قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون } . وفي قوله " ماذا " وجهان من الإعراب . أحدهما أن يكون محله نصباً بقوله ( ينفقون ) تقديره : " أي شيء ينفقون " والآخر . أن يكون رفعاً بما ، ومعناه " ما الذي ينفقون " .
قوله تعالى : { قل ما أنفقتم من خير } . أي من مال .
قوله تعالى : { فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } . يجازيكم به . قال أهل التفسير : كان هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة .
ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين بعد ذلك إلى أن مما يعينهم على دفع الأذى وعلى دحر أعدائهم أن يبذلوا أموالهم في طاعة الله ، وأن يعدوا أنفسهم للقتال في سبيله فقال- تعالى- :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ . . . }
قال الآلوسي : عن ابن جريج قالِ : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم فأنزل الله - تعالى - قوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } الآية . وعن ابن عباس قال : كان عمرو بن الجموع شيخاً كبيراً وعنده مال كثير فقال يا رسول الله : بماذا نتصدق ، وعلى من ننفق ؟ فنزلت الآية .
والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد
أي شيء ينفقونه من أصناف الأموال ؟ قل لهم : ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه للوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما ووفاء لبعض حقوقهما ، وللأقربين وفاء لحق القرابة والرحم ولليتامى لأنهم فقدوا الأب الحاني الذي يسد عوزهم ، المساكين لفقرهم واحتياجهم ، وابن السبيل لأنه كالفقير لغيبة ماله وانقطاعه عن بلده .
قال الإِمام الرازي : فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله - تعالى - في كيفية الإِنفاق ثم لما فصل هذا النفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإِجمال فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } أي : وكل ما فعلمتوه من خير إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم فيجازيكم أحسن الجزاء عليه . . . " .
وظاهر الآية - كما يقول الآلوسي - أن السؤال عن المنفق فأجاب بيان المصرف صريحاً ، لأنه أهم لأن اعتداد النفقة باعتباره . وأشار - سبحانه - إجمالا إلى بيان المنفق فإن قوله { مِنْ خَيْرٍ } يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا ، وإنما تعرض لذلك - أي لبيان المنفق عليه - وليس في السؤال ما يقتضيه ، لأن السؤال للتعلم لا للجدل ، وحق المعلم فيه أن يكون كطيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء ، طلبه المريض أم لم يطلبه . ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين ، ( وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيباً ، في أكل العسل فقال له : كله مع الخل ) . فالكلام إذا من أسلوب الحكيم . ويحتمل أن يكون في الكلام - أي في كلام السائلين - ذكر المصرف - أيضاً - كما في سؤال عمرو بن الجموع إلا أنه لم يذكره في الآية للإِيجاز في النظم تعويلا على الجواب ، فتكون الآية جوابا لأمرين مسئول عنهما . والاقتصار في بيان المنفق على الإِجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإِشارة إلى كون الثاني أهم . وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أولا ؟ قولان أشهرهما الثاني " .
ولم يتعرض - سبحانه - هنا لبقية المحتاجين كالسائلين والغارمين إما اكتفاء بذكرهم في مواضع أخرى ، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله - قوله - تعالى - : في آخر الآية { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } فإنه شامل ككل خير واقع في أي مصرف كان .
قال الجمل و " ذا " اسم موصول بمعنى الذي والعئاد محذوف ، و " ما " على أصلها من الاستفهام ولذلك لم يعمل فيها يسألونك ، وهي مبتدأ وذا خبره ، والجملة محلها النصب بيسألون . والمعنى يسألونك أي الشيء الذي ينفقونه .
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الحض على فعل الخير ، لأن المؤمن عندما يشعر بأن الله يرى عمله ويجازيه عليه بما يستحقه ، يشجعه ذلك على الاستمرار في عمل الخير . وإذا كان بعضنا يكثر من عمل الخير عندما يعلم أن شخصا ذا جاه يسره هذا العمل ، فكيف يكون الحال عندما يعلم المؤمن التقي أن الذي يرى عمله ويكافئه عليه هو الله الذي لا يخفى عليه خافية ، والذي يعطي من يشاء بغير حساب .
قال بعض العلماء : وقد اختلف في هذه الآية . فقيل إنها منسوخة بآية الزكاة وهي قوله - تعالى - : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ . . } وقيل - وهو الأولى - إنها غير منسوخة ، وهي لبيان صدقة التطوع فإنه متى أمكن الجمع فلا نسخ .
( يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل . وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ) . .
لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال . فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها ؛ ثم هو ضرورة من ناحية أخرى : من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة ؛ وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد ، لا يحتجن دونه شيئا ، ولا يحتجز عنه شيئا . وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعوريا ، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عمليا .
وهنا يسأل بعض المسلمين : ( ماذا ينفقون ؟ ) . .
وهو سؤال عن نوع ما ينفقون . . فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق ؛ ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها :
ولهذا التعبير إيحاءان : الأول إن الذي ينفق خير . . خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب ، وتقدمة طيبة ، وشيء طيب . . والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه ؛ وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه . فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس ، ثم منفعة للآخرين وعون . وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة ، وللنفس التزكية ، وللإيثار معناه الكريم .
على أن هذا الإيحاء ليس إلزاما ، فالإلزام - كما ورد في آية أخرى - أن ينفق المنفق من الوسط ، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده . ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير ، والتحبيب فيه ، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس ، وإعداد القلوب . .
أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه :
( فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ) . .
وهو يربط بين طوائف من الناس . بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب ، وبعضهم رابطة الرحم ، وبعضهم رابطة الرحمة ، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة . . وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة : الوالدون . والأقربون . واليتامى والمساكين وابن السبيل . وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين .
ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى ، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديدا ووضوحا كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله [ ص ] قال لرجل : " ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا . . . " .
هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها . . إنه يأخذ الإنسان كما هو ، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته ؛ ثم يسير به من حيث هو كائن ، ومن حيث هو واقف ! يسير به خطوة خطوة ، صعدا في المرتقى العالي : على هينة وفي يسر ؛ فيصعد وهو مستريح ، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته ، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها . لا يحس بالجهد والرهق ، ولا يكبل بالسلاسلوالأغلال ليجر في المرتقى ! ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف ! ولا يعتسف به الطريق اعتسافا ، ولا يطير به طيرانا من فوق الآكام ! إنما يصعدها به صعودا هينا لينا وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء ، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى ، وروحه موصولة بالله في علاه .
ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته ؛ فأمره أولا بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها ؛ وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة . فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية . والرسول [ ص ] يقول : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " . . وعن جابر - رضي الله عنه - قال " : جاء رجل بمثل بيضة من ذهب ، فقال : يا رسول الله . أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها . فأعرض عنه رسول الله [ ص ] ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه . فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك ، فأخذها [ ص ] فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته . وقال : " يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة . ثم يقعد يتكفف الناس ! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " " . .
ولقد علم الله أن الإنسان يحب - أول ما يحب - أفراد أسرته الأقربين . . عياله . . ووالديه . فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم ؛ ليعطيهم من ماله وهو راض ؛ فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه ، بل فيه حكمة وخير ؛ وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناسا هم أقرباؤه الأدنون ، نعم ، ولكنهم فريق من الأمة ، إن لم يعطوا احتاجوا . وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد . وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول ؛ وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير .
ولقد علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة - بدرجاتهم منه وصلتهم به - ولا ضير في هذا . فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع . فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين ، تساير عواطفه وميوله الفطرية ، وتقضي حاجة هؤلاء ، وتقوي أواصر الأسرة البعيدة ، وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة ، مترابطة العرى وثيقة الصلات .
وعندما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء - بعد ذاته - فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري ، يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة . . وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف ؛ ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملا ؛ ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال ، ولكنهم انقطعوا عنه ، وحالت بينهم وبينه الحوائل - وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء - وهؤلاء جميعا أعضاء في المجتمع ؛ والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم ، يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها . فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين . يبلغ أولا إلى تزكية نفوس المنفقين . فقد أنفقت طيبة بما أعطت ، راضية بما بذلت ، متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم . ويبلغ ثانيا إلى إعطاء هؤلاء المحتاجينوكفالتهم . ويبلغ ثالثا إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة ، في غير ما تضرر ولا تبرم . . قيادة لطيفة مريحة بالغة ما تريد ، محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد !
ثم يربط هذا كله بالأفق الأعلى ، فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي ، وفيما يفعل ، وفيما يضمر من نية أو شعور :
( وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ) . .
عليم به ، وعليم بباعثه ، وعليم بالنية المصاحبة له . . وهو إذن لا يضيع . فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء ، والذي لا يبخس الناس شيئا ولا يظلمهم ، والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه . .
بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى ، وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله . . في رفق وفي هوادة ، وفي غير معسفة ولا اصطناع . . وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير . ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان ، كما هو ، ويبدأ به من حيث هو ؛ ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة ، ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج ، في هذا الطريق .
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد ، أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ، وعلى من ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم : ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لاَبائكم وأمهاتكم وأقربيكم ، ولليتامى منكم والمساكين وابن السبيل ، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم ، وهو محصيه لكم حتى يوفيكم أجوركم عليه يوم القيامة ، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه . والخير الذي قال جل ثناؤه في قوله : قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ هو المال الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من النفقة منه ، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية .
وفي قوله : ماذَا وجهان من الإعراب : أحدهما أن يكون «ماذا » بمعنى أيّ شيء ، فيكون نصبا بقوله : «ينفقون » ، فيكون معنى الكلام حينئذً : يسألونك أيّ شيء ينفقون ، ولا ينصب ب«يسألونك » . والاَخر منهما الرفع . وللرفع في «ذلك » وجهان : أحدهما أن يكون «ذا » الذي مع «ما » بمعنى «الذي » ، فيرفع «ما » ب«ذا » و«ذا » ب«ما » ، و«ينفقون » من صلة «ذا » ، فإن العرب قد تصل «ذا » ، وهذا كما قال الشاعر :
عَدَسْ ، ما لعَبّادٍ عليكِ إمارَةٌ *** أمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
ف«تحملين » من صلة «هذا » ، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : يسألونك ما الذي ينفقون . والاَخر من وجهي الرفع أن تكون «ماذا » بمعنى أيّ شيء ، فيرفع «ماذا » ، وإن كان قوله : يُنْفِقُونَ واقعا عليه ، إذ كان العامل فيه وهو «ينفقون » لا يصلح تقديمه قبله ، وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام ، كما قال الشاعر :
ألا تَسألاَنِ المَرْءَ ماذَا يُحاوِلُ *** أنَحْبٌ فَيُقْضَى أمْ ضَلالٌ وَباطِلُ
وَقالُوا تَعَرّفُها المَنازِلُ مِنْ مِنًى *** وَما كُلّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أنا عارفُ
فرفع كلّ ولم ينصبه بعارف . إذْ كان معنى قوله : «وما كان من يغشى منى أنا عارف » جحود معرفة من يغشى منى ، فصار في معنى ما أحد . وهذه الآية ( نزلت ) فيما ذكر قبل أن يفرض الله زكاة الأموال . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم ؟ فنزلت : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ واليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فذلك النفقة في التطوّع والزكاة سوى ذلك كله . قال : وقال مجاهد : سألوا فأفتاهم في ذلك ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين وما ذكر معهما .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قول الله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قال : سألوه فأفتاهم في ذلك : فللوالدين والأقربين وما ذكر معهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قوله : قُلْ ما أنْفَقْتُم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ قال : هذا من النوافل . قال : يقول : هم أحق بفضلك من غيرهم .
وهذا الذي قاله السدي من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاة ، وإنما كانت نفقة ينفقها الرجل على أهله ، وصدقة يتصدق بها ، ثم نسختها الزكاة ، قول ممكن أن يكون ، كما قال : وممكن غيره . ولا دلالة في الآية على صحة ما قال ، لأنه ممكن أن يكون قوله : قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبيِنَ الآية ، حَثّا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غير واجبة من الاَباء والأمهات والأقرباء ، ومن سمى معهم في هذه الآية ، وتعريفا من الله عباده مواضع الفضل التي تصرف فيها النفقات ، كما قال في الآية الأخرى : وآتَى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُربى واليَتَامى وَالمَساكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتَى الزّكاة وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه . وقد بينا معنى المسكنة ، ومعنى ابن السبيل فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته .
{ يسألونك ماذا ينفقون } عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخا ذا مال عظيم ، فقال يا رسول الله ماذا تنفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت ) { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره ، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكورا في الآية ، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير . { وما تفعلوا من خير } في معنى الشرط . { فإن الله به عليم } جوابه أي إن تفعلوا خيرا فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه ، وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به .
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 215 )
السائلون هم المؤمنون( {[2002]} ) ، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها وأين يضعون ما لزم إنفاقه ، و «ما » يصح أن تكون في موضع رفع على الابتداء ، و «ذا » خبرها ، فهي بمعنى الذي ، و { ينفقون } صلة ، وفيه عائد على «ذا » تقديره ينفقونه ، ويصح أن تكون { ماذا } اسماً واحداً مركباً في موضع نصب ب { ينفقون } ، فيعرى من الضمير ، ومتى كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب لا ما جاء من قول الشاعر : [ الطويل ] .
وَمَاذا عَسَى الْوَاشُون أَنْ يَتَحَدَّثُوا . . . سِوَى أَنْ يَقُولُوا إنّني لَكِ عاشقُ( {[2003]} )
فإن عسى لا تعمل ، فماذا في موضع رفع( {[2004]} ) وهو مركب إذ لا صلة( {[2005]} ) لذا .
قال قوم : هذه الآية في الزكاة المفروضة( {[2006]} ) ، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين .
وقال السدي : «نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ، ثم نسختها الزكاة المفروضة » ، ووهم المهدوي على السدي في هذا فنسب إليه أنه قال إن الآية في الزكاة المفروضة ، ثم نسخ منها الوالدان ، وقال ابن جريج وغيره : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها ، واليتم فقد الأب قبل البلوغ ، وتقدم القول في المسكين و { ابن السبيل } ، و { ما تفعلوا } جزم بالشرط ، والجواب في الفاء ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «يفعلوا » بالياء على الغائب ، وظاهر الآية الخبر ، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة .