101- واتجه يوسف إلى اللَّه ، يشكره بإحصاء نعمه عليه ، ويرجوه المزيد من فضله ، قائلا : يا رب ما أكثر نعمك علىَّ ، وما أعظمها ، لقد منحتني من الملك ما أحمدك عليه ، ووهبتني من العلم بتفسير الأحلام ما وهبت ، يا خالق السماوات والأرض وبارئهما ، أنت مالك أمري ومتولي نعمتي في محياي وبعد مماتي ، اقبضني إليك على ما ارتضيت لأنبيائك من دين الإسلام ، وأدخلني في زمرة من هديتهم إلى الصلاح من آبائي وعبادك الصالحين المخلصين .
فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله علم أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حسن العاقبة { رب قد آتيتني من الملك } ، يعني : ملك مصر ، والملك : اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير { وعلمتني من تأويل الأحاديث } يعني : تعبير الرؤيا { فاطر } ، أي : يا فاطر { السماوات والأرض } أي : خالقهما { أنت وليي } أي : معيني ومتولي أمري { في الدنيا والآخرة توفني مسلماً } يقول اقبضني إليك مسلما ، { وألحقني بالصالحين } يريد بآبائي النبيين . قال قتادة : لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف . وفي القصة : لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه عز وجل فقال هذه المقالة . قال الحسن : عاش بعد هذا سنين كثيرة . وقال غيره : لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي . واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه ، فقال الكلبي : اثنتان وعشرون سنة . وقيل : أربعون سنة . وقال الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين ، وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد : أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلى عليه السلام . وقيل : عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة . قيل : أكثر . واختلفت الأقاويل فيه . وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاح الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته ، حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم . وقال عكرمة : دفن في الجانب الأيمن من النيل ، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ، فدفنوه في وسطه وقدروا ذلك بسلسة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام .
ثم ختم يوسف - عليه السلام - ثناءه على الله - تعالى - بهذا الدعاء الذي حكاه القرآن عنه في قوله : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } أى : يا رب قد أعطيتنى شيئاً عظيماً من الملك والسلطان بفضلك وكرمك .
{ وَعَلَّمْتَنِي } - أيضاً - شيئاً كثيراً { مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أى : من تفسيرها وتعبيرها تعبيراً صادقاً بتوفيقك وإحسانك .
{ فَاطِرَ السماوات والأرض } أى : خالقهما على غير مثال سابق ، وهو منصوب على النداء بحرف مقدر أى : يا فاطر السموات والأرض .
{ أَنتَ وَلِيِّي } وناصرى ومعينى { فِي الدنيا والآخرة } .
{ تَوَفَّنِي } عندما يدركنى أجلى على الإِسلام ، وأبقنى { مُسْلِماً } مدة حياتى .
{ وَأَلْحِقْنِي } في قبرى ويوم الحساب { بالصالحين } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
وبهذا الدعاء الجامع الذي توجه به يوسف إلى ربه - تعالى - يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم وهو دعاء يدل على أن يوسف - عليه السلام - لم يشغله الجاه والسلطان ولم يشغله لقاؤه عن طاعة ربه ، وعن تذكر الآخرة وما فيها من حساب . .
وهذا هو شأن المصطفين الأخيار الذين نسأل الله - تعالى - أن يحشرنا معهم ، ويحلقنا بهم ، ويوفقنا للسير على نهجهم . . .
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير ، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان ، والرغد والأمان . . . ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر ! كل دعوته - وهو في أبهة السلطان ، وفي فرحة تحقيق الأحلام - أن يتوفاه ربه مسلما وأن يلحقه بالصالحين :
( رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة . توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) . .
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله . فذلك من نعمة الدنيا .
( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) . .
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها . فذلك من نعمة العلم .
نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها . .
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها ، ولك القدرة عليها وعلى أهلها . .
( أنت وليي في الدنيا والآخرة ) . .
رب إني لا أسألك سلطانا ولا صحة ولا مالا . رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى :
( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) . .
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان ، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان . ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه ، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه .
هذا دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عز وجل ، لما تمت النعمة عليه ، باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما مَنَّ الله به عليه من النبوة والملك ، سأل ربه عز وجل ، كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه . قاله الضحاك ، وأن يلحقه بالصالحين ، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين ، صلوات الله وسلامه [ عليه و ]{[15315]} عليهم أجمعين .
وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف ، عليه السلام ، قاله عند احتضاره ، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت ، ويقول : " اللهم في الرفيق الأعلى ، اللهم في الرفيق الأعلى ، اللهم في الرفيق الأعلى " {[15316]} .
ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله ، وانقضى عمره ؛ لا أنه سأل ذلك منجزا ، كما يقول الداعي لغيره : " أماتك الله على الإسلام " . ويقول الداعي : " اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين " .
ويحتمل أنه سأل ذلك منجزًا ، وكان ذلك سائغا في ملتهم ، كما قال قتادة : قوله : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } لما جمع الله شمله وأقر عينه ، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها ، فاشتاق{[15317]} إلى الصالحين قبله ، وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف ، عليه السلام .
وكذا ذكر ابن جرير{[15318]} والسدي عن ابن عباس : أنه أول نبي دعا بذلك . وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام . كما أن نوحا أول من قال : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا } [ نوح : 28 ] ويحتمل أنه أول من سأل نجاز ذلك ، وهو ظاهر سياق قتادة ، ولكن هذا لا يجوز{[15319]} في شريعتنا .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به ، فإن كان لا بدّ{[15320]} متمنيا الموت فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي " {[15321]} .
[ ورواه البخاري ومسلم ، وعندهما : " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد ، وإما مسيئا فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي " {[15322]} ] {[15323]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا مُعُان بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّرنا ورقَّقنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء ، فقال : يا ليتني مت ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد أعندي تتمنى الموت ؟ " فردَّد ذلك [ ثلاث ]{[15324]} مرات ثم قال : " يا سعد ، إن كنت خلقت للجنة ، فما طال{[15325]} عمرك ، أو حَسُن من عملك ، فهو خير لك " {[15326]} وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو يونس - هو سُلَيم بن جُبير - عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : " لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعوَن{[15327]} به من قبل أن يأتيه ، إلا أن يكون قد وَثق بعمله ، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره{[15328]} إلا خيرًا " تفرد به أحمد{[15329]} وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به ، أما إذا كان{[15330]} فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت ، كما قال الله تعالى إخبارًا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهدَّدهم بالقتل قالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ] وقالت مريم لما أجاءها المخاض ، وهو الطلق ، إلى جذع النخلة { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } [ مريم : 23 ] لما تعلم من أن الناس يقذفونها بالفاحشة ؛ لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت وولدت ، فيقول القائل أنى لها هذا ؟ ولهذا واجهوها أولا بأن قالوا : { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } [ مريم : 27 ، 28 ] فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا ، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله ، وكان{[15331]} آية عظيمة ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه{[15332]} وفي حديث معاذ ، الذي رواه الإمام أحمد والترمذي ، في قصة المنام والدعاء الذي فيه : " وإذا أردت بقوم فتنة ، فتوفني إليك غير مفتون " {[15333]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة ، أنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمرو عن{[15334]} عاصم عن{[15335]} عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اثنتان يكرههما ابن آدم الموت ، والموت خير
للمؤمن [ من الفتنة ]{[15336]} ويكره قلة المال ، وقلة المال أقل للحساب " {[15337]} .
فعند حُلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال : اللهمَّ ، خذني إليك ، فقد سئمتهم وسئموني .
وقال البخاري ، رحمه الله ، لما وقعت له تلك المحن وجرى له ما جرى مع أمير خراسان : اللهم توفني إليك .
وفي الحديث : " إن الرجل ليمر بالقبر - أي في زمان الدجال - فيقول : يا ليتني مكانك " {[15338]} لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون .
قال أبو جعفر بن جرير : وذُكِرَ أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم وعفا عنهم ، وغفر لهم ذنوبهم .
[ ذكر من قال ذلك ]{[15339]} :
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن ، حدثني حجاج ، عن صالح المري ، عن يزيد الرَّقاشي ، عن أنس بن مالك قال : إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله ، وأقر عينه{[15340]} خلا ولدُه نجيًا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم ، وما لقي منكم الشيخ ، وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى . قال : فيغرّكم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدًا ، قالوا : يا أبانا ، إنا أتيناك في أمر ، لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله . حتى حَرَّكوه ، والأنبياء ، عليهم السلام ، أرحم البرية ، فقال : ما لكم يا بَنيّ ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك ، وما كان منا إلى أخينا يوسف ؟ قال : بلى . قالوا : أو لستما قد عَفَوتما ؟ قالا بلى . قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا ، إن كان الله لم يعف عنا . قال : فما تريدون يا بني ؟ قالوا : نُريدُ أن تدعوَ الله لنا ، فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرّت أعيننا ، واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قُرّة عين في الدنيا أبدًا لنا . قال : فقام الشيخ فاستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلَّة خاشعين . قال : فدعا وأمَّن يوسف ، فلم يُجبْ فيهم عشرين سنة - قال صالح المري{[15341]} يخيفهم - قال : حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل ، عليه السلام ، على يعقوب فقال : إن الله بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وأنه قد عفا عما
صنعوا ، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة{[15342]} .
هذا الأثر موقوف عن أنس ، ويزيد الرقاشي وصالح المري{[15343]} ضعيفان جدا .
وذكر السدي : أن يعقوب ، عليه السلام ، لما حضره الموت ، أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات صَبَّره وأرسله إلى الشام ، فدفن عندهما ، عليهم{[15344]} السلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنتَ وَلِيّي فِي الدّنُيَا وَالاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته ، وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة ، ومكنه في الأرض ، متشوّقا إلى لقاء آبائه الصالحين : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ يعني : من ملك مصر ، وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ يعني من عبارة الرؤيا ، تعديدا لنعم الله وشكرا له عليها . فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : يا فاطر السموات والأرض ، يا خالقها وبارئها ، أنْتَ وَلِيّي في الدّنْيَا والاَخِرَةِ يقول : أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك ، وتغذوني فيها بنعمتك ، وتليني في الاَخرة بفضلك ورحمتك . تَوَفّنِي مُسْلِما يقول : اقبضني إليك مسلما . وألْحِقْنِي بالصّالْحِينَ يقول : وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك .
وقيل : إنه لم يتمنّ أحد من الأنبياء الموت قبل يوسف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْك وعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ . . . الآية ، كان ابن عباس : يقول : أوّل نبيّ سأل الله الموت يوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ربّ قَد آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ . . . الآية ، قال : اشتاق إلى لقاء ربه ، وأحبّ أن يلحق به وبآبائه ، فدعا الله أن يتوفاه ويلحقه بهم ، ولم يسأل نبيّ قط الموت غير يوسف ، فقال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأوِيلِ الأحادِيث . . . الآية . قال ابن جريج : في بعض القرآن من الأنبياء من قال : توفني .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تَوَفّنِي مُسْلِما وألحقِنْي بالصالِحِينَ لما جمع شمله ، وأقرّ عينه ، وهو يومئذٍ مغموس في نعيم الدنيا وملكها وغضارتها ، فاشتاق إلى الصالحين قبله . وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبيّ قط الموت قبل يوسف .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : لما جمع ليوسف شمله ، وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربه فقال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيّي فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ قال قتادة : ولم يتمنّ الموت أحد قط نبيّ ولا غيره إلا يوسف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثني غير واحد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم لما جمع بينه وبين أبيه وإخوته ، وهو يومئذٍ ملك مصر ، اشتاق إلى الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ، قال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيّي فِي الدّنيْا والاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ قال : العبارة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ يقول : توفني على طاعتك ، واغفر لي إذا توفيتني .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته حين جمع الله له شمله ، وردّه على والده ، وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة : يا أبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْياىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا . . . إلى قوله : إنّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ . ثم ارعوى يوسف ، وذكر أن ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب ، فقال : رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السّمَوَاتِ والأرْضِ أنْتَ وَلِيّي في الدّنْيا والاَخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِما وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ .
وذكر أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنبهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن صالح المري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال : إن الله تبارك وتعالى بما جمع ليعقوب شمله ، وأقرّ عينه ، خلا وُلدُه نجيّا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى . قال : فيغركم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم ؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ، ويوسف إلى جنب أبيه قاعد ، قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في أمر مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه ، والأنبياء أرحم البرية ، فقال : مالكم يا بنيّ ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف ؟ قال : بلى . قالوا : أفلستما قد عفوتما ؟ قالا : بلى . قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا إن كان الله لم يعف عنا . قال : فما تريدون يا بنيّ ؟ قالوا : نريد أن تدعو الله لنا ، فإذا جاءك الوحي من عند الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرّت أعيننا واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قرّة عين في الدنيا لنا أبدا . قال : فقام الشيخ واستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلة خاشيعن . قال : فدعا وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة قال صالح المري : يخيفهم قال : حتى إذا كان رأس العشرين ، نزل جبرئيل صلى الله عليه وسلم على يعقوب عليه السلام ، فقال : إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وأنه قد عفا عما صنعوا ، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجَونيّ ، قال : والله لو كان قتل يوسف مضى لأدخلهم الله النار كلهم ، ولكن الله جلّ ثناؤه أمسك نفس يوسف ليبلغ فيه أمره ورحمة لهم . ثم يقول : والله ما قصّ الله نبأهم يعيرهم بذلك إنهم لأنبياء من أهل الجنة ، ولكنّ الله قصّ علينا نبأهم لئلا يقنط عبده .
وذُكر أن يعقوب توفي قبل يوسف ، وأوصى إلى يوسف وأمره أن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما حضر الموت يعقوب ، أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام ، قال : فلما بلغوا إلى ذلك المكان أقبل عيص أخو يعقوب ، فقال : غلبني على الدعوة ، فوالله لا يغلبني على القبر فأبى أن يتركهم أن يدفنوه . فلما احتبسوا قال هشام بن دان بن يعقوب وكان هشام أصمّ لبعض إخوته : ما لجدّي لا يدفن ؟ قالوا : هذا عمك يمنعه . قال : أرونيه أين هو فلما رآه ، رفع هشام يده فوجأ بها رأس العيص وجأة سقطت عيناه على فخذ يعقوب ، فدفنا في قبر واحد .
{ رب قد آتيتني من الملك } بعض الملك وهو ملك مصر . { وعلّمتني من تأويل الأحاديث } الكتب أو الرؤيا ، ومن أيضا للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل . { فاطر السماوات والأرض } مبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه . { أنت وليي } ناصري ومتولي أمري . { في الدنيا والآخرة } أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما . { توفني مسلما } اقبضني . { وألحقني بالصالحين } من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة . روي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه ، فذهب به ودفنه ثمة ثم عاد وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة ، ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ، ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ، ثم نقله موسى عليها الصلاة والسلام إلى مدفن آبائه وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وقد ولد له من راعيل افراثيم وميشا وهو جد يوشع بن نون ، ورحمة امرأة أيوب عليها لصلاة والسلام .
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 ) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 )
قرأ ابن مسعود «آتيتن » و «علمتن » بحذف الياء على التخفيف{[6844]} ، وقرأ ابن ذر «رب آتيتني » بغير «قد » .
وذكر كثير من المفسرين : أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين ، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله : { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } وقال ابن عباس : «لم يتمن الموت نبي غير يوسف » ، وذكر المهدوي تأويلاً آخر - وهو الأقوى عندي - أن ليس في الآية تمني موت - وإنما عدد يوسف عليه السلام نعم الله عنده ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره أي { توفني } - إذا حان أجلي - على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين ، وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت . وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضرّ نزل به » الحديث بكماله{[6845]} . وروي عنه عليه السلام أنه قال في بعض دعائه : «وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون »{[6846]} ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم قد رقّ عظمي وانتشرت وعييت فتوفني غير مقصر ولا عاجز .
قال القاضي أبو محمد : فيشبه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : لضر نزل به - إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحاً ، ويدلك على هذا قول النبي عليه السلام : «يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه ، ليس به الدين لكن ما يرى من البلاء والفتن »{[6847]} .
قال القاضي أبو محمد : فقوله : ليس به الدين - يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة الناس كيف تكون .
وقوله : { آتيتني من الملك } قيل : { من } للتبعيض وقيل : لبيان الجنس ؛ وكذلك في قوله : { من تأويل الأحاديث } المراد بقوله : { الأحاديث } الأحلام ، وقيل : قصص الأنبياء والأمم .
وقوله : { فاطر } منادى ، وقوله { أنت وليي } أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي .