فجاءوا{[14865]} يهرعون إليه . يقولون له على سبيل التهكم ، قَبَّحهم الله : { أَصَلاتُكَ } {[14866]} ، قال الأعمش : أي : قرآنك{[14867]} { تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : الأوثان والأصنام ، { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } فنترك التطفيف{[14868]} على قولك ، هي أموالنا نفعل فيها ما نريد .
[ قال الحسن ]{[14869]} في قوله : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }{[14870]} إيْ والله ، إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم .
وقال الثوري في قوله : { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } يعنون الزكاة .
وقولهم : { إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } قال ابن عباس ، وميمون بن مِهْرَان ، وابن جُرَيْج ، وابن أسلم ، وابن جرير : يقولون ذلك - أعداء الله - على سبيل الاستهزاء ، قبحهم الله ولعنهم عن رحمته ، وقد فَعَلْ .
{ قالوا يا شُعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } من الأصنام ، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه . وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر . وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى : أصلواتك تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره . { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا . وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على { أن نترك } وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء . وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك . { إنك لأنت الحليم الرّشيد } تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك ، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك .
قرأ جمهور الناس «أصلواتك » بالجمع ، وقرأ ابن وثاب «أصلاتك » بالإفراد ، وكذلك قرأ في براءة { إن صلاتك }{[6469]} وفي المؤمنين : { على صلاتهم }{[6470]} كل ذلك بالإفراد .
واختلف في معنى «الصلاة » هنا ، فقالت فرقة : أرادوا الصلوات المعروفة ، وروي أن شعيباً عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً إلا فرض عليه الصلاة والزكاة . وقيل : أرادوا قراءتك . وقيل : أرادوا : أمساجدك ؟ وقيل : أرادوا : أدعواتك .
قال القاضي أبو محمد : وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز ، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع : فمعنى هذا : ألما كنت مصلياً تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا ؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل : أمرته ، كما قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }{[6471]} .
وقوله : { أن نترك ما يعبد آباؤنا } نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى وقرأ جمهور الناس : «نفعل » و «نشاء » بنون الجماعة فيهما ؛ وقرأ الضحاك بن قيس «تفعل » و «تشاء » بتاء المخاطبة فيهما : ورويت عن أبي عبد الرحمن : «نفعل » بالنون . «ما تشاء » بالتاء ، ورويت عن ابن عباس . فأما من قرأ بالنون فيهما ف { أن } الثانية عطف على { ما } لا على { أن } الأولى ، لأن المعنى يصير : أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ وهذا قلب ما قصدوه . وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف { أن } الثانية على { ما } لا على { أن } الأولى ، قال بعض النحويين ، ويصح عطفها على { ما } ويتم المعنى في الوجهين .
قال القاضي أبو محمد : ويجيء { نترك } في الأول بمعنى نرفض ، وفي الثاني بمعنى نقرر ، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي أو على حذف مضاف ، ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع ، وأما من قرأ بالنون في «نفعل » والتاء في «تشاء » ف { أن } معطوفة على الأولى ، ولا يجوز أن تنعطف على { ما } لأن المعنى - أيضاً - ينقلب ، فتدبره .
وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره ، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، قاله بن كعب وغيره ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض ، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم ، وتؤول أيضاً بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس .
واختلف في قولهم : { إنك لأنت الحليم الرشيد } فقيل : إنما كانت ألفاظهم : إنك لأنت الجاهل السفيه ، فكنى الله عن ذلك وقيل : بل هذا لفظهم بعينه ، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء - قاله ابن جريج وابن زيد - وقيل المعنى : إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك . وقيل : بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه ، فكأنهم فندوه{[6472]} ، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر ، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة ، حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا إخوة القردة » ، يا م
حمد ما علمناك جهولاً{[6473]} .
قال القاضي أبو محمد : والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه ، وبين ما بادر به محمد عليه السلام بني قريظة .
كانت الصلاة من عماد الأديان كلّها . وكان المكذبون الملحدون قد تمالؤوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها { أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون } [ الذاريات : 53 ] ، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلّغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد قصداً للتهكم به والسخرية عليه تكذيباً له فيما جاءهم به ، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علِم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر> والمعنى أنّ صلاته تأمره بأنهم يتركون ، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم . إذ معنى كونه مأموراً بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء .
و { ما } في قوله : { ما يعبد آباؤنا } موصولة صادقة على المعبودات . ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل { يعبد } . ويجوز أن تكون { ما } مصدرية بتقدير : أن نترك مثل عبادة آبائنا .
وقرأ الجمهور « أصلواتك » بصيغة جمع صلاة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف « أصلاتك » بصيغة المفرد .
و { أوْ } من قوله : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } لتقسيم ما يأمرهم به لأن منهم من لا يتّجر فلا يطفف في الكيل والميزان فهو قسم آخر متميّز عن بقية الأمة بأنه مأمور بترك التطفيف . فقوله : { أن نفعل } عطف على { ما يعبد آباؤنا } ، أي أن نترك فِعْلَ ما نشاء في أموالنا فنكون طوع أمرك نفعل ما تأمرنا بفعله ونترك ما تأمرنا بتركه .
وبهذا تعلم أن لا داعي إلى جعل { أو } بمعنى واو الجمع ، كما درج عليه كثير من المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفاً على { نترك } فتوجّسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري . وتأوله بوجهين : أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة ، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل { تَأمرك } وكلاهما تكلف . وأما الأكثر فصاروا إلى صرف { أو } عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك . وسكت عنه كثير مثل صاحب « الكشاف » . وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به .
وجملة { إنك لأنت الحليم الرشيد } استئناف تهكم آخر . وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف ( إنّ ) ولام القسم ، وبصيغة القصر في جملة { لأنت الحليم الرشيد } فاشتملت على أربعة مؤكدات .
والحليم ، زيادة في التهكم : ذو الحلم أي العقل ، والرشيد : الحسن التدبير في المال .