32- الذين يجتنبون ما يكبر عقابه من الذنوب وما يعظم قبحه منها ، لكن الصغائر من الذنوب يعفو الله عنها ، إن ربك عظيم المغفرة ، هو أعلم بأحوالكم ، إذ خلقكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم في أطواركم المختلفة ، فلا تصفوا أنفسكم بالتزكي مدحاً وتفاخراً ، هو أعلم بمن اتقى ، فزكت نفسه حقيقة بتقواه .
وقال هاهنا : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } . وهذا استثناء منقطع ؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر{[27679]} عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فَزِنَا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي ، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الرزاق ، به{[27680]} .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن{[27681]} ثور حدثنا مَعْمَر ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ؛ أن ابن مسعود قال : " زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللَّمَم " {[27682]} . وكذا قال مسروق ، والشعبي .
وقال عبد الرحمن بن نافع - الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي - قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : القُبلة ، والغمزة ، والنظرة ، والمباشرة ، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل ، وهو الزنا .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال : في هذه الآية : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه ، قال الشاعر :
إنْ تَغْفِر اللهُمّ تغفر جَمّا *** وَأيّ عَبْد لَكَ مَا أَلَمَّا? !
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ، قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما? !
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا {[27683]} .
قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما? !
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن عثمان أبي{[27684]} عثمان البصري ، عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار : لا نعلمه يُروى متصلا إلا من هذا الوجه . وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة " تنزيل " وفي صحته مرفوعا نظر {[27685]} .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - أراه رفعه - : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : " اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود " ، قال : " ذلك{[27686]} الإلمام " {[27687]} .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَديّ ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أبي رَجاء ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر ، فيجتنبها ويتوب منها .
وقال ابن جرير{[27688]} ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } يلم بها في الحين . قلت : الزنا ؟ قال : الزنا ثم يتوب .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : { اللَّمَمَ } الذي يلم المرَّةَ .
وقال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن { اللَّمَمَ } فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب . وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها مَلَك كريم . حكاه البغوي .
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب ؛ أن عبد الله بن عمرو قال : { اللَّمَمَ } : ما دون الشرك .
وقال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعفي ، عن عطاء ، عن ابن الزبير : { إِلا اللَّمَمَ } قال : ما بين الحدين : حد الدنيا {[27689]} وعذاب الآخرة . وكذا رواه شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، مثله سواء .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا اللَّمَمَ } كل شيء بين {[27690]} الحدين : حد الدنيا {[27691]} وحد الآخرة ، تكفره الصلوات ، وهو {[27692]} اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة . وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } أي : رحمته وَسِعَت كل شيء ، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كقوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] .
وقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض } أي : هو بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر{[27693]} عنكم وتقع منكم ، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر ، ثم قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير{[27694]} . وكذا قوله : { وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله ، وشقي أم سعيد .
قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا ، فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا يَفَعَةً ، فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا - لا أبا لك - فماذا بعد هذا ننتظر ؟{[27695]} رواه ابن أبي حاتم عنه .
وقوله : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، كما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } [ النساء : 49 ] .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عَمْرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي بَرّةَ ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت بَرَّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم " . فقالوا : بم نسميها ؟ قال : " سموها زينب " {[27696]} .
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة ، عن أبيه قال : مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ! قطعت عُنُقَ صاحبك - مرارًا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا - والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا - أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " {[27697]} .
ثم رواه عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، به . وكذا رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من طرق ، عن خالد الحذاء ، به{[27698]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب .
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري ، عن منصور ، به {[27699]} .
قوله : { الذين } نعت ل { الذين } [ النجم : 31 ] المتقدم قبله ، و : { يجتنبون } معناه : يدعون جانباً . وقرأ جمهور القراء والناس : «كبائر الإثم » وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي : «كبير الإثم » على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقوله : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }{[10710]} [ الشعراء : 100 ] ، وكقوله : { وحسن أولئك رفيقاً }{[10711]} [ النساء : 69 ] ونحو هذا .
واختلف الناس في الكبائر ما هي ؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في الأحاديث وقد مضى القول في ذكرها واختلاف الأحاديث فيها في سورة النساء . وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا ، أو توعد بنار في الآخرة ، أو لعنة ونحو هذا خاصاً بها فهي كثيرة العدد ، ولهذا قال ابن عباس حين قيل له أسبع هي ؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وقال زيد بن أسلم : «كبير الإثم » هنا يراد به : الكفر . و { الفواحش } هي المعاصي المذكورة .
وقوله : { إلا اللمم } هو استثناء يصح أن يكون متصلاً ، وإن قدرته منقطعاً ساغ ذلك ، واختلف في معنى { اللمم } فقال ابن عباس وابن زيد معناه : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام . قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : إن سبب الآية أن الكفار قالوا للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف }{[10712]} [ النساء : 23 ] وقال ابن عباس وغيره : ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه ، ذكر الطبري عن الحسن أنه قال في اللمة : من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كالذي قبله ، فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى ، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي ، وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم : [ الرجز ]
إن تغفر اللهم تغفر جما*** وأي عبد لك لا ألما{[10713]}
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم : { اللمم } صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصاً بها مذكوراً لها ، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها ، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها ، ويعضد هذا القول ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان ، وإلا فهو اللمم »{[10714]} وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار{[10715]} فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر .
وتظاهر العلماء في هذا القول ، وكثر المائل إليه . وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال : { اللمم } ما دون الشرك ، وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو . وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي : { اللمم } ما دون الزنا . وقال نفطويه : { اللمم } ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : { اللمم } الهم بالذنب وحديث النفس به دون أن يواقع . وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب : أنه ما خطر على القلب ، وذلك هو لمة الشيطان . قال الزهراوي وقيل : { اللمم } نظرة الفجأة ، وقاله الحسين بن الفضل . ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله : { إن ربك واسع المغفرة } .
وقوله تعالى : { هو أعلم بكم } الآية ، روي عن عائشة أنها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله ، ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة ، فنزلت الآية فيهم{[10716]} ، ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر ، وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، وقوله : { أعلم بكم } قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه : هو عالم بكم . وقال جمهور أهل المعاني : بل هو التفضيل بالإطلاق ، أي هو أعلم من الموجودين جملة ، والعامل في { إذ } { أعلم } ، وقال بعض النحاة العامل فيه فعل مضمر تقديره : اذكروا إذ ، والمعنى الأول أبين ، لأن تقديره : فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون ، والإنشاء من الأرض : يراد به خلق آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء . و : { أجنة } جمع جنين .
وقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه ، ويحتمل أن يكون نهياً عن أن يزكي بعض الناس بعضاً وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته{[10717]} . وأما تزكية الإمام والقدرة أحداً ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز ، وقد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها ، وأصل التزكية إنما هو التقوى ، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم .
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ، إن ربك واسع المغفرة }
وقوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم } الخ صفة ل { الذين أحسنوا } ، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإِثم والفواحش ، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات ، وذلك جامع التقوى . وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعُدّ من الإِحسان لأن فعل السيئات يُنافي وصفهم بالذين أحسنوا فإنهم إذا أتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات سيئات .
وقرأ الجمهور { كبائر الإثم } بصيغة جمع { كبيرة } . وقرأ حمزة والكسائي { كبيرَ الإِثم } بصيغة الإِفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع .
والمراد بكبائر الإِثم : الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد الدين التحذير منه أو ذكر له وعيداً بالعذاب أو وصف على فاعله حداً .
قال إمام الحرمين : « الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراثثِ مرتكبها بالدين وبرقة ديانته » .
وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي ، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثماً .
والفواحش : الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزاً الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة ، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [ الأعراف : 33 ] الآية وفي سورة النساء { 31 } في قوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإِثم ولا من الفواحش .
فالاستثناء بمعنى الاستدراك . ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين ، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإِثم فلذلك حق الاستدراك ، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة : أما العامة فلكي لا يعامِل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر ، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يَقُل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم ، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر . فهذا الاستدراك بشارة لهم ، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم . وقد أخطأ وضاح اليَمن في قوله الناشىء عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته :
فما نوَّلَتْ حتى تضرعتُ عندها *** وأنبأتُها ما رَخَّص الله في اللَّمم
واللمم : الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم ، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم بعدم الإكثار من ارتكابه . وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر .
فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة . سمي : اللمم ، وهو اسم مصدر أَلمَّ بالمكان إلماماً إذا حلّ به ولم يُطل المكث ، ومن أبيات الكتاب :
قريشي منكمُ وَهَوَايَ مَعْكُم *** وإن كانت زيارتكم لِمامَا
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نَبْهان التَمَّار كان له دُكان يبيع فيه تمراً { أي بالمدينة } فجاءته امرأة تشتري تمراً فقال لها : إنّ داخل الدُكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي وقال : ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته { أي غصباً عليها } إلا الجماع ، فنزلت هذه الآية ، أي فتكون هذه الآية مدنية أُلحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة .
والمعنى : أن الله تجاوز له لأجل توبته . ومن المفسرين من فسر اللَّمم بِالهَمّ بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي .
وقوله : إن ربك واسع المغفرة } تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإِثم والفواحش شرطاً في ثبوت وصف { الذين أحسنوا } لهم .
وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه { ربك } دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق .
وفي إضافة { رب } إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته .
والواسع : الكثير المغفرة ، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه قال تعالى : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } وتقدم في سورة غافر { 7 } .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أمهاتكم فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى } .
الخطاب للمؤمنين ، ووقوعه عقب قوله : { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } ينبىء عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير مُوجه لليهود كما في « أسباب النزول » للواحدي وغيره . وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري . قال : " كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون : هو صدِّيق ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت يهود ، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد " فأنزل الله هذه الآية . وعبد الله بن لهيعة ضَعفه ابن معين وتَركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي . وقال الذهبي : العَمل على تضعيفه ، قلت : لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال : فأنزل الله هذه الآية ، وإنما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذاً بعموم قوله : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } الخ ، حجة عليهم ، وإلاّ فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة .
وقال ابن عطية : حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم .
وكأنَّ الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله : { فلا تزكوا أنفسكم } بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذْ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عمّا لو آخذهم به لأحرجهم فقوله : { هو أعلم بكم } نظير قوله : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } [ الأنفال : 66 ] الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } .
فينبغي أن تحل جملة { هو أعلم بكم } إلى آخرها استئنافاً بيانياً لجملة { إن ربك واسع المغفرة } لما تضمنته جملة { إن ربك واسع المغفرة } من الامتنان ، فكأن السامعين لما سمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم ، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيراً من بَلْه ما أطَّلَعتم عليه " . وقوله : { إذ أنشأكم } ظرف متعلق ب { أعلم } ، أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم .
والمعنى : أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم ، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم . وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإِسراء من قول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة « إن أمتك لا تطيق ذلك وإني جربت بني إسرائيل » أي وهم أشد من أمتك قوة ، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقرر في علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى : { وخلق الإِنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] ، فإن إنشاء أصل الإِنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل . ومنه قوله النبي : " إن المرأة خُلقت من ضِلَع أعوج " . وقوله : { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو متقضى قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] .
والأجنة : جمع جنين ، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم ، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث .
وفي { بطون أمهاتكم } صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه . وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيراً باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة ، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار .
وجملة { فلا تزكوا أنفسكم } اعتراض بين جملة { هو أعلم بكم } وجملة
{ أفرأيت الذي تولى } [ النجم : 33 ] الخ ، والفاء لتفريع الاعتراض ، وهو تحذير للمؤمنين من العُجب بأعمالهم الحسنة عجباً يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحدٌ على غيره بالثناء عليه بعمله .
و { تزكوا } مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جَهَّله ، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة .
فقوله : { أنفسكم } صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله : { فلا تزكوا } إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل : ركب القوم دوابهم .
والمعنى : لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولاً تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها ، أو إظهارها للناس ، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } [ يوسف : 55 ] . وعن الكلبي ومقاتل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع { أنفسكم } إلى معنى قَومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي ليسلم بعضكم على بعض . والمعنى : فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيرُه ذلك .
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم . ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم عطية : « رحمةُ الله عليك أبا السائب { كنية عثمان بن مظعون } فشهادتي عليك لقد أكرمكَ الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُدريك أن الله أكرمه ، فقالت : إذا لم يُكرمه الله فمنْ يكرمهُ الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسولُ الله ما يُفعل بي » . قالت أم عطية : فلا أزكي أحداً بعدَ ما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون إذا أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيراً ولا أزكي على الله أحداً .
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : « سميت ابنتي بَرة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الإسم ، وسُمِّيتُ برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم ، قالوا : بم نسميها ؟ قال : سموها زينب » . وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس ، أي طهارتها وصلاحها ، تفويضاً بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفةَ الموافقةِ لظواهرهم وبين أنواعها بَون .
وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخِبرة واتهام القرائن والبوارق .
فلا يدخل في هذا النهي الإِخبارُ عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثل ما أريد من قوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن ومرادهم منه واضح .
ووقعت جملة { هو أعلم بمن اتقى } موقع البيان لسبب النهي أو لأهمِّ أسبابه ، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى ، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها . وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير : « لا أزكي على الله أحداً » أي لا أزكى أحداً معتلياً حق الله ، أي متجاوزاً قدري .