معاني القرآن للفراء - الفراء  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

وقوله : { يَسْأَلُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ . . . }

تجعل " ما " في موضع نصبِ وتوقِع عليها " ينفِقون " ، ولا تنصبها ب ( يَسْألونك ) لأنّ المعنى : يسألونك أي شيء ينفقون . وإن شِئت رفعتها من وجهين ؛ أحدهما أن تجعل " ذا " اسما يرفع ما ، كأنك قلت : ما الذي ينفقون . والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي ؛ فيقولون : ومن ذا يقول ذاك ؟ في معنى : من الذي يقول ذاك ؟ وأنشدوا :

عَدَسْ ما لِعبّادٍ عليكِ إِمارة *** أَمِنْتِ وهذا تحمِلين طَلِيق

كأنه قال : والذي تحملين طليق . والرفع الآخر أن تجعل كلّ استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا ؛ لأنّ الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام ، فجعلوه بمنزلة الذي ؛ إذ لم يعمل فيه الفعل الذي يكون بعدها . ألا ترى أنك تقول : الذي ضربت أخوك ، فيكون الذي في موضع رفع بالأَخِ ، ولا يقع الفعل الذي يليها عليها . فإذا نويت ذلك رفعت قولَه : { قلِ العفو كذلك } ؛ كما قال الشاعر :

ألا تسأَلانِ المرء ماذا يُحاوِل *** أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أم ضَلالٌ وباطِل

رفع النحب ؛ لأنه نوى أن يجعل " ما " في موضع رفع . ولو قال : أنحبا فيقضى أم ضلالا وباطلا كان أبين في كلام العرب . وأكثر العرب تقول : وأيُّهم لم أضرب وأيُّهم إلاّ قد ضربت رفع ؛ للعلّة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألاّ يسبقها شيء .

ومما يشبه الاستفهام مما يُرفع إذا تأخَّر عنه الفعل الذي يقع عليه قولهم : كلُّ الناس ضربت . وذلك أن في ( كلّ ) مِثْل معنى هل أحدٌ [ إلاّ ] ضربت ، ومثل معنى أي رجل لم أضرب ، وأي بلدة لم أدخل ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : كلُّ الناس ضربت ؛ كان فيها معنى : ما منهم أحد إلا قد ضربت ، ومعنى أيهم لم أضرب . وأنشدني أبو ثَرْوان :

وقالوا تعرَّفْها المنازلَ ممن مِنىً *** وما كُلُّ من يغشى مِنىً أنا عارف

رفعا ، ولم أسمع أحدا نَصَب كل . قال : وأنشدونا :

وما كُلُّ مَنْ يَظَّنُّنِي أنا مُعتِب *** وما كُلُّ ما يُرْوَى على أقول

ولا تتوهَّم أنهم رفعوه بالفعل الذي سبق إليه ؛ لأنهم قد أنشدونا :

قد عَلِقَت أُمّ الخيار تدَّعى *** على ذنبا كُلُّه لم أصنع

رفعا . وأنشدني أبو الجرَاح :

أرَجَزا تريد أم قريضا *** أم هكذا بينهما تعريضا

*** كلاهما أجِدُ مستريضا ***

فرفع كُلاّ وبعدها ( أجد ) ؛ لأن المعنى : ما منهما واحد إلا أجده هيّنا مستريضا . ويدلّك على أن فيه ضمير جحد قولُ الشاعر :

فكلهمُ جاشاك إلا وجدته *** كعين الكذوب جهدها واحتفالها