محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

{ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم 215 } .

{ يسألونك ماذا ينفقون } أي : أيّ شيء ينفقونه من أصناف الأموال ؟ { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما مع كونه صلة وصدقة { والأقربين } بعدهما ليكون صلة وصدقة { واليتامى } بعدهم لأن فيهم الفقر مع العجز { والمساكين } بعدهم لاحتياجهم { وابن السبيل } بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله . فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال ، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون ، وأجيبوا ببيان المصرف ؟ فالجواب : أن قوله : { ما أنفقتم من خير } قد تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل مال عدّوه خيرا وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها . قال الشاعر :

إن الصنيعة لا تكون صنيعة *** حتى يصاب بها طريق المصنع !

فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها*** لله أو لذوي القرابة أو دَعِ . . !

/ فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة }{[1220]} . فيما تقدم هذا .

وقال القفال : إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ ( ما ) ، إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية ، لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق المال يخرج قربة إلى الله تعالى ؛ وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال : أن مصرفه أيّ شيء هو ؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال . ونظيره قوله تعالى : { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون* قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول . . . } {[1221]} وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال ، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا ؛ فقوله { ما هي ؟ } لا يمكن حمله على طلب الماهية ، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها . فبهذا الطريق قلنا : إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال . فكذا هاهنا ، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم { ماذا ينفقون ؟ } ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف ، فلهذا حسن هذا الجواب . . ! .

وأجاب الراغب بجوابين :

أحدهما : أنهم سألوا عنهما وقالوا : ما ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ ولكن حذف / في حكاية السؤال أحدهما إيجازا ، ودل عليه الجواب بقوله : { ما أنفقتم من خير } كأنه قيل : المنفق الخير ، والمنفق عليهم هؤلاء ، فلفف أحد الجوابين في الآخر ، وهذا طريق معروف في البلاغة .

الجواب الثاني : إن السؤال ضربان : سؤال جدل ، وحقه أن يطابقه جوابه . لا زائد عليه ولا ناقصا عنه . وسؤال تعلّم وحق المعلّم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم فيطلب ما يشفيه طلب المريض أو لم يطلب . فلما كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى من يُنْفَق من المال ، بين لهم الأمرين جميعا . إن قيل : كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم . . ؟ قيل : إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم ، لا على سبيل الحصر والاستيعاب ، إذ أصناف المنفق عليهم على ما ذكر في غير هذا الموضع .

ولما بين تعالى وجه المصرف وفصّله هذا التفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالإجمال فقال : { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } أي : وكل ما فعلتموه من خير إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله ، وطلبا لجزيل ثوابه ، وهربا من أليم عقابه ، فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالما ، يعني : لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فيجازيكم أحسن الجزاء عليه ، كما قال : { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } {[1222]} وقال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } {[1223]} .


[1220]:[2/ البقرة/ 189] ونصها: {* يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون 189}.
[1221]:[2/ البقرة/ 70 و71] وباقيهما: ... {تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا لئن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون 71}
[1222]:[3/ آل عمران/ 195] ونصها: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب 195}.
[1223]:[99/ الزلزلة/ 7].