{ قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس } يعني الشيطان ، يكون مصدراً واسماً . قال الزجاج : يعني : الشيطان ذا الوسواس { الخناس } الرجاع ، وهو الشيطان جاثم على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس . قال : الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا ذكر العبد ربه خنس . ويقال : رأسه كرأس الحية ، واضع رأسه على ثمرة القلب ، يمنيه ويحدثه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا لم يذكر يرجع ويضع رأسه .
وقوله - سبحانه - : { مِن شَرِّ الوسواس الخناس } متعلق بقوله { أَعُوذُ } .
والوسواس : اسم للوسوسة ، وهي الصوت الخفي ، والمصدر الوِسْوَاس - بالكسر - ، والمراد به هنا : الوصف . من باب إطلاق اسم المصدر على الفاعل ، أو هو وصف مثل : الثرثار .
و " الخناس " صيغة مبالغة من الخنوس ، وهو الرجوع والتأخر ، والمراد به : الذي يلقي فى نفس الإِنسان أحاديث السوء .
وقد أطلق النص الصفة أولا : ( الوسواس الخناس ) . . وحدد عمله : ( الذي يوسوس في صدور الناس ) . ثم حدد ماهيته : ( من الجنة والناس ) . . وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس ، بعد إطلاق صفته في أول الكلام ؛ ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره ، تأهبا لدفعه أو مراقبته !
وقوله : { مِنْ شَرّ الوَسْوَاسِ } يعني : من شرّ الشيطان الخَنّاسِ الذي يخنِس مرّة ويوسوس أخرى ، وإنما يخنِس فيما ذُكر عند ذكر العبد ربه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن سفيان ، عن حكيم بن جُبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما من مولود إلا على قلبه الوَسواس ، فإذا عقل فذكر الله خَنَس ، وإذا غَفَل وسوس ، قال : فذلك قوله : { الْوَسْوَاسِ الخَنّاسِ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سفيان ، عن ابن عباس ، في قوله : { الوَسْوَاسِ الخَنّاسِ } قال : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
قال : ثنا مهران ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد { الْوَسْوَاسِ الخَنّاسِ } قال : ينبسط ، فإذا ذكر الله خَنَس وانقبض ، فإذا غفل انبسط .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله { الْوَسْوَاسِ الخَنّاسِ } قال : الشيطان يكون على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله خَنَس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { الْوَسْوَاسِ } قال : قال هو الشيطان ، وهو الخَنّاس أيضا ، إذا ذكر العبد ربه خنس ، وهو يوسوس ويَخْنِس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { مِنْ شَرّ الْوَسْوَاسِ الخَنّاسِ } يعني : الشيطان ، يوسوس في صدر ابن آدم ، ويخنس إذا ذَكر الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن أبيه ، ذُكر لي أن الشيطان ، أو قال : الوسواس ، ينفث في قلب الإنسان عند الحزن وعند الفرح ، وإذا ذَكر الله خنس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الخَنّاسِ قال : الخناس الذي يوسوس مرّة ، ويخنس مرّة ، من الجنّ والإنس ، وكان يقال : شيطان الإنس أشدّ على الناس من شيطان الجنّ ، شيطان الجنّ يوسوس ولا تراه ، وهذا يُعاينك معاينة .
ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول في ذلك { مِنْ شَرّ الْوَسْوَاسِ } الذي يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور الناس ، حتى يُستجاب له إلى ما دعا إليه من طاعته ، فإذا استجيب له إلى ذلك خَنَس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله { الْوَسْواس } قال : هو الشيطان يأمره ، فإذا أطيع خنس .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شرّ شيطان يوسوس مرّة ويخنس أخرى ، ولم يخصّ وسوسته على نوع من أنواعها ، ولا خنوسه على وجه دون وجه ، وقد يوسوس الدعاء إلى معصية الله ، فإذا أطيع فيها خَنَس ، وقد يوسوس بالنّهْي عن طاعة الله ، فإذا ذكر العبدُ أمر به ، فأطاعه فيه ، وعصى الشيطان خنس ، فهو في كل حالتيه وَسْواس خَنّاس ، وهذه الصفة صفته .
{ الوسواس } اسم من أسماء الشيطان{[12045]} ، وهو أيضاً ما توسوس به شهوات النفس وتسوله{[12046]} ، وذلك هو الهواء الذي نهي المرء عن اتباعه ، وأمر بمعصيته ، والغضب الذي وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه وتركه ، حين قال له رجل : أوصني ، فقال : " لا تغضب " ، قال زدني : قال : " لا تغضب " {[12047]} . وقوله : { الخناس } معناه : على عقبه المستتر أحياناً ، وذلك في الشيطان متمكن{[12048]} إذا ذكر العبد وتعوذ وتذكر فأبصر كما قال تعالى : { إن الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون{[12049]} } [ الأعراف : 201 ] ، وإذا فرضنا ذلك في الشهوات والغضب ونحوه فهو يخنس بتذكير النفس اللوامة بلمة الملك ، وبأن الحياء يردع ، والإيمان يردع بقوة ، فتخنس تلك العوارض المتحركة ، وتنقمع عند من أعين بتوفيق .
و{ الوسواس } : المتكلم بالوسوسة ، وهي الكلام الخفيّ ، قال رُؤبة يصف صائداً في قُتْرتِه :
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخلصاً ربَّ الفَلَقْ
فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازاً على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عُروة بن أذينة :
وإذا وجَدْت لها وسَاوِسَ سَلوَةٍ *** شفَع الفؤادُ إلى الضمير فسَلَّها
والتعريف في { الوسواس } تعريف الجنس وإطلاق { الوسواس } على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفُس الناس الخواطر الشريرة ، قال تعالى : { فوسوس إليه الشيطان } [ طه : 120 ] ، ويشمل الوسواسُ كل من يتكلم كلاماً خفياً من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراءٍ بالضلال والإِعراض عن الهدى ، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سِراً لئلا يطلع عليها من يريدون الإِيقاعَ به ، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذِيَّتِهِ .
و { الخناس } : الشديد الخنْس والكثيرُه . والمراد أنه صار عادة له . والخنس والخنوس : الاختفاء . والشيطان يلقب ب { الخناس } لأنه يتصل بعقل الإِنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنَّه خنس فيه ، وأهل المكر والكيد والتختل خنّاسون لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم .
فالتعريف في { الخناس } على وزاننِ تعريف موصوفه ، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها وتزجره النفس اللّوامة ، أو يزَعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها ، فكأنَّ الشيطان يبدو له ثم يختفي ، ثم يبدو ثم يختفي حتى يتمكن من تدليته بغرور .