قوله تعالى : { نحن نقص عليك } ، أي : نقرأ عليك { أحسن القصص } ، والقاص هو الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه . معناه : تبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان . وقيل : المراد منه : قصة يوسف عليه السلام خاصة ، سماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا ، من سير الملوك والمماليك ، والعلماء ، ومكر النساء ، والصبر على أذى الأعداء ، وحسن التجاوز عنهم بعد الالتقاء ، وغير ذلك من الفوائد . قال خالد بن معدان : سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة . وقال ابن عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها . قوله تعالى : { بما أوحينا إليك } ما المصدر ، أي : بإيحائنا إليك ، { هذا القرآن وإن كنت } ، وقد كنت ، { من قبله } ، أي : قبل وحينا { لمن الغافلين } ، لمن الساهين عن هذه القصة لا تعلمها . قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ، فأنزل الله عز وجل : { الله نزل أحسن الحديث } { الزمر-23 } فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله عز وجل : { نحن نقص عليك أحسن القصص } ، فقالوا : يا رسول الله لو ذكرتنا ؟ فأنزل الله عز وجل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد-16 ] .
ثم بين - سبحانه - أن هذا القرآن مشتمل على أحسن القصص وأحكمها وأصدقها فقال - تعالى - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : " القصص : إتباع الخبر بعضه بعضا ، وأصله في اللغة المتابعة قال - تعالى - { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ . . } أى اتبعى أثره . وقال - تعالى - { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } أى : اتباعاً ، وإنما سميت الحكاية قصصا ، لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا ، كما يقال : " تلا فلان القرآن ، أى قرأه آية فآية " .
والمعنى : نحن نقص عليك - أيها الرسول الكريم " أحسن القصص " أى : أحسن أنواع البيان ، وأوفاه بالغرض الذي سبق من أجله .
وإنما كان قصص القرآن أحسن القصص ، لاشتماله على أصدق الأخبار ، وأبلغ الأساليب ، وأجمعها للحكم والعبر والعظات .
والباء في قوله { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن } للسببية متعلقة بنقص ، و { ما } مصدرية .
أى : نقص عليك أحسن القصص ، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذى هو في الذورة العليا في بلاغته وتأثيره في النفوس .
وجملة { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } في موضع الحال من كاف الخطاب في { إليك } و " إن " مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف .
والضمير في قوله { مِن قَبْلِهِ } يعود إلى الإِيحاء المفهوم من قوله { أَوْحَيْنَآ } .
والمعنى : نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب ما أوحيناه إليك من هذا القرآن . والحال أنك كنت قبل إيحائنا إليك بهذا القرآن ، من الغافلين عن تفاصيل هذا القصص ، وعن دقائق أخباره وأحداثه ، شأنك في ذلك شأن قومك الأميين .
قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { نحن نقصّ عليك } ، يا محمد ، { أحسن القصص } ، بوحينا إليك هذا القرآن ، فنخبرك فيه عن الأخبار الماضية ، وأنباء الأمم السالفة ، والكتب التي أنزلناها في العصور الخالية . { وَإنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلينَ } ، يقول تعالى ذكره : وإن كنت ، يا محمد ، من قبل أن نوحيه إليك لمن الغافلين عن ذلك ، لا تعلمه ولا شيئا منه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ } ، من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم ، { وَإنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلينَ } .
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسألة أصحابه إياه أن يقصّ عليهم . ذكر الرواية بذلك :
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو الملائي ، عن ابن عباس ، قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، قال : فنزلت : { نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، قال : قالوا : يا نبيّ الله ، فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، قال : ملّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةً ، فقالوا : يا رسول الله حدّثنا فأنزل الله عزّ وجل : { أللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ } . ثم ملوا ملة أخرى ، فقالوا : يا رسول الله حدّثنا فوق الحديث ودون القرآن ، يعنون : القصص . فأنزل الله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ إنّا أنْزَلْناهُ قُرآنا عَرَبِيّا لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أوْحَيْنا إلَيْكَ هَذَا القُرآنَ وَإنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ } . فأرادوا الحديث ، فدلهم على أحسن الحديث . وأرادوا القصص ، فدلهم على أحسن القصص .
حدثنا محمد بن سعيد العطار ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا خلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن ، قال : فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ . . . } ، إلى قوله : { لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ . . . } ، الآية . قال : ثم تلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا ، فأنزل الله تعالى : ا{ للّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابا مُتَشابِها } ، قال خلاد : وزادوا فيه رجلاً آخر ، قالوا : يا رسول الله ، أو قال أبو يحيى : ذهبت من كتابي كلمة ، فأنزل الله : { أَلمْ يَأنِ للّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ } .
{ نحن نقصّ عليك أحسن القصص } أحسن الاقتصاص لأن اقتص على أبدع الأساليب ، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقص والسلب ، واشتقاقه من قص أثره إذا تبعه { بما أوحينا إليك } أي بإيحائنا . { هذا القرآن } يعني السورة ، ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن أحسن نصب على المصدر . { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط ، وهو تعليل لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة .
هذه الجملة تتنزل من جملة { إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } [ سورة يوسف : 2 ] منزلة بدل الاشتمال لأنّ أحسن القصص ممّا يشتمل عليه إنزال القرآن . وكون القصص من عند الله يتنزّل منزلة الاشتمال من جملة تأكيد إنزاله من عند الله .
وقوله : { بما أوحينا إليك هذا القرآن } يتضمّن رابطاً بين جملة البدل والجملة المبدل منها .
وافتتاح الجملة بضمير العظمة للتّنويه بالخبر ، كما يقول كتّاب « الديوان » : أمير المؤمنين يأمر بكذا .
وتقديم الضمير على الخبر الفعليّ يفيد الاختصاص ، أي نحن نقصّ لا غيرُنا ، ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهم : { إنّما يعلمه بشرٌ } [ سورة النحل : 103 ] وقولهم : { أساطير الأولين اكتتبها } [ سورة الفرقان : 5 ] وقولهم : يُعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرّحمان . وقول النضر بن الحارث المتقدّم ديباجة تفسير هذه السورة .
وفي هذا الاختصاص توافُق بين جملة البدل والجملة المبدل منها في تأكيد كون القرآن من عند الله المفاد بقوله : { إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } [ سورة يوسف : 2 ] .
ومعنى { نَقُصُّ } نخبر الأخبار السّالفة . وهو منقول من قَصّ الأثر إذا تتبّع مواقع الأقدام ليتعرّف منتهى سير صاحبها . ومصدره : القصّ بالإدغام ، والقصص بالفكّ . قال تعالى : { فارتدّا على آثارهما قصصاً } [ سورة الكهف : 64 ] . وذلك أنّ حكاية أخبار الماضين تشبه اتّبَاعَ خطاهم ، ألاَ ترى أنّهم سمّوا الأعمال سِيرة وهي في الأصل هيئة السّير ، وقالوا : سار فلان سِيرة فلان ، أي فعل مثل فعله ، وقد فرّقوا بين هذا الإطلاق المجازي وبين قصّ الأثر فخصّوا المجازي بالصّدر المفكّك وغلبوا المصدر المدغم على المعنى الحقيقيّ مع بقاء المصدر المفكك أيضاً كما في قوله : { فارتدّا على آثارهما قَصصاً } .
ف { أحسن القصص } هنا إمّا مفعول مطلق مبيّن لنوع فعله ، وإمّا أن يكون القصص بمعنى المفعول من إطلاق المصدر وإرادة المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، وهو إطلاق للقصص شائع أيضاً . قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب } [ سورة يوسف : 111 ] . وقد يكون وزن فَعْل بمعنى المفعول كالنّبأ والخبر بمعنى المنبّأ به والمخبّر به ، ومثله الحَسب والنقَض .
وجعل هذا القَصص أحسن القصص لأنّ بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس . وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمّنه من العبر والحكم ، فكلّ قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه ، وكلّ قصة في القرآن هي أحسن من كلّ ما يقصّه القاصّ في غير القرآن . وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصّة يوسف عليه السّلام أحسن من بقيّة قصص القرآن كما دلّ عليه قوله : { بما أوحينا إليك هذا القرآن } .
والباء في { بما أوحينا إليك } للسببيّة متعلّقة ب { نقُصُّ } ، فإنّ القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنّه وارد من العليم الحكيم ، فهو يوحي ما يعلم أنّه أحسن نفعاً للسّامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب ، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذّوق ممّا لا تأتي بمثله عقول البشر .
واسم الإشارة لزيادة التمييز ، فقد تكرّر ذكر القرآن بالتّصريح والإضمار واسم الإشارة ستّ مرّات ، وجمع له طرق التعريف كلّها وهي اللاّم والإضمار والعلمية والإشارة والإضافة .
وجملة { وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين } في موضع الحال من كاف الخطاب . وحرف { إنْ } مخفّف من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف .
وجملة { كنتَ من قبله لمن الغافلين } خبر عن ضمير الشأن المحذوف واللاّم الدّاخلة على خبر { كنتَ } لام الفرق بين { إنْ } المخففة و ( إنْ ) النافية .
وأدخلت اللاّم في خبر كان لأنه جزء من الجملة الواقعة خبراً عن ( إن ) .
والضمير في { قبله } عائد إلى القرآن . والمراد من قبل نزوله بقرينة السياق .
والغفلة : انتفاء العلم لعدم توجّه الذهن إلى المعلوم ، والمعنى المقصود من الغفلة ظاهر . ونكتة جعله من الغافلين دون أن يوصف وحده بالغفلة للإشارة إلى تفضيله بالقرآن على كل من لم ينتفع بالقرآن فدخل في هذا الفضل أصحابه والمسلمون على تفاوت مراتبهم في العلم .
ومفهوم { من قبله } مقصود منه التعريض بالمشركين المُعْرضين عن هدي القرآن . قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقية قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسَكَتْ الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقَوا وزَرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنّما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تُنبت كلأ . فذلك مَثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلّم . ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به » أي المشركين الذين مثَلُهم كمثل من لا يرفع رأسه لينظر .