اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ} (3)

قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } الآية .

{ نَحْنُ نَقُصُّ } : مبتدأ وخبر ، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه ، قال تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : أتَّبعي أثره ، { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] ، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً ؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث ، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً ، كما يقال : تلا القرآنَ إذا قرأهُ ؛ لأنَّه يتلُو ، أي : يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ ، والمعنى : نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ ، والقرُونِ الماضية .

روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال : لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً ، فقالوا : يَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عز وجل ذكره { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] فقالوا : يا رسول الله ، لو ذكرتنَا ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } [ الحديد : 16 ] .

قوله : { أَحْسَنَ القصص } في انتصابه وجهان :

أحدهما : أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به ، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول ، كالخلقِ بمعنى : المخلُوقِ ، أو جعلته فعلاً بمعنى : مفعُول ، كالقَبْضِ ، والنَّقْضِ بمعنى : المَقْبُوض ، والمَنْقُوض ، أي : نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله : { أَحْسَنَ القصص } : لِمَا فيه من العبرة ، والنُّكتة ، والحكمةِ ، والعجائب التي ليست في غيرها .

فإحدى الفوائد في هذه القصة : أنه لا دافع لقضاءِ الله ، ولا مانع من قدر الله ، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير ؛ فلو اجتمع العالمُ ، لمْ يقدروا على دفعه .

والفائدة الثانية : أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ ، والنُقصَانِ .

والفائدة الثالثة : أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج ، كما في حقِّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام ؛ فإنَّه لما صبر ، نال مقصُوده ، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه .

والوجه الثاني : أن يكون منصوباً على المصدر المبين ، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول ، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً ، أي : نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص .

وعلى هذا ؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان ، لا إلى القصَّة ، والمراد بهذا الحسن : كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز ، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة ، والبلاغة .

و " أحْسَنَ " : يجوز أن يكون : أفعل تفضيل على بابها ، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن ، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها ، أي : القصص الحسن .

قال العلماء رضي الله عنهم : ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن ، وكرَّرها بمعنى واحدٍ ، في وجوهٍ مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة ، وقد ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ولم يكرِّرها ؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر ، ولا على معارضة غير المتكرِّر .

فصل

قال القرطبي : وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً :

أحدها : أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم ، ما تتضمن هذه القصَّة ؛ لقوله تعالى في آخرها { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .

وثانيها : لحُسن مجاوزة يوسف إخوته ، وصبْرِه على أذاهُم ، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم ، وكرمه في العفو عنهُم ، حتَّى قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } [ يوسف : 92 ] .

وثالثها : أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين ، والملائكة ، والجنِّ ، والشياطين ، والإنس ، والطيرِ ، وسير الملوكِ ، والمماليكِ ، والتُّجارِ ، والعلماءِ ، والجهال ، والرِّجال ، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ ، وذكر التَّوحيد ، والفقهِ ، والسِّير ، وتعبيرِ الرُّؤيا ، والسِّياسةِ ، والمعاشرةِ ، وتدبير المعاشِ ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا .

ورابعها : أنَّ فيها ذكر الحبيب ، والمحبُوب ، وسيرهما .

وخامسها : أنَّ " أحْسنَ " هنا بمعنى : أعجب .

وسادسها : سُمِّيت أحسن القصص ؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة ، وانظُر إلى يوسف ، وأبيه وإخوته ، وامرأة العزيز ، قيل : والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف ، وحسن إسلامهُ ، ومستعبر الرؤيا ، والسَّاقي ، والشَّاهد فيما يقال ، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير ، والله تعالى أعلم .

قوله : { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } " الباء سببيَّة " ، وهي متعلقةٌ ب " نَقُصُّ " و " مَا " مصدريَّة ، أيك بسبب إيحائنا " .

قوله : { هذا القرآن } يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أن ينتصب على المفعولية ب " أَوْحَيْنَا " .

والثاني : أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني : بَيْن " نَقُصُّ " وبين " أوْحَيْنَا " فإن كلاًّ منهما يطلب " هذا القُرآنَ " وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا " أحْسنَ " : منصوباً على المصدر ، ولم يقدَّر ل " نَقُصُّ " مفعولاً محذوفاً .

قوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] تقدّم إعراب نظيره ، والمعنى : قد كنت من قبله ، أي : من قبل وحينان لمن الغافلين ، أي : لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا .

وقيل : لمن الغافلين : عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك ، كقوله تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] .

قال بعض المفسرين : سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص ؛ لما فيها من العبر ، والحكم ، والنُّكتِ ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا ، من سير الملوكِ ، والمماليكِ ، والعلماء ، ومكرِ النِّساء ، والصبْر على أذى الأعداء ، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء ، وغير ذلك من الفوائد .

قال خالد بن معدان : " سورة يوسف ، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة " .

وقال عطاء رحمه الله : " لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا " .