فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا} (137)

{ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا } أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت ثم ازدادت كفرا بعد ذلك كله أنه { لم يكن الله } سبحانه { ليغفر لهم } ذنوبهم ما أقاموا عليه { ولا ليهديهم سبيلا } طريقا يتوصلون به إلى الحق ويسلكونه إلى الخير لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ويؤمنوا إيمانا صحيحا لأن قلوبهم قد تعودت الكفر وتمرنت على الردة ، وكان الإيمان عندهم أهون شيء وأدونه ، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم .

وفي هذا إشارة إلى أن الكفر بعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة كما قاله الأصفهاني وغيره ، وهذا الاضطراب منهم تارة يدعون أنهم مؤمنون ، وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم ، يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص .

قيل المراد بهؤلاء اليهود ، فإنهم آمنوا بموسى والتوراة ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم آمنوا به عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، والمراد بازدياد الكفر أنهم استمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم ، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة ، والإسلام يجب ما قبله ، ولكن لما كان هذا مستبعدا منهم جدا كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا{[554]} .

وعن قتادة قال : هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن زيد قال : هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك بموتهم على الكفر ، وذلك لأن من تكرر منه الإيمان والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة دل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه ، ومن كان كذلك لا يكون مؤمنا بالله إيمانا كاملا صحيحا وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان .

قال علي : لا تقبل أي توبة مثل هذا التلاعب ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن التوبة مقبولة ، وظاهر القرآن مع علي .


[554]:قال ابن الجوزي: أنها اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، هذا قول ابن عباس. وروى عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد.