ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما توعد فرعون به السحرة ، وموقفهم من هذا الوعيد فقال - تعالى - : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ . . . . } .
أى : قال فرعون للسحرة بعد أن شاهدهم وقد خروا لله - تعالى - ساجدين : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } أى : هل آمنتم لموسى وصدقتموه فى دعوته وانقدتم له ، قبل أن أعطيكم الإذن بذلك . فالاستفهام للتقريع والتهديد .
{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } أى : أن موسى الذى انقدتم له لهو كبيركم وشيخكم الذى علمكم فنون السحر ، فأنتم تواطأتم معه . وآمنتم به لأنكم من أتباعه .
وغرضه من هذا القول صرف الناس عن التأسى بهم ، وعن الإيمان بالحق الذى آمن به السحرة والظهور أمام قومه بمظهر الثبات والتماسك بعد أن استبد به وبهم الخوف والهلع ، من هول ما رأوه .
ثم أضاف إلى قوله هذا تهديدا أشد فقال : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } .
أى : فوالله لأقطعن أيديكم اليمنى - مثلا - مع أرجلكم اليسرى ، ولأصلبنكم على جذوع النخل ، لتكونوا عبرة لغيركم ممن تسول له نفسه أن يفعل فعلكم .
فالمراد من قوله " من خلاف " أى : من الجهة المخالفة أو من الجانب بأن يقطع اليد اليمنى ومعها الرجل اليسرى ، لأن ذلك أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة إذ قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شىء كامل صحيح ، بخلاف قطعهما من جهتين مختلفتين فإنه إفساد للجانبين .
واختار أن يصلبهم فى جذوع النخل ، لأن هذه الجذوع أخشن من غيرها والتصليب عليها أشق من التصليب على غيرها ، وأظهر للرائى لعلوها عن سواها . فهو لطغيانه وفجوره اختار أقسى ألوان العذاب ليصبها على هؤلاء المؤمنين .
قال الجمل : قوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } يحتمل أن يكون حقيقة . وفى التفسير أنه نقر جذوع النخل حتى جوفها ووضعهم فيها فماتوا جوعا وعطشا .
ويحتمل أن يكون مجازا وله وجهان : أحدهما : أنه وضع حرفا مكان آخر ، والأصل على جذوع النخل ، والثانى : أنه شبه تمكنهم بتمكن من حواه الجذع واشتمل عليه .
وقال الكرخى " فى " بمعنى " على " مجازا ، من حيث إنه شبه تمكن المصلوب بالجذع ، بتمكن المظروف فى الظرف وهذا هو المشهور .
وقوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } تهديد فوق تهديد ، ووعيد إثر وعيد .
أى : والله لتعلمن أيها السحرة أينا أشد تعذيبا لكم ، وأبقى فى إنزال الهلاك بكم ، أنا أم موسى وربه .
وكأنه بهذا التهديد يريد أن يهون من كل عذاب سوى عذابه لهم ، ومن كل عقاب غير عقابه إياهم .
وهذا التهديد التى حكاه الله - تعالى - هنا ، قد جاء ما يشبهه فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }
( قال : آمنتم له قبل أن آذن لكم ? إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ) .
( آمنتم له قبل أن آذن لكم ) . . قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون - وقد لمس الإيمان قلوبهم - أن يدفعوه عنها ، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء .
( إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ) . . فذلك سر الاستسلام في نظره ، لا أنه الإيمان الذي دب في قلوبهم من حيث لا يحتسبون . ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال .
ثم التهديد الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة ؛ ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح : ( فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم في جذوع النخل ) .
ثم الاستعلاء بالقوة الغاشمة . قوة الوحوش في الغابة . القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال ، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب : ( ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ) !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} فرعون: {ءامنتم له} يعني: صدقتم لموسى {قبل أن ءاذن لكم} يقول: قبل أن آمركم بالإيمان لموسى {إنه لكبيركم} يعني: لعظيمكم في السحر، هو {الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} يعني: اليد اليمنى والرجل اليسرى {ولأصلبنكم في جذوع النخل}...
{ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى}، أنا أو رب موسى وهارون {وأبقى} وأدوم عذابا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ" يقول جلّ ثناؤه: وقال فرعون للسحرة: أصدّقتم وأقررتم لموسى بما دعاكم إليه من قبل أن أطلق ذلك لكم. "إنّهُ لكَبيركُم "يقول: إن موسى لعظيمكم "الّذي عَلّمَكُمُ السّحْرَ"...
وقوله: "فَلأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ" يقول: فلأقطعنّ أيديكم وأرجلكم مخالفا بين قطع ذلك، وذلك أن يقطع يمنى اليدين ويسرى الرجلين، أو يسرى اليدين، ويمنى الرجلين، فيكون ذلك قطعا من خلاف... وإنما قيل: في جذوع، لأن المصلوب على الخشبة يرفع في طولها، ثم يصير عليها، فيقال: صلب عليها...
وقوله: "وَلَتَعْلَمُنّ أيّنا أشَدّ عَذَابا وأبْقَى" يقول: ولتعلمنّ أيها السحرة أينا أشدّ عذابا لكم وأدوم، أنا أو موسى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قد علم فرعون أن ذلك ليس بسحر ولا مكر، مكروا به. لكنه أراد أن يموه على قومه، ويُلبس عليهم أمر موسى وما جاء به من الآيات والحجج لأنه هو الذي رباه، ونشأ بين ظهرانيه وأهله. فعلم أنه لم يتعلم السحر من أحد، لما فارقه، وخرج من عندهم إلى مدين، لم يكن هناك ساحر يتعلم منه السحر لكنه أراد التمويه والتلبيس على قومه. وكذلك أهل مكة حين نسبوا رسول الله إلى السحر والكهانة والافتراء والجنون وغيره، علموا أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون ولا مفتر، لأنه نشأ بين أظهرهم صغيرا، لم يؤخذ عليه كذب قط على أحد من الخلائق، فكيف على الله تعالى؟ ولا رأوه اختلف إلى أحد من السحرة والكهنة في تعلم ذلك. لكنهم أرادوا التمويه والتلبيس على الناس لئلا يتبعوه إلى ما دعاهم إليه من دين الله وتوحيده. وقوله تعالى: {فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل} يشبه أن يكون ذلك الوعيد منه في وقتين. أوعدهم أولا بقطع اليد والرجل من خلاف على الإبقاء رجاء أن ينتهوا عما اختاروا. فإذا لم ينتهوا عنه فعند ذلك أوعدهم بالقتل والصلب، إذ في القتل والصلب إتلاف ما دونه من الجوارح.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى ما قال فرعون للسحرة حين آمنوا بموسى وهارون "آمنتم له "أي صدقتموه واتبعتموه "قبل أن آذن لكم" وقال في موضع آخر "آمنتم به" وقيل في الفرق بينهما إن "آمنتم له" يفيد الاتباع، وليس كذلك "آمنتم به" لأنه قد يوقن بالخير من غير اتباع له فيما دعا إليه، إلا أنه إذا قبل قول الداعي إلى أمر أخذ به. ومن قرأ "آمنتم" على الخبر كأن فرعون أخبر بذلك. ومن قرأ على لفظ الاستفهام كأنه استفهم عن إيمانهم على وجه التقريع لهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَكَبِيرُكُمُ}: لعظيمكم، يريد: أنه أسحرهم وأعلاهم درجة في صناعتهم. أو لمعلمكم، من قول أهل مكة للمعلم: أمرني كبيري، وقال لي كبيري: كذا يريدون معلمهم وأستاذهم في القرآن وفي كل شيء...
شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه، فلذلك قيل: {فِي جُذُوعِ النخل}. {أَيُّنَآ} يريد نفسه -لعنه الله- وموسى صلوات الله عليه بدليل قوله: {ءَامَنتُمْ لَهُ} واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى، كقوله تعالى: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، وفيه نفاجة باقتداره وقهره، وما ألفه وضرى به: من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع لموسى عليه السلام، واستضعاف له مع الهزء به؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سببا لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال: {آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر}...
ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم عن الإيمان وتنفيرا لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل، حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم وغُلِب كل الغلب -شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة، فتهددهم وأوعدهم وقال {آمَنْتُمْ لَهُ} أي: صدقتموه {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي: وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عليّ في ذلك. وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بَهْت وكذب: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي، لتظهروه، كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف 123]. ثم أخذ يتهددهم فقال: {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: لأجعلنكم مثلة ولأقتلنكم ولأشهرنكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجئه ذلك فقال: {قال} أي فرعون للسحرة منكراً عليهم، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة الرفق بالمدعوين والحلم عنهم، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام: {آمنتم} أي بالله {له} أي مصدقين أو متبعين لموسى {قبل أن ءاذن لكم} في ذلك، إبهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن؛ ثم استأنف قوله معللاً مخيلاً لأتباعه صداً لهم عن الاقتداء بهم: {إنه لكبيركم} أي في العلم {الذي علمكم السحر} فلم تتبعوه لظهور الحق، بل لإرادتكم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق.
ولما خيلهم، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال: {فلأقطعن} أي سبب ما فعلتم {أيديكم} على سبيل التوزيع {وأرجلكم} أي من كلٍّ يداً ورجلاً {من خلاف} فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى {ولأصلبنكم} وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال: {في جذوع النخل} تبشيعاً لقتلكم ردعاً لأمثالكم {ولتعلمن أينا} أنا أورب موسى الذي قال: إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى {أشد عذاباً وأبقى} أي من جهة العذاب، أي أينا عذابه أشد وأطول زماناً.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلأصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} أي عليها، وإيثارُ كلمةِ (في) للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار المظروفِ المشتملِ عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم؟ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى).
(آمنتم له قبل أن آذن لكم).. قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون -وقد لمس الإيمان قلوبهم- أن يدفعوه عنها، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.
(إنه لكبيركم الذي علمكم السحر).. فذلك سر الاستسلام في نظره، لا أنه الإيمان الذي دب في قلوبهم من حيث لا يحتسبون. ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال.
ثم التهديد الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة؛ ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل).
ثم الاستعلاء بالقوة الغاشمة. قوة الوحوش في الغابة. القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب: (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... لما رأى فرعون إيمان السحرة تغيّظ ورام عقابهم ولكنه علم أنّ العقاب على الإيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفّي من الذين آمنوا علّة إعلانهم الإيمان قبل استئذانِ فرعون، فعدّ ذلك جرأة عليه، وأوهم أنّهم لو استأذنوه لأذن لهم، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطؤوا مع موسى من قبلُ فأظهروا العجز عند مناظرته. ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأنّ موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالاً للشكّ على نفوس الذين شاهدوا الآيات. وهذه شِنْشِنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر. ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.
وضمير {لَهُ} عائد إلى موسى مثل ضمير {إنه لكبيركُم}.
ومعنى {قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُم} قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به. يقال: أذِن له، إذ أباح له شيئاً.
والتقطيع: شدّة القطع. ومرجع المبالغة إلى الكيفية، وهي ما وصفه بقوله {مِن خِلاف} أي مختلفة؛ بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين، أي تقطع اليد ثمّ الرجلُ من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى. والظاهر: أنّ القطع على هذه الكيفية كان شعاراً لقطع المجرمين، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدّة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعاً.
وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطّل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جرّاء قطع يَد ثمّ رجل من جهة واحدة، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين.
و (من) في قوله {مِنْ خلاف} للابتداء، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع. والمجرور في موضع الحال، وقد تقدّم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة.
والتصليب: مبالغة في الصلب. والصلب: ربط الجسم على عود مُنتصب أو دَقُّهُ عليه بمسامير، وتقدم عند قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه} في سورة النساء (157). والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضاً بشدّة الدقّ على الأعواد.
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيهاً لشدّة تمكّن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه.
والجذوع: جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} [مريم: 25]. وتعدية فعل {ولأُصلّبَنَّكُم} بحرف (في) مع أنّ الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يُشبه حصول المظروف في الظرف، فحرف (في) استعارة تبعيّة تابعة لاستعارة متعلَّق معنى (في) لمتعلَّق معنى (على).
وأيّنا: استفهام عن مشتركيْن في شدّة التعذيب. وفعل {لتعلمُن معلق عن العمل لوقوع الاستفهام في آخره. وأراد بالمشتركين نفسَه وربّ موسى سبحانه لأنه علم من قولهم {آمنا برب هارون وموسى} [الشعراء: 47] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون {ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} [طه: 61]، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حُذرتموه. وهذا من غروره. ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله {أينا أشدّ عذاباً وأبقى بقولهم والله خير وأبقى} [طه: 73]، أي خير منك وأبقى عملاً من عملك، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} فكيف فعلتم ذلك، إنها الجرأة على الإله السيد العظيم الذي لا يجوز لأحد مهما كانت رتبته أن يقوم بأي عمل، أو يعلن أي موقف يتعلق بنفسه أو بالآخرين، إلا بعد أن يحصل على موافقته، فهو الذي يحدد لهم ما يصلحهم، وما يفسد حياتهم، لأنه الذي يعرف من ذلك ما لا يعرفون من أمور الحياة. ثم حاول أن يغطي فشله وضعفه، ويمنع تأثر الناس بموقف السحرة الإيماني أمام موسى (عليه السلام)، فحاول أن يهرب من المسألة بتصويرها بصورة الحالة التآمرية الخفية الحاصلة بين موسى وبين السحرة للقيام بهذه التمثيلية المسرحية، للإيقاع بفرعون، وإضعاف ملكه، وإخراج أهل مصر من مصرهم. و {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وبذلك كان دوركم دور التلاميذ الذين يخضعون لأستاذهم في ما يأمرهم به وينهاهم عنه، وفي ما يوجههم إليه...ثم بدأت عملية التهديد بالعقاب... {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} أنا أو موسى، لتعرفوا من هو الأقوى، ومن هو الأبقى. وستندمون، لأن موسى (عليه السلام) لا يملك أي شيء من سلطة الدنيا وسطوتها، فلن تحصلوا منه على شيء، بينما أملك كل شيء من حولي وكل مواقع القوة والنفوذ، فأعطي من أشاء وأمنع من أشاء، وأقتل من أريد، وأعفو عمن أريد...ولكن القوم قد دخلوا في عالم آخر، فقد التقوا بالله في روحية الإيمان به ولم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء... بل أصبحت الآخرة أكبر همهم وأفضل طموحاتهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إلاّ أنّه يرى الآن أنّ أُولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة، قد استسلموا فجأةً للعدو بصورة جماعية، ولم يسلموا وحسب، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبداً، ولا شكّ أنّ جمعاً من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّاً إلاّ أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ، فتوجّه نحو السّحرة و (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم). إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب، بل كان يريد أن يقول: إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضاً، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على امتداد العصور...ثمّ إنّه لم يكتف بهذا، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد، التهديد بالموت، فقال: (فلأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى). في الحقيقة إنّ جملة (أيّنا أشدّ عذاباً) إشارة إلى تهديد موسى (عليه السلام) له من قبل، وكذلك تهديده للسحرة في البداية (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب). والتعبير ب (من خلاف) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس، وربّما كان اختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأً وأشدّ عذاباً في هذه الحالة، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ، وسيعانون عذاباً أشدّ...