محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا} (137)

ولما أمر تعالى بالايمان ورغب فيه ، بين فساد طريقة من يكفر بعد الايمان ، فقال :

( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا137 ) .

( ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ) في الآية وجوه :

الأول : أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد ، وعهد منهم ازدياد الكفر والاصرار عليه ، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف ، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله . لان قلوب أولئك ، الذين هذا ديدنهم ، قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردة . وكان الايمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى . وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الايمان بعد تكرار الردة ، ونصحت توبتهم ، لم يقبل منهم ولم يغفر لهم . لأن ذلك مقبول . حيث هو بذل للطاقة واستفراغ الوسع . ولكنه استبعاد له واستغراب . وانه أمر لا يكاد يكون . وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ، ثم يتوب ثم يرجع ، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات . والغالب أنه يموت على الفسق . فكذا هنا .

الثاني : قال بعضهم : هم اليهود . آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل . ثم آمنوا بعد عوده اليهم ثم كفروا بعيسى والانجيل . ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلام ليسوا مؤمنين بموسى . ثم كافرين بالعجل ، ثم مؤمنين بالعود ، ثم كافرين بعيسى . بل هم اما مؤمنون بموسى وغيره ، أو كفار لكفرهم بعيسى والانجيل . والجواب : أن هذا انما يرد لو أريد قوم بأعيانهم : كالموجودين وقت البعثة . أما لو أريد جنس ونوع ، باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم ، فلا إيراد . والمقصود حينئذ استبعاد ايمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم .

الثالث : قال آخرون : المراد المنافقون . فالايمان الأول اظهارهم الاسلام . وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم . وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم . والايمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا انا مؤمنون . والكفر الثاني هو أنهم ( إذا خلوا{[2365]} إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) . وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين . وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا . قال تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) {[2366]} : قال القفال رحمه الله : وليس المراد بيان هذا العدد . بل المراد ترددهم . كما قال : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) . قال : والذي يدل عليه ، قوله تعالى بعد هذه الآية : ( بشر المنافقين ) .

الرابع : قال قوم : المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الايمان تارة والكفر أخرى . على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ){[2367]} . وقوله : ( ثم ازدادوا كفرا ) معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية من الاسلام .

نقل هذه الوجوه الزمخشري والرازي وغيرهما . وكلها مما يشمله لفظ الآية .

تنبيه :

في الآية مسائل :

الأولى : قال في ( الاكليل ) : استدل بها من قال : تقبل توبة المرتد ثلاثا . ولا تقبل في الرابعة .

وقال بعض الزيدية في ( تفسيره ) : دلت على أن توبة المرتد تقبل . لأنه تعالى أثبت ايمانا بعد كفر ، تقدمه ايمان .

/ وأقول : دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة . واما معه ، فلا كما لا يخفى .

ثم قال : وعن اسحاق : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته . وهي رواية الشعبي عن علي عليه السلام . انتهى .

وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته . كما أسلفنا ذلك في آل عمران في قوله تعالى : ( كيف يهدي الله قوما . . . ) الآية{[2368]} . وقوله بعدها : ( ان الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا . . . ) الآية{[2369]} وذكرنا ، ثمة ، أن هذه الآية كتلك الآية . وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه اسحاق وأحمد . واما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد ، وان تكررت . وبعد . فالمقام دقيق . والله أعلم .

الثانية : دلت على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان . فوجب أن يكون الايمان نصا كذلك . لأنهما ضدان متنافيان . فإذا قبل أحدهما التفاوت ، قبله الآخر .


[2365]:|2/ البقرة/ 14| ونصها: (واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزءون14).
[2366]:|2/ البقرة/ 221| (... ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون الى النار والله يدعو الى الجنة والمغفرة باذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون221).
[2367]:|3/ آل عمران/ 72| ونصها: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون72).
[2368]:|3/ آل عمران/ 86| ونصها: (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين86).
[2369]:|3/ آل عمران/ 90| (... لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون90).