم ، وقصة خبرهم في لوحين من رَصاص ، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس ، ثم يجعلا اللوحين فيه ، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان ، ويختما على التابوت بخاتمهما ، وقالا : لعلّ الله أن يُظْهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ، ففعلا ثم بنيا عليه في البنيان ، فبقي دقينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا ، ثم هلك دقينوس والقرن الذي كانوا معه ، وقرون بعده كثيرة ، وخلفت الخلوف بعد الخلوف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم ، وأهل شرفهم ، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال رجل منهم هو أسنهم : إني لأجد في نفسي شيئا ما أظنّ أن أحدا يجده ، قالوا : ماذا تجد ؟ قال : أجد في نفسي أن ربي ربّ السموات والأرض ، وقالوا : نحن نجد . فقاموا جميعا ، فقالوا : رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُو مِنْ دُونِهِ إلَها لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطا ، فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف ، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس ، فلبثوا في الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا رقدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : كان أصحاب الكهف فتيانا ملوكا مُطَوّقين مُسَوّرين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم ، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب ، وأخرجوا معهم آلهتم التي يعبدون . وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا ، وأخفى كلّ واحد منهم الإيمان عن صاحبه ، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم . فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظلّ شجرة ، فجلس فيه ، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه ، فجاء حتى جلس إليه ، ثم خرج الاَخرون ، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، فاجتمعوا ، فقال بعضهم : ما جمعَكم ؟ وقال آخر : بل ما جمعكم ؟ وكلّ يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه ، ثم قالوا : ليخرج منكم فَتَيان ، فيخْلُوَا ، فيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما على صاحبه ، ثم يفشي كلّ واحد منهما لصاحبه أمره ، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد . فخرج فَتَيان منهم فتواثقا ، ثم تكلما ، فذكر كلّ واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشَرين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد ، فإذا هم جميعا على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : ائتوا إلى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيّىءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ، فجعله الله عليهم رقدة واحدة ، فناموا ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا . قال : وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد ، فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم . فلما لم يقدروا عليهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان ابن فلان ، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا ، فَقَدناهم في عيد كذا وكذا في شهر كذا وكذا في سنة كذا وكذا ، في مملكة فلان ابن فلان ورفعوا اللوح في الخزانة . فمات ذلك الملك وغلب عليهم ملك مسلم مع المسلمين ، وجاء قرن بعد قرن ، فلبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا .
وقال آخرون : بل كان مصيرهم إلى الكهف هربا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى على صاحب لهم أنه جناها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن شروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : جاء حواريّ عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلاّ سجد له . فكره أن يدخلها ، فأتى حَمّاما ، فكان فيه قريبا من تلك المدينة ، فكان يعمل فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام . ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودرّ عليه الرزق ، فجعل يعرض عليه الإسلام ، وجعل يسترسل إليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الاَخرة ، حتى آمنوا به وصدّقوه ، وكانوا على مثل حاله في حُسْن الهيئة . وكان يشترط على صاحب الحمّام أن الليل لي لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة ، فدخل بها الحمام ، فعيّره الحواريّ ، فقال : أنت ابن الملك ، وتدخل معك هذه النكداء ؟ فاستحيا ، فذهب فرجع مرّة أخرى ، فقال له مثل ذلك ، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخل ودخلت معه المرأة ، فماتا في الحمام جميعا . فأتى الملك ، فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتُمس ، فلم يقدر عليه هرَبا ، قال : من كان يصحبه ؟ فسموا الفتية ، فالتُمسوا ، فخرجوا من المدينة ، فمرّوا بصاحب لهم في زرع له ، وهو على مثل أمرهم ، فذكروا أنهم التُمسوا ، فانطلق معهم الكلب ، حتى أواهم الليل إلى الكهف ، فدخلوه ، فقالوا : نبيت ههنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم ، فضرب على آذانهم . فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد رجل أن يدخل أُرعب ، فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف ، ودعهم فيه يموتوا عطشا وجوعا ، ففعل .
{ إذ أوى الفتية إلى الكهف } يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا إلى الكهف ، { فقالوا ربنا آتنا من لدُنك رحمةً } توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو . { وهيّئ لنا من أمرنا } من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار . { رشدا } نصيرا بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا كله رشدا كقولك : رأيت منك أسدا وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء .
{ الفتية } فيما روي ، قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقليوس ، ويقال دقينوس ، وروي أنهم كانوا مطوقين بالذهب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى ، وقيل كانوا قبل عيسى ، وأما أسماؤهم فهي أعجمية ، والسند في معرفتها واه ، ولكن التي ذكر الطبري هي هذه ، مكسيليمنيا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومجسيلينيا وتمليخا وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، مرطوس وكشوطونس ، وبيرونس ، ودينموس ، ويطونس{[7753]} ، واختلف الرواة في قصص هؤلاء الفتية وكيف كان اجتماعهم وخروجهم إلى الكهف ؟ وأكثر المؤرخون في ذلك ، ولكن نختصر من حديثهم ونذكر ما لا تستغني الآية عنه ، ونذكر من الخلاف عيونه بحول الله ، روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة فوقع للفتية علم من بعض النحويين حسب ما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم بحسب الخلاف الذي ذكرناه ، فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ، فرفع أمرهم إلى الملك ، وقيل له إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك في مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ، فقالوا له فيما روي { ربنا رب السماوات والأرض } [ الكهف : 14 ] إلى قوله { وإذ اعتزلتموهم } [ الكهف : 16 ] ، وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم ، بل أستأني ، فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلاً ، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم إني أعرف كهفاً في جبل كذا كان أبي يدخل فيه غنمه ، فلنذهب إليه فنختفي فيه حتى يفتح الله لنا ، فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم ، وقيل إنهم كانوا مثقفين فحضر عيد أخرجوا له فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا في اللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك ، وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم كانوا من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتيان ما يمتثله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام والذبح لها ، فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة الناس لئلا ينالهم العذاب معهم ، فزايلوا الناس ، وذهبوا إلى الكهف ، وروى وهب بن منبه أن أمرهم إنما كان أن حوارياً لعيسى ابن مريم ، جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فآجر نفسه من صاحب الحمام فكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة ، فنشر فيهم الإيمان وعرفهم الله تعالى ، فآمنوا واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ، فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة بغي أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاءه مرة أخرى فنهاه فشتمه وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعاً ، فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتله ، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف ، وقال عبيد بن عمير : إن أصحاب الكهف كانوا فتية أبناء العظماء مطوقين مسورين ذوي ذوائب قد داخلهم الإيمان أفذاذاً{[7754]} ، وأزمع واحد منهم الفرار بدينه من بلد الكفر ، فأخرجهم الله في يوم واحد لما أراده بهم ، فخرج أحدهم فجلس في ظل شجرة على بعد من المدينة ، فخرج ثان ، فلما رأى الجالس جلس إليه ، ثم الثالث ثم الباقون حتى كمل جميعهم في ظل الشجرة ، فألقى الله في نفوسهم أن غرضهم واحد ، فتساءلوا ، ففزع بعضهم من بعض وتكتموا ، ثم تراضوا برجلين منهم ، وقالوا لنفرد أو تواثقا وليفش كل واحد منكما سره إلى صاحبه ، فإن اتفقتما كنا معكما ، فنهضا بعيداً وتكلما فأفصحا بالإيمان والهروب بالدين فرجعا وفضحا الأمر وتابعهما الآخرون ونهضوا إلى الكهف ، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم ، وذهب الكلب معهم ، واسم الكلب حمران ، وقل قطير ، فدخلوا الغار على جميع هذه الأقوال فروت فرقة أن الله عز وجل «ضرب على آذانهم » عند ذلك لما أراده من سترهم ، وخفي على أهل المملكة مكانهم ، وعجب الناس من غرابة فقدهم ، فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من رصاص أو نحاس ، وجعلوه على باب المدينة فيه اسماؤهم وأسماء آبائهم وذكر شرفهم ، وأنهم فقدوا بصورة كذا في وقت كذا ، وقيل إن الذي كتب هذا وتهمم به رجلان قاضيان مؤمنان يكتمان إيمانهما من أهل بيت المملكة ، وتسترا بذلك ودفنا اللوحين عندهما : وقيل على الرواية بأن الملك أتى باب الغار ، وأنهما دفنا ذلك في بناء الملك على الغار ، وروت فرقة أن الملك لما ذهب الفتية أمر بقص آثارهم ، فانتهى ذلك بمتبعيهم إلى باب الغار ، فعرف الملك ، فركب في جنده حتى وقف عليه ، فأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك ، فقال له بعض وزرائه ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم ، قال نعم ، قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش ، ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه ، ففعل ، وقد «ضرب الله على آذانهم » قبل ذلك لما أراد من تأمينهم ، وأرخ الناس أمرهم في اللوحين ، أو أرخه الرجلان بحسب الخلاف ، واسم أحد الرجلين فيما ذكر الطبري بندروس ، واسم الآخر روناس ، وروي أن هذا الملك الذي فر الفتية من دينه ، كان قد امتحن الله به المؤمنين حيث أحس بهم ، يقتلهم ويعلقهم أشخاصاً ورؤوساً على أسوار مدينته ، وكان يريد أن يذهب فيما ذكر ، دين عيسى ، وكان هو وقومه من الروم ، ثم أخبر الله تعالى عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام ، دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة ، وهي الرزق فيما ذكر المفسرون ، وأن يهيىء لهم من أمرهم { رشداً } أي خلاصاً جميلاً ، وقرأ الجمهور «رَشَداً » بفتح الراء والشين ، وقرأ أبو رجاء «رُشْداً » بضم الراء وسكون الشين ، والأولى أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم ، وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط ، فإنها كافية ، ويحتمل ذكر «الرحمة » أن يراد بها أمر الآخرة وقد اختصرت هذا القصص ، ولم أغفل من مهمه شيئاً بحسب اجتهادي ، والله المعين برحمته .
( إذ ) ظرف مضاف إلى الجملة بعده ، وهو متعلق ب { كانوا } [ الكهف : 9 ] فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها .
ويجوز كون الظرف متعلقاً بفعل محذوف تقديره : اذكر ، فتكون مستأنفة استئنافاً بيانياً للجملة التي قبلها . وأياً ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء ، تنبيهاً على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله ، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييداً لهم لأجل إيمانهم ، فلذلك عطف عليه قوله : { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } .
وأوى أُوِياً إلى المكان : جعله مسكناً له ، فالمكان : المَأْوَى . وقد تقدم عند قوله تعالى : { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } في سورة يونس ( 8 ) .
والفتية : جمع قلة لفتى ، وهو الشاب المكتمل . وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف . والمراد بالفتية : أصحاب الكهف . وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إذ أووا ، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن . وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي ، وثبات الجأش ، والدفاع عن الحق ، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل : إذ أووا إلى الكهف .
ودلت الفاء في جملة فقالوا } على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله .
ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه ، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة ، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به ، فزيادة { من لدنك } للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك ، لأن في ( من ) معنى الابتداء وفي ( لدن ) معنى العندية والانتساب إليه ، فذلك أبلغ مما لو قالوا : آتنا رحمة ، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله ، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها ، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة ، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً ، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين .
ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين . فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء .
و ( من ) في قوله : { من أمرنا } ابتدائية .
والأمر هنا : الشأن والحال الذي يكونون فيه ، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك . وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم . فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم ، وأن ألهمهم موضع الكهف ، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمةً ، وأن أنامهم نوماً طويلاً ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة ، وحصل رَشَدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصوراً متبعاً ، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث .
والرَّشد بفتحتين : الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح ، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني . والرُشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرَّشَد . وغلب في حسن تدْبير المال . لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } في البقرة ( 256 ) ، وقوله : { فإن آنستم منهم رشداً } في سورة النساء ( 6 ) فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء .
ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي : { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } [ الكهف : 24 ] : أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل ؛ ألا ترى أن الجمهور قرؤوا قوله في هذه السورة : { على أن تعلمني مما علمت رشدا } [ الكهف : 66 ] بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي { من لدنا علماً } [ الكهف : 65 ] { معي صبراً } [ الكهف : 67 ] { ما لم تحط به خُبرا } [ الكهف : 68 ] { ولا أعصي لك أمراً } [ الكهف : 69 ] إلى آخره . ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبا" حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: "رَبّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً "رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة.
وقوله: "وَهَيّئ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَدا" يقول: وقالوا: يسّر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، "رَشَدا" يقول: سَدادا إلى العمل بالذي تحبّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة} (قال الحسن: {آتنا من لدنك رحمة} أي حسنة {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي تيسيرا. وهو ما ذكر في قوله: {ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} (الكهف: 16)...
وقال بعضهم: قوله: {آتنا من لدنك رحمة} أي رزقا... {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا أنهم عرفوا سعة المفارقة للدين، ولكن لم يعرفوا سعة تلك إذا كان فيها خوف هلاك أنفسهم، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد و الصواب. ويحتمل {آتنا من لدنك رحمة} نعمة وسعة {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} من أمر ديننا صوابا؛ يقول: {آتنا من لدنك رحمة} دينا {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} صوابا...
فيه الدلالة على أن على الإنسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه... ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم؛ لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الاستحسان لما كان منهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
آواهم إلى الكهف بظاهرهم، وفي الباطن فهو مُقِيلُهم في ظلِّ إقباله وعنايته، ثم أخذهم عنهم، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم. وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله. {رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيْئ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَداً}: أي أنهم أَخذُوا في التبرِّي مِنْ حَوْلِهم وقُوَّتِهم، ورجعوا إلى الله بِصِدْق فَاقتِهم، فاستجاب لهم دعوتَهم، ودفع عنهم ضرورتَهم، وبَوَّأَهم في كنف الإيواء مقيلاً حسناً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء {وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رَشَدًا} حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشداً كله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة...
{إذ أوى الفتية إلى الكهف}... والتقدير: اذكر إذ أوى...
{ربنا آتنا من لدنك رحمة} أي رحمة من... جلائل... فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر...
{من لدنك} يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما صغر أمرهم بالنسبة إلى جليل آياته وعظيم بيناته وغريب مصنوعاته، لخص قصتهم التي عدوها عجباً وتركوا الاستبصار على وحدانية الواحد القهار بما هو العجب العجيب، والنبأ الغريب، فقال تعالى: {إذ أوى} أي كانوا على هذه الصفة حين أووا، ولكنه أبرز الضمير لبيان أنهم شبان ليسوا بكثيري العدد فليست لهم أسنان استفادوا بها من التجارب والتعلم ما اهتدوا إليه من الدين والدنيا، ولا كثرة حفظوا بها ممن يؤذيهم أيقاظاً ورقوداً فقال تعالى: {الفتية} وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم، والشبان أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ {إلى الكهف} المقارب لقريتهم المشهور ببلدتهم فراراً بدينهم كما أويت أنت والصديق إلى غار ثور فراراً بدينكما {فقالوا} عقب استقرارهم فيه: {ربنا ءاتنا} ولما كانت الموجودات -كما مضى عن الحرالي في آل عمران- على ثلاث رتب: حكميات جارية على قوانين العادات، وعنديات خارقة للمطردات ولدنيات مستغرقة في الأمور الخارقات، طلبوا أعلاها فقالوا: {من لدنك} أي من مستبطن الأمور التي عندك ومستغربها {رحمة} أي إكراماً تكرمنا به كما يفعل الراحم بالمرحوم {وهيىء لنا} أي جميعاً لا تخيب منا أحداً {من أمرنا رشداً} أي وجهاً ترشدنا فيه إلى الخلاص في الدارين، لا جرم صارت قصتهم على حسب ما أجابهم ربهم بديعة الشأن فردة في الزمان، يتحدث بها في سائر البلدان، في كل حين وأوان...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن، والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر {مِن لَّدُنْكَ} إيماءً إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة {رَشَدًا}: إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداءً إليه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالفتية: أصحاب الكهف، وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: إذ أووا إلى الكهف. ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {من لدنك} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين. ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء. و (من) في قوله: {من أمرنا} ابتدائية. والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
عرفهم القرآن الكريم بأوصافهم، وأول وصف من هذه الأوصاف أنهم فتية جمع فتى، أي أنهم شبان في باكورة أعمارهم، نفوسهم غضة لم ترهقها الأوهام، ولا العادات والتقاليد، ومورثات الآباء العتيقة التي عششت في رؤوس من قبلهم، بل إنهم على الفطرة السليمة، والشباب دائما أسرع الناس إلى الحق إن لم يكن في توجيههم ما يعوق عنه أو يسدّ الحجاب دونه... هذا هو الوصف الأول الذي وصف الله به أهل الكهف، أما الوصف الثاني، وهي نتيجة لسلام الطوية أنهم اتجهوا إلى الله تعالى بقلب محس بقدرة الله ومعجزته، وبأنه سبحانه وتعالى المنعم الهادي دون غيره فقالوا: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا} نادوا ربهم قائلين، {ربنا}، أي الذي خلقتنا وكونتنا وطهّرت قلوبنا، وخلّصت نفوسنا من الشرك وأوهامه، {آتنا من لدنك}، من حضرتك القدسية، وخزائنك التي لا تنفد، {رحمة} وإنعاما وتوفيقا، وسلوكا مستقيما ودواما للتوفيق. ورحمة الله وسعت كل شيء وهي تعم كل حياة الإنسان، والدعوة الثانية المنبعثة من إيمان عميق موجه، وإذعان صادق يملأ القلب نورا، {وهيئ لنا من أمرنا رشدا}، أي الأمر الذي اخترناه لأنفسنا من الإيمان في وسط الوثنية، والرشد هو إدراك الأمور إدراكا مستقيما لا عوج فيه، وهذا الطريق المستقيم يقتضي تجنب الشرك وطلب الحق، والابتعاد عن كل مهاوي الرذيلة، والاتجاه إلى طريق الفضيلة ومحاسن الأخلاق، وألا يكون شطط ولا إفراط، ولا تفريط، إلا أن يدفع إلى ذلك الحق وتجنب الهوى...
يظهر أن أولئك الفتية طوردوا حتى أووا إلى الكهف، فالإيواء لا يكون إلا عن منازعة يحسون فيها بأنهم لا قبل لهم بمن يريدون أن يفتنوهم عن دينهم، وقد كان ذلك واقعا في عهد اضطهاد النصارى، كما أشرنا وكما بينا في غير هذا الكتاب...
(أوى) من المأوى، وهو المكان الذي يأوي الهي الإنسان ويلجأ إليه (الفتية) جمع فتى، وهو الشاب في مقتبل العمر، والشباب هم معقد الآمال في حمل الأعباء والنهوض بكل أمر صعب، وهؤلاء شباب مؤمن وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك، فالفتاء فيهم فتاء إيمان وعقيدة. لذلك لجأوا إلى الكهف مخلفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون، وفروا بدينهم إلى هذا المكان الضيق الخالي من أي مقوم من مقومات الحياة؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بهذه المقومات، بل يعلمون أن لهم رباً سيتولى أمرهم؛ لذلك ضرعوا إليه قائلين: {ربنا آتنا من لدنك رحمة}: أي: رحمة من عندك، أنت ترحم بها ما نحن فيه من انقطاع عن كل مقومات الحياة، فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر، الرحمن هنا لا تكون إلا من الله: {وهيئ لنا من أمرنا رشداً}: أي: يسر لنا طريقاً سديداً للخير وللحق. إن هؤلاء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرعوا واتجهوا إلى ربهم، فهو وحده القادر على أن يوسع عليهم هذا الضيق، كما قال تعالى: {فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا "43 "} (سورة الأنعام).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} وهذا ما قد يحتاج العاملون في سبيل الله إلى استلهامه في أوقات الشدّة ومواضع الحيرة، عندما تضغط عليهم القوى الكافرة والطاغية بضغوطها الوحشية والهمجية، ويتحيّرون في مفترق الطرق، فلا يعرفون إلى أين يسيرون. إن الرجوع إلى الله في طلب الرحمة، وتهيئة سبيل الرشاد، يمنح المؤمنين العاملين قدراً كبيراً من الاستقرار الروحي، والطمأنينة النفسية، والهدوء الفكري، والثقة بالمستقبل... من خلال الثقة بالله، والاطمئنان إليه، والركون إلى ساحته الحصينة... وبذلك يمكنهم مواصلة الطريق نحو الهدف الكبير، بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تحيط بهم من كل جانب.