قوله تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } يعني : العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور . قال محمد بن إسحاق : هو لقمان بن ناعور بن ناحور بن تارخ وهو آزر . وقال وهب : كان ابن أخت أيوب ، وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب . قال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل . واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ، ولم يكن نبياً ، إلا عكرمة فإنه قال : كان لقمان نبياً . وتفرد بهذا القول . وقال بعضهم : خير لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وروي أنه كان نائماً نصف النهار فنودي : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم علي فسمعاً وطاعةً ، فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاها الظلم من كل مكان إن يعن ، فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ، ومن يخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان ، فهوى في الخطيئة غير مرة ، كل ذلك يعفو الله عنه ، وكان لقمان يؤازره بحكمته . وعن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً . وقال سعيد بن المسيب : كان خياطاً . وقيل : كان راعي غنم . فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألست فلاناً الراعي فبم بلغت ما بلغت ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني . وقال مجاهد : كان عبداً أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين . { أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد* }
ثم ساق - سبحانه - على لسان عبد صالح من عباده ، جملة من الوصايا الحكيمة ، لتكون عظة وعبر للناس ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ . . . الأصوات لَصَوْتُ الحمير } .
قال ابن كثير - رحمه الله - : اختلف السلف فى لقمان ، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة ؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا .
وعن ابن عباس وغيره : كان لقمان عبدا حبشا نجارا . . .
قال له مولاه : اذبح لنا شاة وجئنى بأخبث ما فيها ؟ فذبحها وجهاءه بلسانها وقلبها . ثم قال له مرة ثانية : اذبح لنا شاة وجئنى بأحسن ما فيها ؟ فذبحها وجاءه - أيضاً بقلبها ولسانها ، فقال له مولاه ما هذا ؟ فقال لقمان : إنه ليس من شئ أطيب منهما إذا طابا ، وليس من شئ أخبث منها إذا خبثا .
وقال له رجل : ألست عبد فلان ؟ فما الذى بلغ بك ما أرى من الحكمة ؟ فقال لقمان : قدر الله وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركى مالا يعنينى .
ومن أقواله لابنه : يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة ، يأتك الربح من غير بضاعة . يا بنى ، لا تكن اعجز من هذا الديك الذى يصوت بالأسحار ، وأنت نائم على فراشك ، با بنى ، اعتزل الشر كما يعتزلك ، فإن الشر للشر خلق .
يا بنى ، عليك بمجالس العلماء ، وبسماع كلام الحكماء ، فإن الله - تعالى - يحيى القلب الميت بنور الحكمة .
يا بنى ، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها ، واستقبلت الآخرة ، ودار أنت إليها تسير ، أقرب من دار أنت عنها ترتحل .
وقال الآلوسى ما ملخصه : ولقمان : اسم أعجمى لا عربى وهو ابن باعوراء . قيل : كان فى زمان داود - عليه السلام - وقيل : كان زمانه بين عيسى وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - .
ثم قال الآلوسى : وإنى اختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ، ولم يكن نبيا .
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } كلام مستانف مسوق لإِبطال الإِشراك بالله - تعالى - عن طرق النقل ، بعد بيان إبطال عن طريق العقل ، فى قوله - سبحانه - قبل ذلك : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ . . . } والحكمة : اكتساب العلم النافع والعمل به . و هى : العقل والفهم . أو هى الإِصافة فى القول والعمل .
والمعنى : والله لقد أعطينا - بفضلنا وإحساننا - عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به .
وقوله - سبحانه - { أَنِ اشكر للَّهِ } بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة . أى : أتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكى يزيدك منها .
قال الشوكانى : قوله : { أَنِ اشكر للَّهِ } أن هى المفسرة : لأن فى إيتاء الحكمة معنى القول . وقيل التقدير : قلنا له أن اشكر لى . . وقيل : بأن اشكر لى فشكر ، فكان حكيما بشكره .
والشكر لله : الثناء عليه فى مقابلة النعمة - واستعمالها فيما خلقت له - ، وطاعته فيما أمر به .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
أى : ومن يشكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن نفع شكره إنما يعود إليه ، ومن جحد نعم الله - تعالى - واستحب الكفر على الإِيمان ، فالله - تنعالى - غنى عنه وعن غيره ، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإِنعامه عليهم بالنعم التى لا تعد ولا تحصى : فحميد بمعنى محمود .
فالجملة الكريمة المقصود بها ، بيان غنى الله - تعالى - عن خلقه ، وعدم انتفاعهم بطاعتهم ، لأن منفعتها راجعة إليهم ، وعدم تضرره بمعصيتهم . وإنما ضرر ذلك يعود عليهم . وعبر - سبحانه - فى جانب الشكر بالفعل المضارع ، للإِشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله - تعالى - ، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت ، عادوا إلى طاعته - سبحانه - وشكره .
وعبر فى جانب الكفر بالفعل الماضى ، للإِشعار بأنه لا يصح ولا ينبغى من أى عاقل ، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما ، وأن يجعله فى خبر كان .
وجواب الشرط محذوف ، وقد قام مقامه قوله - تعالى - : { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والتقدير : ومن كفر فضرر كفره راجع إليه . لأن الله - تعالى - غنى حميد .
بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية . يبدؤها في نسق جديد . نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر . ويعالج قضية الشكر لله وحدة ، وتنزيهه عن الشرك كله ، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية .
( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ؛ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن الله غني حميد ) .
ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات : فمن قائل : إنه كان نبيا ، ومن قائل : إنه كان عبدا صالحا من غير نبوة - والأكثرون على هذا القول الثاني - ثم يقال : إنه كان عبدا حبشيا ، ويقال : إنه كان نوبيا . كما قيل : إنه كان في بني إسرائيل قاضيا من قضاتهم . . وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة . الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ) . . وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله . وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر ، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو ، والله غني عنه . فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه : ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه . ومن كفر فإن الله غني حميد ) . . وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة ؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد .