البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا} (137)

{ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } لمّا أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها ، وذكر أنّ من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال ، أعقب ذلك بفساد ، وطريقة من كفر بعد الإيمان ، وأنه لا يغفر له على ما بين .

والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين ، فحيث لقوا المؤمنين «قالوا آمنا » وإذا لقوا أصحابهم { قالوا إنا مستهزئون } ولذلك جاء بعده بشر المنافقين ، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه .

ومعنى ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات .

وقيل : ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين ، وإلى هذا ذهب : مجاهد وابن زيد .

وقال الحسن : هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت : { آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام .

قال قتادة وأبو العالية وطائفة ، ورجحه الطبري : هي في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وضعف هذا القول ابن عطية قال : يدفعه ألفاظ الآية ، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد .

وقال بعضهم : هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين ، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث ، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار .

وقال القفال : ليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : { مذبذبين بين ذلك } ويدل عليه قوله : { بشر المنافقين } .

وقال الزمخشري : المعنى أنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ، ومرئت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يدلونهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ولم يغفر لهم ، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وأنه أمر لا يكاد يكون .

وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على شر حال وأقبح صورة انتهى كلامه .

وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال .

{ لم يكن الله ليغفر لهم } الجمهور على تقدير محذوف أي : ثم ازدادوا كفراً وماتوا على الكفر ، لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مراراً ثم تاب عن الكفر وآمن ووافى تائباً ، أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق وإن تردد فيه مراراً .

وقيل : يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه ، فيكون قوله : لم يكن الله ليغفر لهم إخباراً عن موتهم على الكفر .

وقيل : الكلام خرج على الغالب المعتاد ، وهو أنّ مَن كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ولا عظم قدر .

والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر .

وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم ، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل ، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهم أحياء ، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود ، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم .

فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام ، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام ، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك مشبعاً في سورة آل عمران .

وقال الزمخشري : نفي للغفران والهداية ، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام ، والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى .

وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين ، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم ، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم ، واللام للتأكيد زيدت في النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة .

والبصريون يقولون : النصب بإضمار أنْ ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أنْ يكون خبراً ، لأنه معنى والمخبر عنه جثة .

ولكن الخبر محذوف ، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة .

وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة .

ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم .

/خ141