الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

قوله تعالى : { مَاذَا يُنْفِقُونَ } : قد تقدَّم أنَّ " ماذا " له ستة استعمالات/ وتحقيقُ القولِ فيه عند قولِه { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا } [ البقرة : 26 ] . وهنا يجوزُ أَنْ تكونَ " ماذا " بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ بمعنى الاستفهام فتكونَ مفعولاً مقدَّماً ، ويجوزُ أن تكونَ " ما " و " ذا " خبرَه ، وهو موصولٌ . و " ينفقون " صلتُه والعائدُ محذوفٌ ، و " ماذا " معلِّقٌ للسؤال فهو في موضعِ المفعولِ الثاني ، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله : { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] ، وجاء " ينفقون " بلفظ الغيبة ؛ لأنَّ فاعلٌ الفعلِ قبلَه ضميرُ غَيْبَةٍ في " يسألونك " ، ويجوزُ في الكلامِ " ماذا ننفقُ " كما يجوزُ : أَقْسَمَ زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ في قولِه تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] في المائدةِ .

[ قوله ] : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوزُ في " ما " وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها ، ف " ما " في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ . و " أنفقْتُمْ " في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، و " مِنْ خيرٍ " تقدَّم إعرابُه في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ }

[ البقرة : 106 ] .

وقوله : { فَلِلْوَالِدَيْنِ } جوابُ الشرطِ ، وهذا الجارُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : فمَصْرِفُه للوالدَيْن ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ : إمَّا مفردٌ وإمَّا جملةٌ على حَسَبِ ما ذُكِر من الخلافِ فيما مَضَى . وتكونُ الجملةُ في محلِّ جزمٍ بجوابِ الشرطِ . والثاني : أن تكونَ " ما " موصولةً ، و " أنفقتم " صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، أي : الذي أنفقتموه . والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ . قال أبو البقاء في هذا الوجهِ : " ومِنْ خيرٍ يكونُ حالاً من العائدِ المحذوفِ " .

وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه ؟ فيه أجوبةٌ منها : أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف ، تقديره : ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه ، فجاء الجوابُ عنهما ، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله : " مِنْ خيرٍ " وعن المُنْفقِ عليه بقوله : " فللوالدَيْن " وما بعده . ومنها : أن يكون " ماذا " سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديرُه : مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون ؟ ومنها : أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكْرَ المُنْفَقِ ، وكلاهما مرادٌ ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى :

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [ البقرة : 171 ] . وقال الزمخشري : قد تضمَّن قولُه : { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيانَ ما يُنفقونه . وهو كلُّ خيرٍ ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها . [ قال ] :

إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً *** حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ "

وأمَّا قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ } ف " ما " شرطيةٌ فقط لظهورِ عملها الجزمَ بخلافِ الأولى . وقرأ علي رضي الله عنه : " وما يفعلوا " بالياء على الغَيْبَة ، فيُحْتمل أن يكونَ من بابِ الالتفات من الخطابِ ، وأن يكونَ مِنْ الإِضمارِ لدلالةِ السياقِ عليه ، أي : وما يفعلِ الناسُ .