{ قال يا نوح انه ليس من أهلك } لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : { إنه عمل غير صالح } فإنه تعليل لنفي كونه من أهله ، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادْكّرتْ *** فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيها وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه . وقرأ الكسائي ويعقوب { إنه عمل غير صالح } أي عمل عملا غير صالح . { فلا تسألن ما ليس لك به علم } ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك ، وإنما سمي نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده أو استفسار المانع للإنجاز في حقه ، وإنما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر . وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل .
معنى قوله تعالى : { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام : { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال .
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي
وقال تعالى : { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } [ التوبة : 56 ] .
وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته .
وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } ف ( إنّ ) فيه لمجرد الاهتمام .
و{ عَمَلٌ } في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر ( عمل ) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .
وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » بنون مشددة مفتوحة . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو .
ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبإ : 38 ] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك .
وكان قوله : { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .
ثم إن كان قول نوح عليه السّلام { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ .
وعلى كل الوجوه فقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام .
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : { ما ليس لك به علم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.