السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ} (4)

{ من شر الوسواس } وهو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال ، والمراد به شيطان سمي بالمصدر كأنه وسوس في نفسه ؛ لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه ، أو أريد ذو الوسواس ، والوسوسة الصوت الخفي ، ويقال : لحس الصائد ، والكلاب ، وأصوات الحلي : وسواس . «والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » . كما في الصحيح ، فهو الذي يوسوس بالذنب سراً ليكون أحلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يوقع الإنسان ، فإذا أوقعه وسوس لغيره : إن فلاناً فعل كذا ، حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جراءة على أمثال ذلك ، كأنه يقول : قد وقع ما كنت أحذر من إيقاعه ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، فيجترئ على الذنب .

ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السام وهو الموت ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى ، فإنه يطرد الشيطان ، وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى : { الخناس } ، أي : الذي عادته أن يخنس ، أي : يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة ، كلما كان الذكر خنس ، وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه ، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر .

قال قتادة : الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب ، وقيل : كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان ، فإذا ذكر العبد ربه خنس ، ويقال : رأسه كرأس الحية ، واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه ، فذلك قوله تعالى : { الذي يوسوس في صدور الناس } .