137- إن الإيمان إذعان مطلق وعمل مستمر بالحق ، فالمترددون المضطربون ليسوا بمؤمنين ، فالذين يؤمنون ثم يكفرون ، ثم يؤمنون ثم يكفرون ، وبهذا يزدادون كفراً ، ما كان الله غافراً لهم ما يفعلون من شر ، ولا ليهديهم إلى الحق ، لأن غفران الله يقتضي توبة وإقلاعاً عن الشر ، وهدايته تكون لمن يتجهون إلى الحق ويطلبونه .
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ، ثم عاد فيه ثم رجع ، واستمر على ضلاله{[8469]} وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ، ولا يغفر الله له ، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ، ولا طريقا إلى الهدى ؛ ولهذا قال : { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جُمَيع ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } قال : تَمَّمُوا{[8470]} على كفرهم حتى ماتوا . وكذا قال مجاهد .
وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى ، عن عامر الشّعْبي ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : يستتاب المرتد ، ثلاثًا ، ثم تلا هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا }
استئناف عن قوله : { ومن يكْفُرْ بالله } [ النساء : 136 ] الآية ، لأنّه إذا كان الكفر كما علمت ، فما ظنّك بكفر مضاعَف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان ، وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق ، فكفره بئس الكفر . وقد قيل : إنّ الآية أشارت إلى اليهود لأنّهم آمنوا بموسى ثم كفروا به إذ عبدوا العجل ، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد ، وعليه فالآية تكون من الذمّ المتوجّه إلى الأمّة باعتبار فعل سلفها ، وهو بعيد ، لأنّ الآية حكم لا ذَمّ ، لقوله { لم يكن الله ليغفر لهم } فإنّ الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل ، ولكنّهم تابوا فما استحقّوا عدم المغفرة وعدمَ الهداية ، كيف وقد قيل لهم { فتوبوا إلى بارئكم } إلى قوله : { فتاب عليكم } [ البقرة : 54 ] ، ولأنّ المتأخّرين منهم ما عبدوا العجل حتّى يُعَدَّ عليهم الكفرُ الأول ، على أنّ اليهود كفروا غير مرّة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان ، وكفروا في زمن بختنصر . والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله : { ثم ازدادوا كفراً } أنّهم كفروا كَفْرَةً أخرى ، بل المراد الإجمال ، أي ثم كفروا بعد ذلك ، كما يقول الواقِف : وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث ، ويكون المراد من الآية أنّ الذين عرف من دأبهم الخفّة إلى تكذيب الرسل ، وإلى خلع ربقة الديانة ، هم قوم لا يغفر لهم صُنعهم ، إذْ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله .
وقيل : نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ، ولا قصد حينئذٍ إلى عدد الإيمانات والكَفَرات . وعندي : أنّه يعني أقواماً من العرب من أهل مكة كانوا يتّجرون إلى المدينة فيؤمنون ، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرّر منهم ذلك ، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] .
وعلى الوجوه كلّها فاسم الموصول من قوله : { إنْ الذين . . . كفروا } مراد منه فريق معهود ، فالآية وعيد لهم ونذارة بأنّ الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم ، لأنّه حرمهم سبب المغفرة ، ولذلك لم تكن الآية دالّة على أنّ من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده . فقد أجمع المسلمون على أنّ الإيمان يجُبّ ما قبله ، ولو كفر المرء مائة مرة ، وأنّ التوبة من الذنوب كذلك ، وقد تقدّم شِبْه هذه الآية في آل عمران ( 190 ) وهو قوله : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } فإن قلت : إذا كان كذلك فهؤلاء القوم قد علم الله أنّهم لا يؤمنون وأخبر بنفي أن يهديهم وأن يغفر لهم ، فإذن لا فائدة في الطلب منهم أن يؤمنوا بعد هذا الكلام ، فهل هم مخصوصون من آيات عموم الدعوة .
قلت : الأشخاص الذين علم الله أنّهم لا يؤمنون ، كأبي جهل ، ولم يخبر نبيئَه بأنّهم لا يؤمنون فهم مخاطبون بالإيمان مع عموم الأمّة ، لأنّ علم الله تعالى بعدم إيمانهم لم ينصب عليه أمَارة ، كما عُلم من مسألة ( التكليف بالمحال العارض ) في أصول الفقه ، وأمّا هؤلاء فلو كانوا معروفين بأعيانهم لكانت هذه الآية صارفة عن دعوتهم إلى الإيمان بعدُ ، وإن لم يكونوا معروفين بأعيانهم فالقول فيهم كالقول فيمن علم الله عدم إيمانه ولم يخبر به ، وليس ثمة ضابط يتحقّق به أنّهم دُعوا بأعيانهم إلى الإيمان بعد هذه الآية ونحوها .
والنفي في قوله : { لم يكن الله ليغفر لهم } أبلغ من : لا يغفر الله لهم ، لأنّ أصل وضع هذه الصيغة للدلالة على أنّ اسم كانَ لم يُجعل ليَصْدر منه خبرُها ، ولا شكّ أنّ الشيء الذي لم يُجعل لشيء يكون نابياً عنه ، لأنّه ضِدّ طبعه ، ولقد أبدع النحاة في تسمية اللام التي بعدَ كان المنفية ( لامَ الجحود ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.