الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ} (4)

يعني : من شر الشيطان . والمعنى : من شر ذي الوسواس ، فحذف المضاف . قاله الفراء . وهو ( بفتح الواو ) بمعنى الاسم ، أي الموسوس . و( بكسر الواو ) المصدر ، يعني الوسوسة . وكذا الزلزال والزلزال . والوسوسة : حديث النفس . يقال : وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة ( بكسر الواو ) . ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي : وسواس . وقال ذو الرمة :

فبات يُشْئِزُه ثَأَدٌ ويُسْهِرُه *** تَذَؤُّبُ الريح والوسواسُ والهِضَبُ{[16610]}

وقال الأعشى :

تسمع للحَلْيِ وسواسا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عِشْرَقٌ زَجِلُ{[16611]}

وقيل : إن الوسواس الخناس ابن لإبليس ، جاء به إلى حواء ، ووضعه بين يديها ، وقال : اكفليه . فجاء آدم عليه السلام{[16612]} فقال : ما هذا ( يا حواء{[16613]} ) قالت : جاء عدونا بهذا ، وقال لي : اكفليه . فقال : ألم أقل لك : لا تطيعيه في شيء ، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية ؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع ، وعلق كل ربع على شجرة ، غيظا له ، فجاء إبليس فقال : يا حواء{[16614]} ، أين ابني ؟ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام ، فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه . فجاء به إلى حواء وقال : اكفليه ، فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار ، وذر رماده في البحر ، فجاء إبليس ( عليه اللعنة ) فقال : يا حواء ، أين ابني ؟ فأخبرته بفعل آدم إياه ، فذهب إلى البحر ، فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه . فجاء به إلى حواء الثالثة ، وقال : اكفليه . فنظر إليه آدم ، فذبحه وشواه ، وأكلاه جميعا . فجاء إبليس فسألها فأخبرته ( حواء ) . فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه ، ( فجاء به ) من جوف آدم وحواء . فقال إبليس : هذا الذي أردت ، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم ، فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس ، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس . ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه . وما أظنه يصح ، والله تعالى أعلم . ووصف بالخناس ؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : { فلا أقسم بالخنس }{[16615]} [ التكوير : 15 ] يعني النجوم ، لاختفائها بعد ظهورها . وقيل : لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله ، أي يتأخر . وفي الخبر " إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا غفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس " أي تأخر وأقصر . وقال قتادة : " الخناس " : الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل الإنسان{[16616]} وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس . يقال : خنسته فخنس ، أي أخرته فتأخر ، وأخنسته أيضا . ومنه قول أبي العلاء الحضرمي أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :

وإن دَحَسُوا بالشر فاعفُ تكرُّمًا *** وإن خَنَسُوا عند{[16617]} الحديث فلا تَسَلْ

الدحس : الإفساد .

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس " .

وقال ابن عباس : إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب ، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومَنَّاه .

وقال إبراهيم التيمي : أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء .

وقيل : سمي خناسا ؛ لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله . والخنس : الرجوع . وقال الراجز :

وصاحبٍ يمْتَعِسُ{[16618]} امتِعاسا *** يزداد إن حيَّيْتَهُ{[16619]} خِنَاسَا

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { الوسواس الخناس } وجهين : أحدهما : أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى . الثاني : أنه الخارج بالوسوسة من اليقين .


[16610]:شئز الرجل : قلق من مرض أو هم. والثأد: الندى والقر والأمر القبيح. وتذؤب الريح: هبوبها من كل وجه، وهو مأخوذ من خداع الذئب. والهضب (بكسر الهاء): الأمطار.
[16611]:العشرق (كزبرج): نبت له ورق فإذا يبس طار. ونبت زجل: صوتت فيه الريح.
[16612]:زيادة عن نوادر الأصول للترمذي الحكيم.
[16613]:زيادة عن نوادر الأصول للترمذي الحكيم.
[16614]:زيادة عن الترمذي الحكيم.
[16615]:آية 15 سورة التكوير.
[16616]:في نسخة من الأصل: "ابن آدم".
[16617]:في اللسان: "عنك".
[16618]:يمتعس: يتحرك.
[16619]:في بعض الأصول "جتتنه" وبعضها "جننته" وفي بعضها بدون إعجام.